الإسلاميون لا يتعلمون/ مازن عزي
لا يبدو أن الجماعات الإسلامية الجهادية في سوريا قد تمكنت من قراءة تاريخ أسلافها القريب في سوريا، ولا حتى تاريخ الجماعات الإسلامية المعاصر. المراجعات التي أقدم عليها منظرو تلك الجماعات (باستثناء “التجربة السورية”) كانت قد وضعت في الغالب أسباب الفشل في حَمَلَةِ القضية السابقين، لتعود الجماعات اللاحقة لتكرار الأخطاء ذاتها.
ليس كشفاً إن قلنا بإن الدول القمعية وحدها تعلّمت من بعضها البعض، واستفادت من أخطائها، لا بل لا بد من القول أيضاً بإن الدول القمعية وحدها التي فهمت الإسلاميين أكثر من ذواتهم.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ألغى العسكر في الجزائر نتائج الانتخابات البرلمانية عقب فوز “جبهة الانقاذ الإسلامية”. الدولة الجزائرية بدأت حرباً استباقية ضد الإسلاميين، وفرضت عليهم شرط العنف، مسبغة عليهم وصف “الإرهاب” المطلوب اجتثاثه. 200 ألف قتيل لم يهزوا شرعية الدولة الجزائرية “الدولية”، بل زادت القروض والمنح والهبات الدولية، التي قُدّمت إلى الجزائر لـ”مكافحة الإرهاب”، عن 20 مليار دولار. الأمر ذاته حدث في الثمانينيات مع مصر، وعاود الحدوث مؤخراً بعد انقلاب 30 حزيران/يونيو 2013 الذي قاده الجنرال السيسي، والجيش من خلفه، على الشرعية الانتخابية التي أوصلت محمد مرسي، وجماعة “الإخوان المسلمين” للمرة الأولى في تاريخ مصر إلى سدة الحكم.
مصر اليوم بدورها باتت قِبلة للقروض والهبات، لدعم الاستقرار والنظام ضد فوضى و”ارهاب” الإسلاميين. إيطاليا، أعادت مؤخراً سفيرها إلى القاهرة، وكأن دماء ريجيني قد جفّت تماماً.
في سوريا، ولولا التدخل الإيراني المباشر، والصراع الإقليمي الشيعي-السني، لما كان الأمر مغايراً. ومع ذلك، ورغم حدة العداء بين الخليج وإيران، فإن الخوف من الإسلاميين، قد يجترح حلاً إعجازياً، يعيد تأهيل “الدولة” السورية، ولا يغفر لجوءها إلى العنف والحرب فحسب، بل وقد يبارك لها ذلك.
حصر العنف ضد المحكومين بـ”الدولة”، قد يكون أحد أهم مسوغات شرعيتها، إذا عدنا إلى الفهم “الهوبزي”. ولكن، لماذا تلجأ “الدولة” العسكرية/الأمنية إلى العنف في المقام الأول؟
في الحالة السورية، كما الجزائرية والمصرية، تفضل الدول، أو مراكز قوى ضمنها، دفع الإسلاميين إلى العنف، لتخوض حرباً ضد المجتمع باسم “مكافحة الإرهاب”، لا تخسر معها السلطة ولا “الشرعية الدولية”. الحالة السورية ورغم تجاوزها كل المعقولات، ما زالت تدرج في خانة نظام “علماني” يقاتل سلفيين سُنّة. الحرب ضد الإسلاميين، تتضمن طردهم من الفضاء المديني، وتقويض حواضنهم الشعبية، وتفتيتهم إلى جماعات متقاتلة، وتشجيعهم على الإغراق أكثر فأكثر في التطرف عبر حصر العالم في خانتين: دار الحرب، ودار الإسلام ولو كانت مجرد شارعين في حارة مُحاصرة.
