“الإخوان” بين القداسة والسياسة
طيب تيزيني
بعد سقوط مبارك أخذ يذوب الثلج، ويبان المرج، وتُطلُّ في هذا وذاك مرحلة ليست جديدة تماماً فيما يتصل بالإشكالية الإسلامية المطروحة، ولكنها تتضمن جديداً على صعيد الحامل الاجتماعي والسياسي والثقافي. وإذا كانت هنالك أطياف وأطراف متعددة ضمن هذا الحامل المذكور، فإن اللون الغالب على هذا الصعيد هو الإسلامي السياسي، وفق ما جاء في إحصائيات قُدمت مؤخراً. والحق، إن ما ينبغي الإقرار به هو النتائج التي انتهت إليها انتخابات جرت مؤخراً في مصر، حيث ظهر أن “الإخوانيين” الإسلاميين نالوا النتائج الأعلى مما حصلت عليه أطراف أخرى. وهذا ما سمح بترشيح شخصيات من هؤلاء “الإخوانيين” إلى منصب رئاسة الجمهورية، إلى جانب آخرين من تيارات واتجاهات أخرى تعجُّ بها الحياة السياسية في مصر.
وفي سياق تلك التطورات السياسية والثقافية والدينية، التي سبقت المرحلة الراهنة والأخرى المعيشة الآن بما تنطوي عليه من نتائج، وإضافة إلى ما حدث من تغييرات اقتصادية واجتماعية جلبت معها الكثير من البؤس والإفقار والفقر في أوساط “الغلابا” خصوصاً، في سياق هذا جميعاً، حدث تراجع عميق في بنية مجموع الطبقات والفئات والأجيال، عدا النُّخب العليا مالكة الثروة والحائزة السلطة والامتيازات المختلفة. وقد انعكس ذلك بوضوح، على مستوى الشعب المصري المعيشي الاقتصادي والثقافي والإيديولوجي، فكان ذلك بمثابة مزيد من التمكين للإيديولوجية الدينية الإسلامية. فهذه الأخيرة التي انتشرت بوتائر ملحوظة في المجتمع المصري، قامت على مجموعة من الالزامات التي أخذت طابع الدعوة إلى الخلاص عبر الإسلام. وكان ذلك بمثابة إدخال الإسلام في حقول أسئلة من النمط التالي: كيف نؤسس “من جديد” لإسلام ظهر وازدهر في قرون خالية؟ كيف نستعيد النموذج الإسلامي من القرن الأول بل من بواكيره الأولى؟
وكان ذلك ذا مصداقية اجتماعية، ولكنه ظهر معقّداً حتى حدود مديدة مفتوحة حين يتجه لمحو الحقل السياسي. وأفصح ذلك عن نفسه، حين حرص إسلاميون على استنباط الجزئي والمحدد من الشمولي والعام، مع تأكيد على أن هذه المهمة تتصل بأخذها بوصفها حالة “مقدسة” لا يجوز التصرف بها خارج “قداستها اللاهوتية”. وجاءت ثالثة الأثافي، حين أصرَّ الآخِذون بذلك، على أمر خطير هو حظر وتأويل النص الديني أو في التشكيك بصوابيته وصِدْقيته. ذلك، لأنه، كما أعلن أحمد بن حنبل في كتابه “الردّ على الزنادقة والجهْمية”، لا يجوز الأخذ بالتأويل لأنه “أمر مظنون بالاتفاق”، ولأنه لا يدخل في دائرة “الحقائق القطعية”. ومن ثم، فالنص الديني القرآني أمر ينبغي أن يُؤخذ بـ”ذاته” بعيداً عن تفسيره وتأويله بمقتضى العقل والفهم البشريين. وبكلمة أخرى، ذلك النصّ عصيٌ على الفهم الإنساني العادي، لأنه -والحال كذلك- مقدّس والمقدّس مطلق لا يستجيب للنسبي والقابل للتغيير.
سنجد أنفسنا أمام النتيجة التالية: سيعلن بشر دون غيرهم من الناس، أنهم أدركوا المعاني “الحقيقية الخفيّة” للنص، بحيث يعلن المرء أو الباحث أن المقاصد الإلهية للنص تتماهى مع فهم هذا الفريق أو ذاك له. والنتيجة العظمى التي ستنطلق من هذا الفهم للمسألة هي التالية: إذا خالف أحدُهم ذلك الفهم لفقيه أو مسلم ما، فإنه سيكون محتملاً أن يعلن هذا الفقيه بأن مخالفة شيء ما في ذلك إنما هي مخالفة للنص نفسه: وهذا غير صائب، لأن أفهام الناس قد تختلف، مِما يستدعي اللجوء إلى التبصّر العقلي، أي إلى أدوات البحث العلمي ومنها التفسير والتأويل. وعلى هذا، يمكن أن يُحوّل ذلك إلى قاعدة فقهية تقول: إذا خالف فريق فريقاً آخر يعلن أنه هو الذي يملك الفهم الصحيح للنص، فإن ذلك يعني أنه إذا سُحب ذلك على الحياة العامة والسياسية من ضمنها، فإن المخالفة في المواقف السياسية تتحول إلى مخالفة دينية. وهنا يبدأ الخطأ وتظهر الظلامية الفكرية والسياسية، إذن، لابد من فصل الواحد عن الآخر فصلاً متعقلاً، وهنا الإشكال لدى علاقة “الإخوان” بالآخر.
الإتحاد الاماراتية