صفحات الثقافةهيفاء بيطار

الإجماع على إذلال السوريين/ هيفاء بيطار

ما يحصل في سوريا من مجازر ودمار وأهوال يبدو للكثيرين غير بشري، فتلك الجرائم الفظيعة تبدو خارج مقدرة البشر وطاقاتهم، كما لو أن الشر المُطلق النقي والخام قد استنسخ من نفسه مُسوخاً تقوم بكل هذه المجازر، والمؤسف أن كل سوري صار واعياً أم لاواعياً ينتظر أحداثاً إجرامية فوق العادة وتفوق قدرته على التصور بدل أن ينتظر خلاصاً! لم يعد من سوري يثق بالخلاص من الجحيم، بل كل ما يفكر فيه هل سأنجو من قنص أو قتل؟ هل سيبقى فوق رأسي سقف يحميني من غضب السماء والأرض؟ ليس القتل الوحشي المبذول بسخاء في سوريا هو ما يُسمم حياة السوريين المتبقين على قيد الحياة حتى إشعار آخر، بل أساليب المعاملة التي لا يُمكن تفسيرها ولا إيجاد مبرر لها سوى إذلال السوريين. اضطررت منذ أيام أن أسافر إلى بيروت عن طريق حدود الدبوسية لأن حدود العريضة كانت مُغلقة كان الازدحام فظيعاً على الحدود لدرجة أن السائق انفجر بنوبة غضب ولعن ساعة موافقته على السفر، فوجئت أن رسم بطاقة الخروج من سوريا إلى لبنان قد قفز من 500 ليرة سورية إلى 1200 ليرة سورية! ووقفت في الطابور بانتظار ختم موظف الأمن السوري، كان برفقتي صديقة من طرطوس رافقتني في السفر، ووجدتني أهدر الوقت بتأمل أفواج النازحين يهيمون على وجوههم تحت شمس آب اللهاب، ولن أنسى منظر طفلتين أختين إحداهما في التاسعة من عمرها والأخرى في الثالثة، الكبرى تحمل الصغرى وتسير ببطء وقد تحول شعرهما إلى ما يشبه القش من كثرة ما أحرقته الشمس، ولدهشتي كانتا تلبسان ثياباً بالية من الصوف، لم أستطع منع نفسي من الفضول فهرعت إليهما وسألت الأخت الكبرى: من اين أنتما؟ ردت: من ريف حلب. كانت وأختها مُخدّرتين من التعب والذهول، كما لو أنهما لا تفهمان ولا تستوعبان لماذا تهيمان على وجهيهما مع أم أرملة تفوقهما ذهولاً وتعباً وتحمل صرة صغيرة في يدها، وحين ربتُ على كتف الصغيرة وسألتها ألا تشعرين بالحر بسبب ملابسك الصوفية؟ ردت بسخرية: ما عندي غيرها. صرخت بي صديقتي أسرعي جاء دورنا، وقفنا مقابل موظف الأمن متجهم الوجه الذي ما إن قدمنا له بطاقتي الخروج حتى انفجر بوجهينا صديقتي وأنا – ورمى البطاقتين بنزق في وجهي قائلاً: إذهبي واشتري بطاقتين غير هاتين البطاقتين. وبذلت جهداً جباراً كي أجبره أن يجيب عن سؤالي: لماذا علينا أن نشتري بطاقتين! فردّ بنزق أكبر: لأنكما كتبتما بالحبر الأزرق، ألا تعرفان أنكما يجب أن تكتبا بالحبر الأسود. يا سبحان الله! يا للحجة الدامغة المُقنعة! وبمجهود أسطوري وعزيمة جبارة وإصرار ما بعده إصرار أجبرته أن يجيبني عن سؤالي: طيّب ما الفرق بين الكتابة بالحبر الأزرق أو الأسود؟ وإن كان لا بد من الكتابة بالحبر الأسود ربما ليتماشى اللون مع حياتنا التي صبغ اللون الأسود كل تفاصيلها، فلماذا لم ينبّهنا الموظف إياه الذي اشترينا البطاقات من مكتبه ورآنا نكتب بالحبر الأزرق؟ صرخ بي من دون أن يبالي أنه يتكلم مع سيدة يقتضي الحد الأدنى من اللياقة أن يعاملها بلطف: لا تبددين وقتي قلت لك هذه البطاقات لا تمر يجب أن تكون بالحبر الأسود. كان مئات السوريين حولي يتفرجون على مشهد الإذلال بعيون مُتعبة، وأمكنني أن أشعر بمشاعرهم، كما أمكنني أن أحس بتعاطفهم، كلنا في الهوا سوا، كلنا نشعر أيه لعنة مُسلطة على حياتنا، فكرت بمهزلة عيشنا ووجدتني أصرخ ليس بوجه الموظف المُتجهم بل بوجه العالم كله: لماذا هذا الإصرار على إذلال السوريين، ماذا لو صدر قرار بضرورة الكتابة على بطاقات مغادرة الأراضي السورية والدخول إلى الأراضي اللبنانية باللون البنفسجي أو بالأخضر، عندها سيشعر كل مواطن أنه وزير! فالوزراء وحدهم يخربشون بالقلم الأخضر، أو ربما يصدر قراراً بأن يُكتب كل حرف أو رقم بلون مُختلف؟ مهلاً يصدر القرار من دون أن يعرف المواطن، هكذا تكون الحياة مُثيرة اكثر، إذ لم يتبق للسوري من إثارة وتجديد في حياته سوى إثارة الخوازيق اليومية، القتل، الدمار، غلاء الأسعار الأسطوري، الانهيار المُروع لليرة السورية، تعقيدات السفر، كل سوري يشعر أنه يعيش في قفص، بتعبير أدق في قن للدجاجات، لا يعرف متى سيكون دوره في الذبح كما الدجاجة المهم لا بد من الاعتراف أن ثمة مُعجزات تحصل في سوريا، إذ وجدت السائق يتدخل ويرجو موظف الأمن أن يسامحنا على جرم غير مقصود وهو الكتابة على بطاقة الخروج بالحبر الأزرق، ويا للعجب رد الموظف: القانون لا يحمي المغفلين! ورغماً عني ضحكت من تلك المهزلة المُتكاملة التي نسميها عيشنا! لكن السائق استمر في الترجي والتذلل وقال للموظف: هذه المرأة طبيبة عيون يمكنها أن تقدم لك ولأسرتك خدمات كثيرة، وتحققت المعجزة وقبل البطاقتين، فكرت وأنا أعبر الحدود مهدودة القوى من الإحساس بالذل أكثر من حر آب اللهاب الخانق، وصورة الأختين الطفلتين بالكنزات الصوفية تهيمان على وجهيهما لا تفارق خيالي: هل حقاً المشكلة في الحبر الأزرق أم الأسود؟ ! أيه تفاهة لا يقبلها العقل ولا المنطق أن لا تُقبل مجرد بطاقة أشتريها على الحدود لمجرد أنني كتبت بالأزرق بدلاً من الأسود؟ وهل يحتمل الجحيم السوري هذه التفاصيل التافهة؟ وإذا كان الإصرار على تأليه اللون الأسود في سوريا وتطبيق القانون وعدم خرقه، ومحاربة الفساد خاصة حين يتجاوز المواطن القوانين، فلماذا سمح لنا الموظف إياه بالمرور بعد أن استجداه وتذلل إليه سائق في عمر أبيه؟ هل الغاية دفع ضريبة لا بد منها من الذل اليومي كي يعيش السوري حياة فاقت جحيم دانتي بقسوتها، وفي لبنان الشقيق، أي عار أن تقرأ بعض اللافتات «ممنوع تجوّل السوريين بعد السادسة مساء»! أنا لا أتهم بالتأكيد كل اللبنانيين بتلك العنصرية المخجلة والمُهينة، لكن وجود لافتات كهذه يدل على أن شريحة من اللبنانيين ترفض رفضاً صريحاً مد يد العون والمساعدة لإخوتهم السوريين، ويتعمدون إهانتهم وإذلالهم، أي إحساس مُهين حين يرفض كل الصرافين في لبنان الليرة السورية، بل ما أن يمد لهم السوري بأوراق العملة السورية حتى يسارعوا للرفض القاطع. بحجج عديدة لا يهم تفنيدها. ألم يعرض تلفزيون الجديد صور الضابط اللبناني يملك سوطاً أو حزاماً يسوط به السوريين الواقفين لساعات في الحر والعراء كي يدخلوا الأراضي السورية ليعيّدوا مع أهلهم وليتفقدوا بيوتهم، إن كانت لا تزال بيوتاً أم صارت أنقاضاً، ألم ير العالم كله كيف ينهال سوط الضابط اللبناني على أجساد مواطنين سوريين؟ سيُقال إنها حالة فردية واستثنائية كالعادة، لكن لو كانت حالة استثنائية فكيف نفسر وجود موظف لبناني وحيد يسير أوراق كل هؤلاء المواطنين السوريين، بينما المقاعد بجانبه خالية، أين بقية الموظفين؟ أليست الغاية إذلال السوري وتركه ينتــظر ســـاعات على الحدود.

في كل سفر أتأمل بقلب مُنكسر كيف أن حياة السوريين تسير إلى الهاوية، هاوية بلا قاع، كل سفر تكون جرعة الذل أكبر وأكثر تنوّعاً، كما لو أن غاية العالم كله ليس تدمير الحجر فقط، بل كسر أناقة الروح وكرامتها وتمريغها في وحل الذل، إن ما يتحمله السوري يفوق الوصف، إنه بكل بساطة حرب شعب عظيم وأعزل وممتلئ كرامة وتوق للحرية مع طاقم مخيف ومرعب ممن يسمّونهم صناع القرار.

(كاتبة سورية)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى