الإرهاب الجديد، العنف المركَّب/ كمال عبد اللطيف
تتلاحق في المشرق العربي، وفي مناطق أخرى من العالم، صور جديدة من الحرب والصراع والعنف. يستيقظ العالم، في كل يوم، على حالات من الرعب والتنكيل بالأفراد والجماعات، الأمر الذي يكشف أن أنظمة العنف المستخدمة، اليوم، أدخلت على أنماط عملها آليات جديدة في صور المواجهة والمراوغة، وكذا في كيفية تسديد الضربات المفضية إلى القتل، حيث يتبين المتابع للمعارك، المشتعلة هنا وهناك، أن الأطراف المتصارعة صنعت لنفسها في قلب ساحات المعارك أقنعةً مُلَوَّنَة بمقاسات وأشكال لا عهد للناس بها.
وإذا كان من المؤكد أن عشرات القتلى يسقطون، كل يوم، في سورية واليمن وليبيا، مثلاً لا حصراً، فإن حوادث أخرى يتعرض فيها جنود وإعلاميون وجواسيس، وأبرياء كثيرون، أطفال وشيوخ ونساء، لحالات من التنكيل، تدعو إلى قلق كثير، بحكم ما يمكن أن يترتب عنها من آثار في حياة الأفراد وداخل المجتمعات، ما يدفعنا إلى التساؤل عن حدود حيوانية الصراع السياسي، في عالم لم تعد فيه طبيعة الصراع واضحة بين الأطراف المتصارعة، حيث يصعب على كل طرف معرفة مكان خصمه أو موقعه، وحيث لم تعد مواعيد القتل والموت والحرب مؤكدة، ولا معروفة.
ما يحصل اليوم في المشرق العربي، بتواطؤ مع فاعلين من داخله، وآخرين من خارجه، سواء في الجغرافية الإقليمية، أو في مدارات المجتمع الدولي، القريب منها والبعيد، يدعو إلى الحيرة والقلق، بل إن درجات الحيرة والاختلاط تزداد، عندما نكون أمام صعوبة فرز صور التواطؤ، المعلنة والسرية، بين المنخرطين في الصراع، هذا من دون أن نتحدث عن عمليات الاستقطاب والتوظيف التي تُعدُّ، اليوم، جزءاً من نظام الحرب القائمة وآليتها. إن أصناف التوظيف التي تُمَارَس في الحروب القائمة وبمحاذاتها، أو تُمارَس عن بُعد بتوسط أفراد وتنظيمات ودول ومرتزقة، تجعل ساحات الصراع غامضة ومليئة بالألغام. كما أن صور التآمر اختلطت، وأصبح من الصعب فرز ملامحها، وترتيب ما يجري فيها بوضوح، للتمكُّن من تعيين ملامحه، ونظام تطوره، الأمر الذي ضاعف من خطورة ما يجري، اليوم، في أماكن عديدة من العالم.
قبل أيام تَمَّ تعميم ﭭﻴﺩيو حرق الطيّار الأردني، معاذ الكساسبة، عن طريق الوسائط الاجتماعية، الأمر الذي سمح بمعاينة مُعمَّمة لما نطلق عليه العنف المركَّب، حيث أُحْرِق الجسم داخل القفص، كما تشهد بذلك اللقطات المصورة، وقُتِل الطيّار، وقُدِّمَت بجانب اﻟﭭﻴديو تعليلات تاريخية وفقهية للصور، وما حملته من رعب، تعليلات تُبْرِزُ أن الخيار الذي حصل يُعَدُّ من تقاليد الحرب والصراع في تاريخ الإسلام، الأمر الذي يفضي إلى ثلاثة أمور:
أولها صورة القتل وقت التصوير، حيث يُحْتَمَل أن يكون المقتول هو الجندي، من دون أن يستبعد ذلك إمكانية قتله قبل مشهد القتل حرقاً في قفص من حديد. الثاني، إعادة إنتاج القتل في مشهد، وتصويره قصد تعميم إرادة القتل، من دون أن يتمكن المشاهد من إدراك خفايا الصورة في المشهد، بحكم آليات التصوير وتقنياتها التي كانت مفبركة. الأمر الثالث، يتمثل في بحث من يقفون وراء ما يجري بالفعل، ثم بالصوت وبالصورة عن إسناد ديني وتاريخي، لفعل القتل، بهدف ترسيخ تصورات جهادية إرهابية، لا علاقة لها بالإسلام.
يمكن أن نشير، في هذا السياق، إلى أن الحكاية تكررت في جرائم مماثلة، كما حصل في عمليات ذبح الآخرين بصور تدعو إلى أسى كثير، كما تدعو إلى غضب كثير، وتجعلنا نواجه بؤس الفعل السياسي الذي يُمَارَس باسم دولة الخلافة، كما يُمارس باسم مذاهب وجماعات، نشأت في غمرة الحروب القائمة، ولا نعرف عنها، ولا عن أهدافها إلا ما تختاره، وترسله لنا من صور ومشاهد.
“آن أوان مواجهة الذات ومواجهة الآخرين، وكذا مواجهة حالة الاختلاط العامة بلغة أخرى”
نقرأ في الحدث موضوع هذه المقالة صورة أخرى من صور توظيف المقدَّس وتوظيف الخطاب الديني في ميادين الصراع التي تزداد توسعاً في العالم، كما نقف على نمط من أنماط توظيف قراءة معينة للجهاد، تضع المجتمعات العربية أمام حالة تأخرها وتراجعها، وتضعها أمام استمرار هيمنة قيود التقليد على أشكال علاقاتها مع معطيات الصراع السياسي، في التاريخ والراهن. المشهد الذي انطلقنا منه يضع الجميع أمام حالة من الفوضى المرعبة، الأمر الذي يدعونا لا إلى التنديد فقط بالجرائم التي تقع، والتوظيفات المفزعة التي تنتصر لخيارات مجنونة، والعمل، في الوقت نفسه، على مواجهة تراثنا وعقائدنا بلغة التاريخ، بل إن ما يحصل من صور الدمار والموت يدفعنا إلى نسيان المقاربات السهلة والمبسَّطة، ونحن نواجه نمطاً جديداً من الحرب في حاضرنا، ولا يتم ذلك إلّا بتسمية ما حصل ويحصل في العراق وسورية بأسمائه الفعلية، لا أسمائه الحركية، والانتباه إلى ضرورة ربطه بالصراع الإقليمي والدولي في المشرق العربي.
ألح، هنا، على لزوم تجاوز أشكال التَّقْنيع التي تجعل ما يجري غامضاً ومعقَّداً، على الرغم من أن أطرافه الفعلية على بيّنَة من كثير من أوجهه، وهي على بيّنةٍ، أيضاً، من كونها أصبحت تستخدم الأسلحة والوسائط نفسها، فقد آن أوان مواجهة الذات ومواجهة الآخرين، وكذا مواجهة حالة الاختلاط العامة بلغة أخرى، تختلف عن دبلوماسية الحروب القديمة، وآليات عملها. فهل نستطيع ذلك؟
العربي الجديد