صفحات الثقافة

الأيام السبعة للوقت… إلى رامي ورفاقه في الثورة السورية


نوري الجرّاح

I

لا أعرف إن كان مشرِّفا أن يكتب الشاعر قصيدة في زمن القتل

لكنني لا أملك شيئا آخر سوى الكلمات..

دمُ مَنْ هذا الذي يجري في قصيدتكَ أيها الشاعر؟

عمياءُ قصيدتُك

وصوتُكَ أعمى

لكنَّ الهواءَ يُهَدْهِدُ السَّهلَ والعشبَ يهمسُ للقتيل.

القمحُ يتطاولُ

ليرى

ارتجافَ الهضبةِ.

عُنُقُ الحاصدِ جرحُ المحراثِ.. من خاصرةِ الفراتِ إلى مغارةِ الدَّمِ في كتف قاسيون.

المَرْكَباتُ تفحُّ، وتعبُرُ

المَرْكَباتُ تعوي

الجنازيرُ الضخمةُ تتركُ بصماتِها على إسفلتِ القرى،

المَرْكَباتُ العمياءُ تُرسِلُ الحِمَمَ إلى صورِ العائلة،

الأمهاتُ يُهرعن بالصِّبْيَةِ من حائطٍ إلى حائطٍ، ويخبِّئن العذراءَ في ركامِ الستائرِ

جدرانُ الطِّينِ تتهاوى وسنابلُ الصيفِ تَتَقَصَّفُ…

صيفٌ مضى وصيفٌ تهيأ،

وصيفٌ وسيمٌ بياقةٍ داميةٍ حَمَلَتْهُ إلى البيتِ رياحٌ عاتية.

السلكُ في يد المراهق لم يَطُل

والجَدُّ المَقْنُوصُ

في عرضِ الطريقِ

يَنْتَفِضُ

لا مزيدَ منَ الشُّبانِ هنا،

ضرسُ الموتِ مَضَغَهم وتَفَلهم إلى ما وراءَ الهضبةِ.

أنا لا أكتبُ قصيدةً لكنني أمزِّقُ يدي في الورق.

II

دَمُ من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر؟

من بقيَ هنا،

لينزُفَ

من بقيَ هنا

ليقرأَ ما كَتَبَ الأُفُقُ في الصحائِفِ

وما تَرَكَ شاعرٌ في القصيدةْ.

غيومُ الأطفالِ تسافِرُ

والهَضَبَةُ تُلَوِّحُ

الصُّوَرُ تَرْتَجُّ وتَغْرُبُ في العَين، والفتى الذي شَقَّتِ القِيعانُ طولَهُ، مستلقياً، دامياً ينتظرُ يَدَ أبيهِ.

الصُّورُ تَغْرُبُ في الصُّور، ابتسامة من مضى ليقطف التوت في صيف مضى..

لكن الخَدَرَ يحتضنُ الفتى، الخدرُ يعيدُ الفتى الضاحك إلى يد أبيه.

الأفق هشيم،

والمطر يلاعب صحون الأطفال.

قال الممثل كنت قبل اليوم بلا صوت

ومسرحي معلق في ستارة

ملابسي سرقها الموتى

وصوتي

غاب

في

البئر.

قالت طفلةٌ: كنتُ بلا عينين

والآن

صِرتُ فراشةً.

الرياضيُّ صَرَخَ: دمي صوتي..

ودحرج في ممر الموت عربةَ الهتاف

والصَّبي بادلَ النهارَ بابتسامته

وفي البستان حيث سقط كوكبٌ

وتشقَّقتْ تحت خطى دامية أرضُ المسرات.

قال فلاحٌ لصبي كُسرتْ رأسُهُ على صخرةٍ

إنني أسمع رجفةَ الشتاءِ في رُكبتي.

والآن،

جسده مستريحٌ في طلقة الجندي.

وصلت شاحنة كانت بالأمس تحمل البطيخَ والآن: عائلات نائمة في أكفان حمراء وفلاحون صاروا حفارين، وقبور قبور قبور..

كانت وجوه الرجالِ في الأرياف البعيدة مكشوفةً عن ابتساماتٍ لرجالٍ

والآن،

الأطفالُ يقفون في الصُّور

مقنَّعينَ

والموتُ يطوفُ بجرابه على الأطفال.

III

دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر

وفي المتبقي من الزمن، شقيقي الذي شقَّ الغروب رأسه،

دمه يقطر في ملابسي

دم من هذا؟

وظهره الذي تقصف جهة الغرب يقطر حمرة وغروبا.