تفتيت الجماعات الإسلامية الكبرى، وإن كان يحرم الدول القمعية مفاوضين قادرين على ضبط شارعهم، كما يذهب حميد بوزارسلان في كتابه “قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط”، فإنه يساهم في تجزئة القضية وتحويلها إلى مكافحة مجموعات إرهابية متنازعة متقاتلة في ما بينها على الحق الإلهي. ترك إدلب تغرق في مستنقع “هيئة تحرير الشام”، وعدم مساندة “أحرار الشام”، قد يكون مجرد نموذج لترك الصراعات بين الإسلاميين تتفاقم، ولإخراج أسوأ ما فيهم. الأمر ذاته تكرر في الموصل والرقة، بعدما أكلت “الدولة الإسلامية” بقية الفصائل المسلحة، الإسلامية وغير الإسلامية.
كأمر واقع، تستعيد “الدولة” السورية، مدعومة بروسيا وإيران، ما خسرته بعد حربها المفتوحة ضد المجتمعات السنيّة المنتفضة عليها. لكن، من يكترث للشرعية اليوم، والمجتمعات المحلية الرازحة تحت الحصار والقصف، باتت تحاول تحييد نفسها عن وصمة “الإرهاب”، والقبول بشرط “التطويع” لإعادة ضمّها إلى مسيرة “المصالحات الوطنية الشاملة”؟
فشل الدولة السورية في تحقيق التنمية والنهوض بالمجتمع ومكافحة الفقر والعوز، وحتى في خلق هوية وطنية جامعة للسوريين، كان قد قاد إلى اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011. الثورة، وبعد 6 سنوات، لم تتمكن من قلب النظام، لأسباب يختلط فيها المحلي بالدولي، والاقتصادي بالعسكري، كما لم تتمكن من خلق قضية وطنية سورية. “الدولة” السورية وجدت في عجز الثورة، فرصة مثالية لإعادة انتاج نفسها ضمن المحددات التكوينية ذاتها التي رافقت تشكيلها: الطائفية/العسكرية/الأمنية.
“الدولة” تمكنت من تركيب العنف الأهلي على عوامل الشقاق المحلية، وأعادت توجيهه في مراحل مختلفة، بما يضمن تفريق الثائرين ضدها، وتفتيتهم إلى أكبر حدّ ممكن من الجماعات المتناحرة. اليوم تبدو الخريطة العسكرية/العقائدية لفصائل المعارضة، في أسوأ حالاتها: آلاف الفصائل الصغيرة، المنضوية تحت مظلات عسكرية أوسع، تمارس فعل الانشقاق والانضمام، بلا نهاية. الحزازات الأهلية حكمت التشكيلات المعارِضة، وباتت علامة أصيلة خاصة بها.
الإسلاميون بدورهم، غزوا السوق السورية بمنتجاتهم العقائدية/العسكرية، وبتنا نشاهد الصراعات بين مدارسهم المختلفة من الوهابية والسلفية والصوفية و”العلمانية” وهي تتمخض غالباً عن انتصار الأكثر تطرفاً.
“الدولة” السورية حرصت منذ بداية الثورة على تفريغ الساحة من كل الهوامش، والابقاء على السلفية الجهادية كعدو وحيد لها. لذا تم استهداف كامل مساحة المعارضة، وقتل عشرات الآلاف من النشطاء السلميين في المعتقلات، وأبيدت أحياء وقرى بكاملها. العملية لم تكن عشوائية، بل مقصودة للقضاء على أي تواصل ممكن بين الإسلاميين وبقية “الفاعلين” اجتماعياً وسياسياً في سوريا. حجم العنف الهائل، أقنع حتى المعتدلين الإسلاميين بصحة نبوءة السلفيين الجهاديين تجاه النظام “الكافر”وعدم إمكانية التوصل إلى أي تفاهم معه. أي تكريس الامتناع المتبادل عن السياسة بين النظام والإسلاميين، وبالتالي الامتناع عن السياسة في المجتمع.
تحويل السلفية الجهادية إلى التيار الرئيس المعارض، هو الدرس الأهم الذي تعلمته “الدولة” السورية من شقيقتها الجزائرية. فهل تعلّم إسلاميو سوريا من إخوانهم الجزائريين شيئاً؟
المدن