الإبداع المتخَنْدق/ دلال البزري
لا حدود للفنون خادمة البلاطات، قديماً وحديثاً. لا حدود لإنتشار هكذا فنون؛ خصوصاً إذا كان صاحب البلاط يشاطر جهابذة التسويق عبقريتهم. ساعتها، لك أن تفرز وتقيس وتدقق، فتخرج برصيد ضخم، أين منه عشق النازيين للفن التشكيلي، أو هوس الخلفاء والسلاطين السفاحين العرب بالشعر. والإثنان، النازيون والخلفاء، لم يبخلوا بجهد في القتل المتعمد.
وقد عاصرنا في شبابنا إبداعاً آخر، هو سليل ما سبقه: “الفن الواقعي”، الخادم للفكرة الإشتراكية “الواقعية”، أو الفن “الملتزم”، الذي عرفنا أطواره المتشابهة مع مرحلة من شبابنا هذا، كانت القضية الفلسطينية فيها محور القيم العادلة. من وعظ السلاطين وحتى تبني القضايا العادلة أو غير العادلة أيضاً، كان الإبداع الفني مطوقاً، خاضعاً لإعتبارات غير جمالية، غير إبداعية، كل مددها هو مدى تطابقها مع العقيدة العادلة، أو “المناخ” السياسي الذي وضعها في صدارةٍ، لا تستحقها هذه الأعمال في أوقات، أو أمكنة أخرى. هذا لا يعني بأن الفنون الواقعة تحت وطأة “الإلتزام” أو “الوعظ السلطاني”، كانت كلها رديئة. عباقرة كثر ومبدعون انضبطوا بأسرهما، وكان إنتاجهم، مع ذلك، ملفتاً، “خالداً”، نابعاً من زمن هو “ذهبي” على الدوام. فيما الصعاليك الذين خرجوا من هذا الضبط لم يكونوا جميعاً على مستوى أعلى من الإبداع في إنتاجهم. وهذه مسألة برسم نقاد حقيقيين، لا أعضاء شلل ثقافية-سياسية، يبحثون وكأنهم مطوقون، محرومون من حريتهم الإنسانية الأساسية…
المهم الآن أن الإبداع خرج عن طور الإلتزام بالقضية أو وعظ سلاطين، أو انه أضاف له نمطاً آخر. صار الإبداع متخَنْدقاً. خلف كل معسكر من الأفرقاء المتخاصمين، هناك رهط “جماهيري”، يبدو وكأنه يعمل بقانون غير مصاغ؛ قوامه انه هو “ضد” أو “مع” هذا الفنان أو ذاك، هذا الشاعر أو ذاك، هذا المبدع أو ذاك. لا يدقق في ما أنتجه هؤلاء، وإذا “قرأه”، كان أشبه بسلفي يقرأ القرآن: بعيون تبحث عن حقائقها هي وليس شيء آخر، سرّ آخر، نوتة أخرى… فيما قائد هذا الرهط، مثل “أمير” جماعة، “زعيم ثقافي”، يمتلك ملكات نقدية أو موضوعية أو جمالية، متأصلة منذرة نافذة… الخ.
هكذا، شاهدنا في العامين الأخيرين، مبدعين يجَرّون إلى الوحل، يجرّدون من صفاتهم الإبداعية، تمزق أعمالهم أو تُعلن ببساطة “وفاتهم” المعنوية… لمجرد انهم من المؤيدين للمعسكر الخصم. وبالعكس أيضاً: ترى مبدعين من المعسكر الآخر وقد بلغوا مرتبة شبه إلهية، ورفعوا الى أبعد السموات؛ فوجب على المعجبين الأشداء بهم الإستقواء بأعمالهم، دعماً “فنياً” أو “فكرياً” لمعسكرهم.
الشدة والبأس في الموقفين، يمكنك معاينتهما في شبكات التواصل الإجتماعي: فكلما كان الهجاء شرساً، رثاً وقاسياً، على الغريم الإبداعي، انهمرت مئات “اللايكات” على صاحبها؛ ما يخلق لدى سعيد الحظ بها حالة من “التأييد” وعدم التأييد، تتحول بنجاح الى “حالة سجالية”، تغطي الشبكة بعون آخر الكلام؛ الذي، بدوره، لا يتسبّب في شيء قدر تسبّبه بالصخب والتشوش والقرف من الأحرف والألحان والألفاظ. وإذا ما ذهب “الزعيم الثقافي” أبعد من ذلك، أو أراد كسب شيء من الإحترامية، أعطى إسماً مهيباً لهذا “السجال”، وقال عنه انه “معركة فكرية” يخوضها طرفه ضد الأشرار الذين يقفون في المعسكر الآخر… فأراد هو إنقاذنا من ظلامياته بالغوص في هذه المعركة… من أجلنا، من أجل مستقبل أولادنا…. الخ.
والحال، اننا لسنا في صدد الإثنين، لا “السجال” ولا “المعركة الفكرية”. نحن بصدد تخَنْدق ثقافي-شخصي، يستمد كل طاقته من التخَنْدق السياسي، ولا يجد مورداً آخر لمقارباته سوى ذاك الإنقسام الوطني العظيم. واضح هو العمى الإنساني، قبل الثقافي أو الفني، الذي يمكن أن يحدثه التخَنْدق الثقافي.
بوسعنا من الآن توقع أضراره على الذائقة الفنية. فالإنقسام الفني على أساس سياسي لا يخدم قضية أو سلطاناً أو ميراثاً حضارياً، ولا يخدم بطبيعة الحال، إبداعاً. فقط يخدم الوقوف وبـ”صلابة وثبات” على الخط عينه. وهذا نوع من المعاندة الثقافية التي تلتهم الطاقات الإبداعية من دون أدنى وعي بكيفية هذا الالتهام. فقط الوقت، الوقت وحده، يمنحنا القدرة على التوصيف الدقيق لعقم هذه المرحلة من الفن، بوصفها مرحلة التخَنْدق.
المدن