صبحي حديديصفحات الرأي

الإرهاب والإسلام: سديم التنميط الأعمى

صبحي حديدي

إذا صحّ التذكير، مجدداً، بأنّ يد الإرهاب عمياء غالباً في ما يخصّ الضحايا، لأنّ البطش هنا عشوائي لا يكترث بإقامة أية موازنة بين الغاية والوسيلة؛ فإنّ من الضروري، تالياً، التذكير بأنّ المنخرطين في مختلف مستويات الإرهاب ليسوا دائماً قتلة محترفين، تخرّجوا من مدارس الجريمة المنظمة والعنف وسفك الدماء.

الأرجح أنّ غالبية كبيرة من هؤلاء ليست مصابة بمسّ من جنون متأصل، تجعلها في حال من البغضاء المطلقة ضدّ الإنسانية جمعاء (كما يوحي هواة التنميطات المسبقة، العنصرية منها تحديداً)؛ أو ضدّ “النموذج الحضاري الغربي”، كما يساجل دعاة صدام الحضارات، ممّن يستهويهم حصر مشكلات الإرهاب في جذور عقائدية ـ دينية تخصّ الإسلام أوّلاً. والأرجح، بذلك، أنّ بعض أسباب الأعمال الإرهابية الداخلية، إذا جاز التعبير، أي تلك التي تشهدها المجتمعات الغربية على أيدي أبنائها وليس بأيادٍ خارجية؛ ليست بعيدة عن سياقات التربية العائلية، ومشكلات الحياة اليومية، وطبائع السلوك العام، والأمزجة النفسية، والنزوعات الفكرية والثقافية…

هذه، في مثال أوّل، حال مايكل أديبولاجو، البريطاني من أصل نيجيري، والمتهم بالجريمة الإرهابية البشعة التي وقعت مؤخراً في ضاحية وولتش، جنوب شرقي العاصمة البريطانية لندن: لقد ولد في بريطانيا، ودرس في مدارسها، وانتسب إلى إحدى جامعاتها، حتى ساقته الأقدار (في سنّ البلوغ!) إلى اعتناق الإسلام، ثمّ التطرّف في فهم التباس العلاقة بين الغرب والمسلمين، وصولاً إلى اعتبار كلّ جندي بريطاني مسؤولاً عن “قتل المسلمين كلّ يوم”، كما ردد على الملأ، حاملاً ساطور ذبح يقطر دماً.

تلك، أيضاً، كانت حال ياسين حسن عمر ومختار محمد سعيد إبراهيم ورمزي محمد وحسين عثمان، البريطانيين من أصول مسلمة، حوكموا وأُدينوا بالتخطيط لأعمال إرهابية واسعة النطاق في لندن، صيف 2005. فهل كان سقوط هؤلاء في حمأة الإرهاب والكراهية والقتل العشوائي وهستيريا الاستشهاد الزائف، بمثابة مآل حتمي لتعاليم الديانة التي اعتنقوها، أم جرّاء تفسير متطرّف لمصائر تلك الديانة في الأحقاب المعاصرة، أم لأسباب تربوية ذات صلة بهذه الاعتبارات وغير منفصلة عن وضعية الالتباس ذاتها، بين الغرب والعالم المسلم؛ أم، كما يستدعي المنطق البسيط، للأسباب هذه كلّها، مجتمعة ومتكاملة ومترابطة؟

وتلك، في مثال ثالث، لعلّه المستوى الأقصى في توصيف الإشكالية، حال الازدواج الانكساري العميق التي كان يعيشها حسيب صادق وشاهزاد تنويري ومحمد خان، إرهابيو عمليات تفجير أنفاق لندن، صيف 2005، التي أوقعت 52 قتيلاً ومئات الجرحى: بين اندماج كامل، أو شبه مكتمل، في الحياة البريطانية والحضارة الغربية إجمالاً؛ وبين انسلاخ إرادي عن هذه الحياة، استجابة إلى اعتبارات عقائدية صرفة، لا تغيب عنها السياسة دون ريب. وبهذا المعنى تصبح التفسيرات الأحادية لسلوك هؤلاء الإرهابيين مجرّد لغو، لأنهم لم يرتكبوا تلك الفظائع احتجاجاً على هذا أو ذاك من أعراف الحضارة الغربية وأعرافها، أو هذه أو تلك القضايا التي تخصّ واقع الإسلام في بريطانيا.

لافت، إلى هذا، أن تصدر ردود أفعال متطرفة مضادة، تصدر عن ساسة وقادة أحزاب بريطانيين يمثّلون نقائض سياسية وعقائدية شتى؛ كأنْ يلتقي النائب جورج غالاوي (زعيم تيّار “ريسبكت” اليساري، والناقد المزمن للسياسة الخارجية البريطانية)، مع نك غريفين (رئيس “الحزب القومي البريطاني” اليميني المتطرف: الأوّل اعتبر أديبولاجو نظيراً لمقاتلي المعارضة السورية، فكتب: “الوحشية المقززة التي حدثت في لندن تشبه بالضبط ما ندفعه لبعض الناس كي يفعلوه في سورية”؛ والثاني استدعى حيوان الخنزير، دون حيوانات الأرض جميعها، لكي يقترح التالي: “يجب أن نلفّ قتلة هذا الجندي البطل في جلد الخنزير، ونطلق عليهم النار ونفجر رؤوسهم مرات عديدة”!

هل تعلّم أحد من هؤلاء ـ وهم كثر، في صفوف اليمين والوسط واليسار، ضمن تفريعات التشدد أو الاعتدال ـ أيّ درس مفيد حول هذه الخلاصة الأولى: أنّ يد الإرهاب عمياء، لا ريب، ولكنها ليست البتة خارج التاريخ، وليست سابحة في سديم مطلق من االتنميطات المسبقة والكليشيهات الجاهزة، وليست منعزلة عن تلك السياقات الدقيقة العميقة ذات الارتباط الوثيق بما يجري على الأرض من وقائع، وما يُصنع من تواريخ؟

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى