مراجعات كتب

الإرهاب وصنّاعه: المرشد الطاغية المثقّف” لعلي حرب الفيلسوف التغييريّ يصوّب على الأفعى الجهنمية الثلاثيّة الرأس/ عماد العلم

 

 

يلقي كتاب “الإرهاب وصنّاعه: المرشد الطاغية المثقف” للفيلسوف علي حرب الضوء على ثلاثية “جهنمية”، محكمة الترابط، وهو يفعل ذلك بعقل فلسفي ونقدي حصيف، وبُعد رؤيوي مرهف وجريء، من خلال درس أطراف هذه الثلاثية، كلٍّ على حدة، والمقارنة بينهم، وإظهار الخيوط المشتركة التي تشدّهم الواحد إلى الآخر، وهم ملاّك الله والأوطان والحقيقة، والمساهمون الأساسيون في صناعة التنّين الإرهابي بأدواته، وعلى طريقته.

ليس من باب المغالاة في شيء، القول إنه قد لا يكون في وسع القارئ العربي أن يحظى في هذه اللحظة التاريخية الراهنة، بمفكر مرجعيّ ينطوي على هذا القدر من الرصانة العقلية ومن الثقافة المعرفية ومن الرحابة التحليلية، ومن الشجاعة الروحية، كحال علي حرب، وكتابه هذا، الصادر للتوّ لدى “الدار العربية للعلوم/ ناشرون”، بما يتضمنه من مقدمة عن الأصولية والعنف والإرهاب الإسلامي، ومن سبعة فصول، تتوزّع عناوينها على الآتي: التنّين الإرهابي الذي يصنعه ثالوث المرشد والطاغية والمثقف؛ التهمة المزدوجة (لا أتهم نفسي ولا أنفي التهمة عن الإسلام)؛ لبنان بلداً معلّقاً (الثنائيات الخانقة والتسويات الهشة)؛ تجديد الخطاب الديني (لا رهان على الإسلام ومؤسساته)؛ الإسلام والحداثة (خرافة المصالحة، فرنسا بين الأخطبوط والبعبع)؛ التوسع الإيراني (ضرر إيراني وخراب عربي)؛ وأين هو الإنسان؟ (مَن الخالق ومن المخلوق؟). أما الخاتمة فتتناول لعبة الخلق وتفتح الأفق الفلسفي والفكري نحو مشترك بشري جديد.

من أهمية هذا الكتاب أن مؤلفه الفيلسوف علي حرب، يضع أمامه المعطيات الموضوعية، الراهنة منها والتاريخية، في خصوصياتها وأبعادها الدينية، والسياسية، والمجتمعية، والثقافية، ويعكف عليها، جاعلاً إياها على طاولة التشريح، ممعناً فيها تفكيكاً وبحثاً وتفكراً وتأويلاً. لا يكتفي بالعموميات، ولا بالإحالات المرجعية، بل يحرص على التفاصيل والحيثيات والجزئيات، فلا يترك عنصراً أو مكوّناً يفلت من انتباه العقل. إنه يروح، بدأب الفلاسفة والمفكرين والرهبان والنساك، يشحذ الومضات والرؤى، ليسحب منها عصب الحقائق، والاستنتاجات، ويضعها أمام المعنيين، وأمام القراء، داعياً لا بالوعظ وإنما بالعقل، إلى استخلاص النتائج المترتبة على استمرار الأفكار الفكرية المتخلفة، والهيكليات والمؤسسات المترهلة القائمة، في ترسيخ التخلف العقلي والديني، وفي تعميم التطرف والإرهاب تعميماً بنيوياً ومجتمعياً قاتلاً، إن على مستوى السلطات الحاكمة أو على مستوى الجماعات التكفيرية والجهادية المسلحة التي تناسلت تناسلاً مريباً من رحم هذه السلطات وعلى ضفافها.

يبدأ علي حرب كتابه بالسؤال الخطير: هل هناك علاقة بين الإسلام والإرهاب؟ ليجيب أن هذه المسألة هي من مشكلات الساعة، وهي قضية معقدة وشائكة، تطرح أسئلتها المربكة على الجميع عرباً وغربيين، مسلمين وغير مسلمين، ومن الطبيعي أن تختلف المقاربات في شأنها، وتتضارب الآراء بين النفي والإيجاب، بين تزييف الحقائق وفهم الوقائع، وبين التبسيط الفادح والتحليل الكاشف.

