صفحات العالم

الإرهـاب ومنظـومـة العـنـف العـربـيـة


سليمان تقي الدين

ضرب الإرهاب في دمشق موقعاً عشرات الضحايا ومئات الجرحى. منذ أكثر من عقدين يتنقّل الإرهاب من بلد عربي إلى بلد آخر. مرّ في مصر والجزائر والعراق واتخذ أشكالاً أخرى في الصومال واليمن ولبنان.

صار العنف ظاهرة ملازمة للصراع السياسي في المنطقة. يمكن متابعة جذور العنف على أكثر من صعيد، لكنه ظاهرة اجتماعية تاريخية تتصل في وقتنا الحاضر بأزمة المجتمعات العربية وانهيار شرعية الاجتماع السياسي العربي. ثقافة الأصولية والسلفية والتكفيرية والإلغائية وما تفرزه من عنف مادي تزدهر في البيئة الراهنة لا في أعماق التاريخ.

لا شك أن تقنيات العنف تطوّرت بشكل هائل وأدوات الإجرام تعدّدت وتوسّعت لكن لا شيء في التاريخ السابق يشبه من حيث الدوافع والمحرّضات والأسباب والأهداف ما يحصل اليوم، خاصة في العراق أو سوريا. ولم يسبق لشعوب مصر والجزائر والعراق وسوريا وغيرها أن انزلقت في الماضي إلى مثل هذا العبث الإرهابي والتدميري.

أين يجري «تخصيب» هذا العنف إن لم يكن في ظل النظام العربي بثقافته، بمؤسساته الرسمية والشعبية، بسلطاته، بإدارته للمجتمع وبالمظالم المتراكمة التي تؤدي إلى هذه الأشكال «الانتحارية الجماعية» التي تعلن انسداد الآفاق السياسية على التعبير والمشاركة.

يُقال إن الإرهاب مستورد أو إنه ينظم ويُدار من الخارج. لا الأميركي ولا الأوروبي يرسل لنا انتحاريين لا إلى العراق ولا إلى سوريا ولا إلى نهر البارد في لبنان. زيت هذه المنطقة من زيتونها، وعنف شعوبها من عنف أنظمتها. ربما كانت المنطقة تعاني أزمة هوية جراء الإحباط التاريخي من فشل الشعوب في بناء كيان أو كيانات مستقلة تماماً وقوية وتتوافر لها مقومات الدفاع عن حقوقها وسيادتها على أرضها وثرواتها وإغناء ثقافتها وبلورة شخصيتها الحضارية.

وربما كانت إسرائيل بالذات، مباشرة أم غير مباشرة، أحد أهم التحديات التي ما زالت في أعماق شعور العرب تحرّض على تجريب سبل المواجهة. وربما كانت إيران مؤخراً بداعي المنافسة أو بداعي الغلبة تحرّض على استنفار الهوية القومية أو المذهبية. لكن العرب عن قرب أو عن بُعد من هذه التحديات الإقليمية يبحثون عن معادلة مفقودة بين شكل اجتماعهم السياسي وحاجاتهم وتطلعاتهم.

فمن غير المنصف أن نختصر المشهد العربي على أنه معركة إيديولوجيات ومدارس فقهية دينية وشطحات أو تطرف وعصبيات. لا مشهد الثورة اليمنية ولا مشهد الثورة المصرية ولا مشهد الثورة التونسية، بكل ضبط النفس والتعايش الذي يدعو إلى الإعجاب بين القوى والتيارات السياسية والفكرية، دلّ أو يدلّ على أن العنف والإلغاء يسيطران على الشارع.

هناك معطى سياسي في ليبيا والعراق وسوريا بالغ التعقيد أخذ ويأخذ هذه البلدان إلى مسار من التطرف وكأنه الجواب على صعوبة تغيير معادلات سياسية أو طائفية أو قبلية وفوق ذلك إقليمية.

هذا الإرهاب المخزي الأعمى الذي يحصد المدنيين والأبرياء يجب أن يتوقف، على ما تدعو بيانات الاستنكار والشجب من أعلى المستويات الدولية. فهل كانت يوماً لهذه المناشدات مفاعيل أمام غليان المجتمعات وانفجارها تحت وطأة غياب العدالة في المعايير المحلية والدولية على حد سواء.

لم تكن مشكلات العرب محلولة من قبل لكنها لم تكن متفجرة كما هي اليوم. ليس دفاعاً عن الماضي بل إدراكاً لحقيقتين: الأولى هي مستوى الوعي بهذه المشكلات وعدم احتمال تعليقها، والثانية هي تغذية هذه المشكلات بحجم غير معقول من الفوارق الاجتماعية ومن التوتر بين مكوّنات هذه المجتمعات المقهورة.

اكتملت شروط التصادم حتى باتت أية حادثة كبيرة أو صغيرة فاتحة نزاعات وتداعيات. تراجعت ثقافة التسامح والتضامن والألفة، كما تلاشت الضوابط التي كانت تحفظ استقرار المجتمع وحقوق الآخر وحريته. في معظم حالات التشنج الطائفي أو المذهبي أو الأهلي تكمن حالات من التمييز المادي والمعنوي الذي تستظل به السلطات عبر الإيحاء بالدفاع عن حقوق أو حمايات لجماعات سياسية.

علينا أن نتذكر إطالة أمد الأزمة السورية وتفكّك القبضة الأمنية الشاملة على مدى أكثر من سنة. خلالها جرت شلالات من الدماء والعنف بغياب أية مبادرة سياسية فعلية. هناك نظام أعلن وما يزال رفضه الاعتراف بطبيعة الأزمة في رهان عجيب لأن يجدّد نفسه من خلال المصالح الخارجية وأن يمسك بالبلاد مجدداً بقبضة أمنية أكثر شراسة. وهناك معارضة يستحيل عليها، مهما كان رأينا في سلوكياتها، أن تعود إلى بيت الطاعة الأمني وقد اختبرت حجم القمع الذي ينتظرها.

لا يعود الإرهاب عارضاً من أعراض المأزق الناجم عن تعطيل سبل الحلول السياسية بل هو جزء من منظومة النزاعات المتصلة بحالات التوحّش في غياب منطق الدولة وثقافة الدولة. العنف الأهلي والعنف في النزاعات الجهوية والإقليمية والمداخلات الخارجية فروقه في الدرجة لا في المضمون. دخلت سوريا في مرحلة جديدة من العنف لا يتصل بتاريخ النظام ومشكلاته فقط بل بتحوّله إلى طرف مباشر في الصراع الأهلي وفقد بالتالي صفته كنظام مسؤول عن وحدة البلد وأمنها وقضاياها. في هذا المسلسل العربي من التفجّرات الأهلية تحت وطأة محاولة الخارج ضبطها أو إدارتها انطلاقاً من أزمات اجتماعية وشعوب خرجت في طلب تغيير أوضاع مزرية تتسع عدوى العنف. فلا أقل من أن ينتبه اللبنانيون لخفة القوى السياسية التي تراهن على الأزمة السورية أو تهدر الوقت في مقاومة مطلب الإصلاح اللبناني لحل مشكلات ولاّدة عنف أهلي إذا ظلت تقدّم على أنها مجرد مصالح طوائف تحتاج إلى رعاية وضمانات.

لسفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى