صفحات الرأي

الإسلام “الحقيقي”/ دلال البزري

 

 

أمام فظاعات “داعش”، الجميع ينشد بالإسلام “الحقيقي”: رجال الدين التقليديين، الذين نشأوا وكبروا وعملوا على الفكرة، وقد صارت جزءاً من أدائهم المهني؛ يردّدونها، طامحين في سرّهم الى توسيع مجال تطبيقهم للشريعة الاسلامية، المقتصرة الآن على الأحوال الشخصية فحسب؛ حيث تذوق النساء في قوانينها أمرّ أوجه التمييز، الجنسي والعائلي؛ ثم الحركات الاسلامية “غير الجهادية”، المسماة “معتدلة”، والمدافعة بشراسة عن هذه القوانين الشخصية بالذات، والقائلة عموماً بضرورة “التدرّج”، وعبر الإنتخابات إذا قامت، من أجل إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية، وببنودها العقابية المعروفة خصوصاً؛ الحركات الإسلامية الجهادية غير المنتمية إلى “داعش”، تختلف معه على القيادة، وعلى انتظار فترة “التمكين”، أي بلوغ مرحلة القوة القوية، لتفسح المجال أمام نفسها لتطبيق الشريعة على الوجه نفسه الذي يراه “داعش” الآن؛ بل منهم التنظيمات الجهادية ذات الأصول المشتركة مع “داعش”، مثل “جبهة النصرة”، ذات التكوين “القاعدي” الإرهابي المتطرّف؛ بعدهم يأتي المتمرّسون على “ورشات” وندوات ومؤتمرات وخطابات “الحوار بين الأديان”: وهؤلاء، نظراً لحظهم الكبير في الإعتراف الدولي والرسمي، يملأون الشاشات بخطبهم الشامخة الواعدة؛ ولكنهم ما عادوا قادرين إلا على ترداد الإسلام “الحقيقي”، من منبر إلى آخر، من دون الحاجة إلى التدقيق في المزيد. وفي خط آخر، يأتي في جوقة المنشدين، رهط من العلمانيين والليبرالين والحداثيين “التراثيين”، والبعثيين، خصوصاً العراقيين منهم؛ وهؤلاء يرفعون الإسلام “الحقيقي” مثل من يحمل درعا حديديا يحميه من شر الأيام. هم خائفون، لا يتجاسرون على مناخ بأكمله ليقولوا فعلاً ماذا يعتقدون انه الإسلام “الحقيقي”؛ وفي سياق قريب لهم، كل القادة الكبار أو الصغار، الواصلين أو الطامحين إلى الوصول، لا ينفكون عن إنشاد الإسلام “الحقيقي”: من بينهم رجالات السلطة التقليديون ورزْمة التواقين إلى هذه السلطة، من ليبراليين ويساريين أحياناً، يعلمون، بتجربة غيرهم، إنهم لن يدوموا إذا لم يزايدوا على الإسلاميين في الدين، كما فعل رائدهم الأول، الرئيس المصري أنور السادات، الذي دشن عهد “الرئيس المؤمن”؛ آخر هذه الأمثلة، السينمائي المصري اليساري الذي ترشح للإنتخابات التشريعية القادمة، فوزّع صورته على الملأ مكلّلة بآيات قرآنية.

إذن نحن أمام لوحة هي مزيج من الأساليب الفنية المتناقضة: من جهة، أسلوب واضح ومباشر، يعرض فيه “داعش” جرائم تطبيقه لشرع الله، على ما يتصور، يسعى محموماً لعرض تفاصيلها للناس بأشرطة تضج بها الشبكة الالكترونية، يذبح ويصلب ويرجم ويسبي ويرتكب الفظائع، مكبّراً لله وداعيا لرسوله. وفي الجهة المقابلة ترسانة من الرجالات ذوي الإختصاصات المتنوعة، يردّون عليه، بفن انطباعي صرف، بأن الذي يقوم به هذا التنظيم “ليس هو الإسلام الحقيقي”. من دون زيادة ولا نقصان، اللهم بعض الترديدات المشْبعة بالجهوزية والخشبية، والتي لا تخاطب إلا الضجر.