من الواضح أن علي حرب يجري عكس الاتجاه التبسيطي الهروبي، والمعرفي السائد. فغايته العقلية التفكيكية هي تبيان العلاقة البنيوية بين الإسلام والإرهاب على المستوى الفكري وعلى المستوى المجتمعي، لافتاً إلى الترابط المنطقي بين المفهومين، منطلقاً مما يؤمن به المسلمون بأنهم أصحاب كتاب مقدّس ينطق بالحقيقة المطلقة والنهائية. من هذا المنطلق بالذات، يرى المفكر الفيلسوف أن الإسلام هو “مصدر لإنتاج التعصب والتطرف والعنف، لأن مآل هذا الاعتقاد المغلق والنهائي هو قمع حرية التفكير بتغليب الأمر على الرأي”. ويرى في الآن نفسه أن العلاقة “طبيعية بين الإرهاب والإسلام” على المستوى المجتمعي، لأن “المجتمع الإسلامي يشكل، بمؤسساته وجمعياته الأخوانية، البيئة الحاضنة التي يتحرك فيها النشاط الإرهابي”، ليصل إلى القول إن “الإرهاب هو ثمرة لصعود الإسلام السياسي على المسرح بأحزابه ودعاته ونجومه الذين احتلوا الشاشات والساحات، بقدر ما ابتلعوا باقي السلطات العائدة للأهل وامعلم والمثقف والنقابي والشرطي والسياسي”.

يتمثل خطر الإرهاب، أكثر ما يتمثل، في المقاومة العنيفة “لإرادة الفهم”، الرامية إلى الكشف عن مصادر العطب والخلل في المجتمعات العربية. يشبّه علي حرب هذه “المقاومة” بـ”مقاومة مرضى النفس لمحاولات الكشف عما خفي واستعصى، مما يعانون منه من العيوب والنواقص والعقد”، إذ “يشقّ على المسلم أن يسلّم أو يقتنع بأن ما يمارَس من عجز وتخلف، أو من عنف وإرهاب، إنما مردّه إلى عقيدته الدينية”.

يحذّر الفيلسوف القارئَ تحذيراً شديداً من مغبة القفز “فوق هذا الجذر الديني المولّد للعنف كما تمارسه التنظيمات الجهادية، الجذرية والإرهابية”، لأن النتيجة هي “طمس المشكلة وتمويهها، بل التمسك بما يعيد إنتاجها على النحو الأسوأ”. وفي رأي علي حرب أن “رأس الآفات الفكرية في المجتمعات العربية، اعتبار المشكلة هي الحلّ”. وإذا كان يركّز على دور المؤسسة الدينية، في هذه المشكلة، فإنه يضع القارئ أمام الشبكة المثلّثة التي تحمي الإرهاب وتحتضنه وتولّده:

– المرشد الذي يسخّر اسم الله لسلطته وأهوائه أو لأحقاده ومغامراته، بقدر ما يتعامل مع كل من لا يفكر على شاكلته بلغة التكفير والإقصاء أو الإرهاب والاستئصال.

– الطاغية الذي يتعامل مع بلده كمالك الملك، كي يتصرف بملكه كما يشاء. والحصيلة هي الاستبداد والفساد والإرهاب، وإطاحة مكتسبات الدولة الحديثة، في ما يخص مفاهيم المواطنة والعلمانية والديموقراطية.

– المثقف الذي لم يحسن طرح أفكاره، ولم ينجح في العمل عليها لإعادة ابتكارها وتحويلها، بحيث تترجم إلى منجز حضاري، سياسي، اقتصادي ومجتمعي. يؤكد حرب أنه لا يظلم “المثقف الحداثي”، ليس لأن “الكثيرين من دعاة الحداثة وقفوا إلى جانب الأصوليات الدينية والديكتاتوريات السياسية، بل لأن المثقف أخفق في مهمته الأولى التي هي تجديد الأفكار، بقدر ما تعامل مع قضاياه بصورة سلفية تقليدية، ديكتاتورية، بوصفها حقائق نهائية”.

في رأي علي حرب أن “المثقف الحداثي قد خدم الطاغية السياسي من حيث لا يحتسب”، وشكّل “الوجه الآخر للداعية الأصولي ومن حيث لا يعقل”. كلاهما في رأيه “تحوّل إلى ديناصور: المثقف بعناوينه المستهلكة، والداعية بشعاراته البائدة. كلاهما صنيعة الآخر ومتواطئ معه، من حيث يعرف أو لا يعرف”.

وفي الختام، لا بدّ، يرى حرب، من التغيير في الفكر والممارسة، في العدة والطريقة، في الاستراتيجيا والمعاملة. لم يعد مجدياً تحليل الواقع وتشخيصه بمفردات وشعارات تمت إلى عالم فكري ولّى زمنه. ثمة رهانٌ وحيد، هو الانخراط، على قول علي حرب، في “المناقشات العالمية الدائرة على وقع التحديات الجسيمة والتحولات الهائلة، من أجل صوغ ما تحتاج إليه إدارة الشأن العالمي والكوكبي من اللغات والمفاهيم أو القيم والقواعد أو الطرز والنماذج”.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى