الإسلاميون في السلطة فهـل ينفـردون بهـا؟
سليمان تقي الدين
يسيطر الإسلام السياسي على مسرح الثورات العربية. هو الجهة الأكثر تنظيماً وفاعلية و«شرعية شعبية» لأنه يغرف من الثقافة السائدة. يملك الإسلام السياسي وعوداً سهلة على أكثر القضايا تعقيداً. لديه مفتاحان رمزيان للأرض والسماء. الهوية الإسلامية مقابل الغرب «المادي» المستغل اللااخلاقي. الإرث الثقافي ضد الظلم والطغيان وأهمية مفهوم «العدالة والإحسان» والأخوة بين جماعة المؤمنين. الرجاء الأسطوري الخيالي الملهم لكل حافز إنساني بأن ما ينقص من عدالة الأرض يتم في السماء.
الإسلام السياسي يستخدم الدين الشعبي الذي جرى تأويله وتفسيره خلال قرون طويلة بوصفه حتمية تاريخية (وحتى طبيعية) يتدرّج العالم خلالها لكي يحقق الوعد الالهي. تتعاظم فاعلية وتأثير الدين الشعبي كلما تفاقمت الأزمات الإنسانية. الدين عزاء ورجاء يحتمل التبرير ويحتمل المقاومة.
الإسلام السياسي الذي صار تحت الضوء في حركات الاحتجاج العربية وفي الانتخابات (الجزائر سابقاً وتونس ومصر اليوم، و«حماس» في غزة و«حزب الله» في لبنان، وجمعية الوفاق في البحرين والتيار الإسلامي في الكويت وحزب الإصلاح في اليمن)، لم يمارس سلطة الحكم التنفيذي باستثناء في السودان، وهو مرشح الآن لمباشرة السلطة في ليبيا من دون إرث حزبي سابق. لا يملك الإسلام السياسي برنامجاً واحداً ولا تجمعه مركزية قرار أو مركزية تفكير خلا شعار «الإسلام هو الحل».
لا تتطابق مواقف الإسلاميين تجاه القضايا والملفات الأساسية العربية. داخل التيار الإسلامي الواسع في كل بلد اتجاهات مختلفة. انقسمت حركة «النهضة» التونسية، ونشأت جماعات سياسية عدة من حركة الأخوان في مصر. هناك بالأصل اتجاهان رئيسيان سلفي وليبرالي. معظم النخب الإسلامية المشتغلة بالاقتصاد كما هي الحال في مصر، او بالثقافة والاعلام والدعوة ذات اتجاه منفتح يقبل المحاورة. معظم الجماعات، التي تمارس العمل المسلح وفق ظروف الساحات العربية، متشدّدة واقرب إلى السلفية وإلى اعتماد خطاب تكفيري لكل الآخرين من إسلاميين وغير إسلاميين. من تجربة «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر، إلى العراق بفرعيه الشيعي وجماعات «الصحوة السنية» وطبعاً «القاعدة»، إلى «الجهاد» في مصر خلال الثمانينيات والتسعينيات، إلى مظاهر الهيمنة وكبت الحريات في كل مناطق نفوذ هذه التيارات، هناك سعي حثيث لفرض «احكام الشريعة» على المجتمع. الإسلام السياسي يمارس سلطة الإكراه ولا يقبل قاعدة «مَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر». أو قاعدة «لا إكراه في الدين».
اقترب الإسلاميون من السلطة المباشرة في العديد من الدول العربية. صاروا أكثر حاجة لبلورة برامجهم وتصوراتهم للدولة. قبلوا فكرة الديموقراطية كوسيلة لتعبير المجتمع عن حاجته أو رأيه ولم يحسموا في قبول الدولة المدنية المحايدة بين سلطة الدين وحريات الاتجاهات الفكرية الاخرى التي قد تكون إسلامية او مذهبية أو دينية أو علمانية. الإسلام السياسي يتمذهب دينياً كما سياسياً. يخترق الفضاء الإسلامي التوتر السني الشيعي كما يخترقه التوتر الطائفي الإسلامي المسيحي. هكذا ظهر في العراق ولبنان ومصر وسوريا والبحرين. يحول الإسلام السياسي المسائل الاجتماعية إلى نزاع هويات. الهويات في نظره ليست دينية شاملة أو قومية أو وطنية أو اجتماعية أو سياسية فكرية. هناك الشرق والغرب، الجهادية والصليبية، الإسلام والنصرانية واليهودية والكفرة، وهناك المرتدون والعلمانيون والقوميون واليساريون والليبراليون. يفاضل الإسلاميون بين هؤلاء الأقرب فالأبعد، لكنهم بالنسبة لهم مصيرهم واحد هو النار الأخروية. التسامح الديني موجود لكنه مرهون أيضاً لمعايير «العهد» أو «الحماية» أو «الذمّية». ما يقبله الإسلام السياسي لنفسه في بيئة خارج «دار الإسلام» لا يقبله في «دار الإسلام». الإسلام جغرافيا كيانية وجماعة في أمة واحدة. على المسلم ان يمارس «التقية» والاستتار بالمألوف لكنه محكوم بأن يمارس «الفرائض» والعبادات والمعاملات أيضاً وفق احكام الشريعة ومذاهبها المعترف بها. يحتكم الإسلام السياسي إلى ميزان القوى، فحيث هو يستطيع فعليه ان يحكم «بما أنزل الله» لا بما تمليه حاجات الاجتماع البشري المعاصر. يسعى إلى تغيير ميزان القوى «بالدعوة والتبليغ» وبقوة السلطان إذا أمكن. تنظيم المجتمع الإسلامي لا يقتصر على الجماعة المؤمنة بل يشمل كل من هو في «دار الإسلام» أو تحت ولاية المسلم. إطاعة اولي الأمر هي إطاعة كل سلطة مستمدة من شرعية «الخلافة أو الولاية أو الإمامة».
«الولاء والبراءة» قاعدة فقهية حاكمة. يتدخل الإسلام السياسي في كل نواحي الحياة ويبرر حيث يجب كل أشكال السلطة المستمدة من المال والثروة والتجارة والاستغلال ويبرر تراتب السلطة بما في ذلك «الملك العضوض» وإدارة المال العام بهذه السلطة. الإسلام الحنبلي (الوهابي) يسيطر على النظام السياسي في الجزيرة العربية.
يستمد الإسلام السياسي اخلاقياته من «الفرائض» لا من قيم إنسانية كبرى انتجها العقل البشري، كالعدل والحرية والمساواة، ولا طبعاً التنظيم الاجتماعي القائم على المشاركة ولا العلاقة السوية مع الطبيعة والبيئة، ولا التداول الدائم للسلطة والديموقراطية.
لا يقبل الإسلام السياسي مفهوم السيادة الشعبية أو ان الشعب هو مصدر السلطات. الحكم في الإسلام السياسي هو لأوامر ونواه مسبقة وحدود وقواعد واحكام شرعية أي دينية.
لكن الإسلام السياسي حين يستفتي الناس حول خياراته لا يأخذ تأييد أكثرية المجتمع. يقوى الإسلام السياسي في معركة الهوية ولا يملك اجوبة عملية على كل التحديات المعاصرة، بل هو يسيطر حيث يتراجع الآخرون. يستلهم الإسلام السني النموذج التركي والإسلام الشيعي النموذج الإيراني. ليس من نموذج عربي حاكم حتى الآن. أول ما تبادر إليه حركات الإسلام السياسي حين تقترب من السلطة هو «تنظيم الاحوال الشخصية» للمواطنين. رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل اعلن حكم الشريعة وأباح تعدد الزوجات. حين توحدت اليمن ألغيت قوانين الجنوب المدنية. وربما تتجه تونس إلى إلغاء نظام الاحوال الشخصية الذي أقره الحبيب بورقيبة في الخمسينيات. يتحدث راشد الغنوشي عن قوانين شرب الخمر والأزياء والمرافق السياحية والفائدة ولا يتحدث عن مشروعه الاقتصادي التنموي. حركة «حماس» المحاصرة في غزة انشغلت بتقنين حريات المرأة. يتصدى الإسلاميون في لبنان لأي قانون مدني كالزواج الاختياري أو مقاومة العنف الأسري، ويكافحون محلات بيع الخمور. المسألة الاجتماعية في ثقافة الإسلاميين لا تمسُّ شروط العمل والانتاج بل تواجه الفوارق الاجتماعية بنظام الصدقة والاحسان والاعمال الخيرية. الأوقاف الخيرية في معظمها توظف في خدمة دور العبادة وتعزيز الطقوس وليس حل مسألة التعليم والطبابة والرعاية الاجتماعية. الإسلام السياسي يقيم سلطة شمولية في المجتمع والدولة حين يستطيع ذلك. يدافع الإسلام السياسي عن حدود «الجماعة» أو دار الإسلام وليس عن «الوطن». عدو الإسلام السياسي هو دول أو شعوب أو ثقافات أو أديان. يسعى الإسلام السياسي لامتلاك القوة، كل اشكال القوة، تجاه الآخر في الصراع بين عوالم عمودية الانقسام وليس بين مصالح أفقية. دخل الإسلاميون كطرف رئيسي في النظام العربي الجديد بموجة سياسية شعبية تدعمها قوى دولية راغبة في تغيير وجه العالم العربي السابق. تغيّر النظام السياسي العربي فهل يستطيع الإسلاميون ان يحلوا المشكلات المعلقة في التحرر الوطني والتنمية والتقدم الاجتماعي والحرية؟
لديهم الفرصة في الديموقراطية شرط ان يقبلوا بأحكامها دائماً وليس لمرة واحدة.
السفير