مع ان بعض أصحاب الرد الإنطباعي على “داعش” كانت لهم صولات وجولات في عالم الدفاع عن دينهم؛ كثيرون من بينهم أشعلوا النار منذ سنوات قليلة على رسم كاركاتوري نشره فنان دانماركي، “أساء” فيه الى الرسول، أو على قرار حكومة أوروبية بمنع الحجاب أو النقاب في الأماكن العامة. كان ردّهم بالنار على ما طال الإسلام ورسوله من إساءة خبراً رئيسيا على الشاشات. كان المُراد من كل هذا الصخب التوضيح ان الإسلام ليس سيئاً الى درجة… ومعه فيض الفتاوي والخطب والاجتهادات والتفسيرات والندوات والمحاضرات، وكلها مثل السدّ العملاق الذي يقف بوجه هجمة الغرب في إساءته للإسلام… أي انهم شعروا بأن الرسْمة أو منع الحجاب أساءا إلى الإسلام، فقالوا بضرورة الرد على من يشوه دينهم. طبعا ما يقوم به “داعش” يقزّم تلك الإساءات الغربية، التي تبدو لطيفة أمام فظائعه بحق أهل بلاده. يسيء إليه إلى حدّ أن أي مواطن طبيعي لا يمكنه إلا الاستنكار بأن لا، ليس هذا هو الإسلام. ومع ذلك، تكتفي جوقة الإسلام “الحقيقي” بانشاد نغمتها، كأنها مجرد صدى خافت متواضع لكلمة أُشبعت قولا، لم تشبع فتاوى أو خطب مجلجلة؛ فمن يفتي الآن بتحريم سبي النساء؟

فاذا كان كل هؤلاء المنشدين للإسلام “الحقيقي” جديين في دفاعهم عن هذا الإسلام، فعليهم ان يحكّوا مخّهم قليلاً ويحاولوا الإجابة على الأسئلة البديهية التالية: هل الإسلام دين ودولة؟ إذا لم يكن جلّه على هذا الوجه، فما هو بالضبط قدر الدين بالدولة فيه؟ وما هو قدر الدولة في دينه؟ وبأي معنى؟ وفي أي مجال؟ هل السنّة كلها هي على الرسول؟ هل يمكن تقليد الرسول وعادات قومه كما نتصور بقراءتنا لشيء من التاريخ؟ أي إعادة نظام العبودية والسبي والرجم والقتل الأوتوماتيكي والتوسّع اللانهائي وغياب كل الحدود السياسية؟ وأولئك المؤجلين لتطبيق الشريعة، أو يتمتمون بصوت منخفض كلمات عنها غامضة ومريبة، أية شريعة يطبقون إذا ما تمكنوا؟ هل تكون شريعتهم عقوبات بدائية؟ ومن يكفّرون؟ وهل يحق لهم أن يكفّروا؟ ماذا يعني الكفر بالنسبة لهم؟

أمامنا ورشة تفكير خطيرة وطويلة حول ما يمكن الإتفاق على انه الإسلام “الحقيقي”. ولكن الورشة هذه ليست عملاً تجريدياً؛ انها احتكاك مباشر بواقع الحياة والقوانين والتجارة والأرزاق. وإجابة المعنيين بالإسلام “الحقيقي” على هذه التساؤلات لن تكون منفصلة عن هذا الواقع. وبما أن هذا الواقع مفرّغ، محطّم، كارثي، هو الذي أنتج الإسلام الداعشي ومكّنه، فان العمل على تغيير هذا الواقع يصبح من ضرورات إخراج الإسلام “الحقيقي” من ضبابيته. ولكن هذا التغيير يتطلب “نظرية” تظلله، أفكارا عامة، مفاهيم معينة… وكلها الآن مفقودة، وإلا ما كان الفراغ الذي ملأه الغول الداعشي. انها حلقة مفرعة نحن واقعون الآن في شَركها، لا يسعنا فيها غير البدء بنقطة متواضعة من برنامج بناء ترسانة الإسلام “الحقيقي”. مثلاً، نقطة التعمق في وصف هذا الإسلام غير الحقيقي، سواء في “دولة داعش”، أو في دول أعدائها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى