الإخوان والفرصة الضائعة
عبد الحميد سليمان
هل نثق بالجيش المصري؟ لا أعلم، ربّما لأنّ الجيوش هي من وضعنا هنا في بداية الأمر؛ نسفها للحياة السياسية التي كانت قائمةً بعد الاستقلال، ووأدها للحبو الديموقراطي الأول حينها يبدو أمراً عصيّاً على التناسي، كذلك يصعب غضّ الطرف عما فعله المجلس العسكري الذي تشكل عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير، كان بوسعه أن يجنب البلاد الكثير من التخبط لو أنّ رجاله أخلصوا النيّة حقاً، كان باستطاعتهم تسليم السلطة “سريعاً” إلى مجلس رئاسةٍ مدني، أو حتى إلى القضاء، ولكنّهم آثروا ألا يفعلوا أيّاً مما سبق، زد عليه تباطؤَهم الذي بدا في أحيانٍ عدة مُتعمداً، وكذلك ظهور بعضهم خارج البزة العسكرية. الأمر أثار شكوكاً مبررة حول نواياهم، تواجد العسكر خارج الثكنات على أي حالٍ يشبه تواجد رجال الدين خارج دور العبادة، كلاهما يستحضر بواعث قديمة على القلق والريبة.
لكنّ الإسلام ليس الحلّ أيضاً، هكذا يجدر بهؤلاء المؤمنين بحرية الأفراد وحقّهم المطلق في تقرير مصائرهم أن يقولوا؛ الإسلام ليس حلاً لركام الطغيان الذي تعانيه مصر وسواها من بلدان المشرق الملعون بالطغيان، ربّما لأنّ الإسلام كصيغةٍ حضاريةٍ مجتمعية حُبلى بالتنوع، أو حتى كنمطٍ في العيش خاضعٍ بطبيعة الحال للحاجات التي تضطر الحياة الناس عليها، هذا الإسلام لا يطرح ذاته بديلاً عن الحياة ذاتها، هو خاضعٌ لها بهذا المعنى وليست هي خاضعةً له، لكنّ المعضلة تكمن في الإسلام السياسي الذي يريد كما أرادت القومية العربية “السياسية” قبله، أو حتى كما أرادت الماركسية “السياسية” قبل الإثنين، تعليب الحياة في الإيديولوجيا، ومن ثمّ تعليب حيوات الأفراد في رؤى نُخبٍ بعينها للحياة بغض النظر عن حاجاتهم، وهذا طغيانٌ يأكل الإسلام قبل سواه، ربّما كما أكل العروبة كثقافةٍ طبيعية لشعوب المشرق، أو حتى الماركسية كنظرةٍ نقديةٍ لتطور النوع الإنساني.
لقد ارتكبت حركة الإخوان المسلمين في مصر خطايا بحقّ ذاتها أولاً، وبحقّ الإسلام في السياسة كأحد وجهات النظر التي ينبغي أن تغني الثقافة السياسية في بلادنا، وبحقّ المصريين الذين يؤلف محازبوها حيزاً مُعتبراً من عمومهم. بدأ الأمر بالدستور، لا بل أنّ المعضلة تكمن في الدستور، كان خطاب الرئيس المُنتخب محمد مرسي ليكون رائعاً بهذا المعنى لو أنّه أصرّ على وضع الدستور بإجماعٍ وطني، ولو أنّه أصرّ على إشراك الجميع بصياغة نصٍ تأسيسي يُفترض به التعبير عن الجميع، غياب الإجماع عن الدستور يفرّغ مقولة الشرعية من محتواها، يجعلها باطلاً كونها بُنيَت على باطل.
يجادل البعض ما سبق لناحية ما يقع في خلفية المواقف التي أخذتها القوى السياسية الأخرى في مصر؛ رفضها للشراكة الوطنية مع حركة الإخوان المسلمين، أو حتى عرقلتها لمساعي التسوية، لكنّها في النهاية مسؤولية الحركة كونها ارتضت الوصول إلى سدة الرئاسة في هذه المرحلة الحرجة والتأسيسية من حياة الوطن المصري، كان بوسع الإخوان أن يحرجوا الجميع من خلال دستورٍ جامع يحمي الجميع، ويعطي فائض حرية للجميع، لكنّهم لم يُراعوا في الدستور سوى -وللمفارقة- الجيش، من خلال الإبقاء على صلاحياتٍ واسعة له، الأمر الذي يبدو الجميع اليوم محكوماً بدفع أثمانه الباهظة مرةً أخرى.
الدستور المصري بالصيغة الإقصائية التي وُضع بها على عجل لم يحقق حرية الأفراد، أعطى صلاحياتٍ واسعة للقوات المسلحة، ووافق عليه في النهاية ٦٤٪ من أصل ١٧ مليون صوّتوا من أصل ٨٠ أو ٩٠ مليون مصري، وهذه أغلبيةٌ خرقة بأي حال، قد تصلح لإنجاح حكومة أو مجلسٍ نيابي، ولكن ليس الدستور بوصفه الورقة الميثاقية التي يتوافق الأفراد في أي بلد أن يحتكموا إليها على مدى أجيال. حبس الديموقراطية في صندوق الإقتراع يقتلها بكل بساطة، وللمرء أن يتصوّر لو فُرض الإلحاد مثلاً على قطاعاتٍ “مؤمنة” من الشعب بحجة أنّ الأغلبية ملحدة، هذا فرضٌ غير مقبول، ومثله فرض الإيمان، أو فرض الإيمان بدينٍ بعينه بحجة أنّ الأغلبية مؤمنة بهذا الدين.
كان يجدر بحركة الإخوان المسلمين أن تعلم هذا؛ أنّه يُفترض بالدستور أن يكفل الحرية للجميع، أن يتساوى فيه الجميع، المؤمن واللامؤمن والمؤمنون على تنوع إيمانهم، هكذا أو نكون بصدد التأسيس لحربٍ أهلية تقع عند كل اختناقٍ في الحياة الساسية، ربّما هذا ما نحن بصدده اليوم أو حتى غداً، أو لعلّه الوقت المناسب كي يعي الجميع الدروس التاريخية التي مثلتها بعض الفرص الضائعة.
الحياة