دَمُ مَنْ هذا؟

دَمُ مَنْ هذا؟

قُلْ للرصاصِ أنْ يهدأَ قليلا

ريثما يكتب الشاعرُ قصيدَتَه ويفتح نوافذَها

ويحمل الآسَ إلى جسدِه المسجَّى..

ريثما تجمعُ امرأةٌ غسيلَها،

ريثما يعودُ طائرٌ من غابةٍ

وتنزِّهُ العينُ نظرتَها في جسدِ النَّهار الحي.

IV

دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر؟

دم من هذا الذي ينِزُّ من جثمان النهار

دم من هذا؟ دم من؟

وركبةُ الوقتِ مشطورةٌ،

والهواءُ

عصفٌ وراء عصفٍ وراء عصفٍ

والصُّور شفارٌ تأكلُ الواقفينَ في الصُّور

الجنود ينحنون على البنادق والموت يتلفت.

قال شهيدٌ أسلَمَ الترابَ شهيداً

كُنْ دليلي في الطريق إليه

ولا تتأخر كثيراً

وكُنْ سندي في الرواية يوم يكذبُ المؤرخون

كُنْ صاحبَ البيتِ

وارو الروايةَ كاملة:

اللصوصُ أضرموا النار في بيت أبي

اللصوصُ سرقوا وجنةَ أختي ويدَي أخي

اللصوصُ قتلوا أبقاري وقادوا حميري إلى بركةِ الدم

اللصوصُ انتهبوا قمرَ الصَّيفِ

وفؤادَ المسافرِ

اللصوصُ ربطوا الأخوات الصغيرات بأمراس الحقل

وكسروا على حجرِ البئرِ جمجمةَ المراهق.

اللصوصُ هتكوا ستارةَ الحلمِ،

ومشّحوا بدمِ الفجرِ قمصانَ نومِ البنات.

ولما تساقطتِ الحجبُ، رأيتُ ما رأيتُ كان وجهكَ القاتلُ يملأُ وجهي

أهذا أنا

أم عدوي؟

في الحقل صرختُ فيكَ، ونَظرنا الأيامَ تُبَدِّلُ ثيابَها

والزمنَ يتسرَّبُ من الأيدي

في الحقل صرختُ فيكَ وفي الجبلِ صرختُ

وفي المدينة لمَّا نزلنا

عيناكَ رأيتُهما زائغتين.

ها إن يدَك التي كبُرتْ واخشوشنت

تتلطَّخُ بدمي.

أخرجُ من بابٍ وتَخرجُ من بابٍ

لا أكون صورتَكَ ولا تكون صورتي

وأناديكَ:

تعالَ وخذْ ما أخذتَ

وباليد البلهاءِ، أودع البلطةَ في الظهرِ والعتمةَ في هاويةِ القلب.

تعال يا من تماديتَ حتى تكون ابن أمي

وأبي

وتكونَ أختي

وابنتي

وتكونَ جنازتي.

يا صاحب اليد التي لهتْ

بالالوان

قرب يدي

ومعا رفعنا حجرَ الطفولةِ عن عقربِ الزمن.

V

دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الأعمى؟

ولماذا أخرجُ من حكايةٍ وأدخلُ في حكايةٍ؟

قالَ شاعرٌ رأى أمَّهُ في السرير

عاريةً

ومطحونةَ الوجهِ:

أهذه أمي غداً أم شجرةٌ عجفاءُ؟

ومن هؤلاء المشيعون يخرجونَ من بابٍ في مئذنةٍ

ولا يخرجونَ من حانةٍ أو مكتبة!

وشاعرٌ رأى نجمةَ الصبحِ دامية

قال:

لا أذكر إن كانتْ نجمتي!

وشاعرٌ ظلَّ ثلاثينَ حولا يجرُّ صليباً في كتابٍ

ويوهمُ إخوتَه أن المسيح الموجع يسكن رأسَه الموجع

اللصوصُ الذين خرجوا من شِقِّ في حائطِ العدمِ مزَّقوا صفحةَ الهواءِ وغمروا النوافذَ بالموت.

لمنْ آلتْ قصيدتي قالَ شاعرٌ

ولم يُبق الرصاصُ حياً سوى الصمت؟

تتقصَّفُ المئذنةُ الصائحةُ ويتلو الشهيدُ شهادَته

على أخٍ أَتَمّ شهادتَه

على أمِّ طوتْ أبناءَها السبعةَ في كتابِ.. وخبَّأته من العين.

ما من أحدٍ غيرِكَ

ما من أحدٍ غيرِكَ

في هذه الجمعةِ وفي كلِّ جمعةٍ حتى صارتِ الأيامُ السبعةُ للوقتِ.

درجاتٍ في الترابِ ودرجاتٍ في الهواء

حصَّةُ الشهداءِ من الشهادة:

لا أحدَ غيرَك.

VI

دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر؟

وهو دم.. ريثما يكتب الأعمى وصيته ويفتح نوافذها للمطر

ريثما يدخل الشهداء ويدخنون أمنياتهم الأخيرة

ريثما تخرج امرأة من زقاق وفي يديها صبي تقصّف كالسنبلة.

دم في المدينة، دم في البليدات الصغيرات في ريف الفقراء

دم على ثلم الفلاح، على سكة المحراث يشق جمجمة الغيب، ويقرأ طالع النهار.

دم يصرخ في حنجرة مشطورة والغراب بجناحين متعاظمين يلطم الشقيق بدم الشقيق.

دم على أمنية العابر، على خيبة الهارب، على عار المتفرج

على صمت المفكر يقلب أفكاره ويبلل مقولاته بدم الصِبية

وفي يوم غد آخر يقرأ الجثامين في ضوء الفلسفة.

دم على أمس القاتل ويومه وغده

دم على سرير المضاجع زوجته غصباً عن فؤادها الكسير

دم في موعد الحب، دم في اضطراب الخطوة المضطربة

دم في صحون الطعام

دم في بلاغة الصوت

دم في التفاتة الغريب، في هواء النهار

دم في كلمة الحب

في حزن المسافر

في هروب القرى وراء تلال أخرى

في النوافذ مهجورة والشعاع منكسرا.

دم الشقيق في بلطة الشقيق.

VII

دم من هذا؟ دم من هذا أيها الشاعر؟

وهو دم في المسافة منظورة عن قرب ومنظورة عن بعد

دم في نظرة العين، وفي حسرة الناظر.

الأم تطبع قبلتها الصباحية في الجبين البارد

ذهب يكتري العجلة ورجع بلا وجه

دم في أسياخ العجلة، دم في حليب الصباح

في ماء الظهيرة، في خيول العربة،

وفي نشرة الطقس دم طوال النهار، والسماء التلفزة الجائعة.

VIII

دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر؟

حبالُ الغسيل تَقْطُرُ والغروبُ يَسْفَحُ حمرَته على البيوتِ

الإخوةُ المولودون في الأوقات يملأون السماءَ بالهتاف

ما من أحدٍ غيرِكَ

ما من أحدٍ غيرِكَ

على أيديهم الأصغرُ

عاليا

رفعوه

وكفَّنَهُ صَوْتُه

جسدُهُ الضّاجُ أشْعَلَ حنجرةَ المغني:

منكَ وإليكَ

منكَ وإليكَ

دمٌ في غفلةِ المنعطفِ، في نَمَشِ الصَّبي، في ابتسامتِه المدرسية،

في كتابِ المعلِّمِ، في سؤالِ الصباح،

دم في بُحَّةِ المراهِقةِ، دمٌ في هسيسِ الماء

دمٌ على الأشجار نستْ من مرَّ ومن سقطَ ومن صاحَ من ألم…

دمٌ على رداءِ الشَّمسِ، وخيوطُ النهارِ ممزقةً كما لو كانتْ جرما تهتّك.

لسعُ دمٍ ولسعُ رصاصٍ لسعُ أصواتٍ جارحة ٍ

والكلماتُ مقيدةً بسلاسلِ الكلمات.

العينُ الغريقةُ

في صورةٍ

اغرورقتْ بالدمِ

خذْ هذه الصورةَ من عيني، وخذْ جرحَ العينِ.

المئذنةُ تتقصَّفُ وتهوي في سورةِ الفاتحة

وطوالَ النهارِ

طوالَ النهارِ

يداي مبلولتان وخبزي مبلَّلٌ بالدمِ

وكلماتي تنظرني.

دم من هذا الذي لطخ يديك وكلماتك أيها الأعمى؟

أنا لا أكتبُ قصيدةً لكنني أشمُّ القميصَ لأبصرَ.

ما بين نيسان (ابريل) 2011 ونيسان 2012

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى