“الإسلام السياسي” وتفكيكه معرفياً / موسى برهومة
في حمّى السجـــال الضـــاري حول ظاهـــرة «الإسلام السيـــاسي» تستوقف المراقب محطات أساسية لا ينبغـــي إهــــمالها، أولها أن الإسلام «إسلامات»، بتعبير المـــفكر فهـــمي جدعــــان، لا إسلام واحـــد. وثانيها أن حـــركات الإسلام السياسي تتــــحرك في فضـــــاءات السياســـة العملية، وتنشد السلطة بأدوات بعــــضها سلمي كـ «الإخوان» مثلاً، وبعضها عبر العنف، كغالبية الحركات «الجهادية» التي تبتغي إقامة «شرع الله» بالسيف.
أما المحطة الثالثة، وسنتوقف عندها طويلاً، فتتمثل في أن «الإسلام السياسي» وإن بدت أعينه مصوّبة نحو السلطة، فذلك لا يعني أن مرجعياته سياسية بحتة، وبالتالي يتعين تفكيكها بأدوات سياسية، وعزلها عن سياقها وامتداداتها التاريخية والفكرية. واستطراداً، فغالبية الحركات والأحزاب السياسية لم تنشأ من فراغ، إذ التنظيرات الفلسفية رفدتها على الدوام، وشحنتها بالأمل و «الطوبى»، ما جعل مسؤولية السياسي، ها هنا، إنسانية مطلقة، وهو ما عاينّاه عن قرب في الحركات السياسية الأيديولوجية، سواء كانت قومية، أم يسارية اشتراكية، أم إسلامية.
ولم تكن هذه لتنشأ بمعزل عن المرجعيات الفكرية، ما يخلع عنها صفة أنها سياسية بالمعنى المحض، وفي الوقت نفسه يدفع باتجاه تفكيكها معرفياً، إن شئنا فهم خطابها والوقوف على دينامياته.
وإذا تجـــلّى «الإســـلام السياسي» في أفقه «العمليــّاني» بوضوح في «الإخوان» وامتداداتها، سواء في تركيا (العدالة والتنمية) أو غزة (حماس) أو تونس (النهضة) أو مصر حيث الجماعة الأم التي جرى الانقلاب علـــى سلطـــتها، واعتقال قادتها، ومنهم الرئيس المنتخب محمد مرسي، فلدى هذه النماذج تجارب متقاربة، لكن ليست متشابهة، وإن نهلت في مجملها من معين فكري لم يتوقف عند النصوص التأسيسية المتمثلة في القرآن والسنّة، وإنما تعداه إلى تنظيرات حـــاولت ملء الفراغ السياسي اعتماداً على طاقة تأويلية في تلك النصوص التأسيسية، جعلت الفعل السياسي ذاته يكتسب قداسة مستمدة من قداسة النبع الأصلي.
وفي مركز تلك القداسة وتخلْخله كان معيار الفشل والنجاح، ففيما فاض الخطاب المقدس (حماس، وتجربة مرسي) على السياسي المتحرك المراوغ المتلوّن وفق الظروف، كما في تركيا وتونس، ألفينا أن النصوص لا تحمي الأغرار، والسماء لا تمطر جنوداً مجندة لحراسة الغباء السياسي، وهو ما لا يودّ، ربما، «إخوان» مصر وحماس استيعابه أو التسليم به، فالتحليق أبعد مما يحتمل المنطاد يعني الارتطام بالفراغ!
والتجربتان الناجحتان في تركيا وتونس، والفاشلتان في «إخوان» مرسي، و «حماس»، استندتا في النجاح والفشل إلى مجهود نظري، والفريقان كانا يعيان تماماً أن النصّ «حمّالُ أوجه»، ما يستوجب، إن شئنا تفكيك «ظاهرة الإسلام السياسي»، معرفياً العودة إلى الجذور الفكرية والفقهية التأسيسية لفكر الحكم في الإسلام، والتي تجلت، بما يصلح للدرس، في تجربة معاوية الذي أسّس الدولة الأموية بالسيف والدهاء، منقلباً على ميراث «الشوراقراطية»، ومحيلاً الحكم إلى وراثي كسروي، ومفجّراً سؤال الأخلاق الأكبر المتصل بالغاية والوسيلة.
وعلى رغم أن مَن يحلمون باستعادة دولة الخلافة لا يناصبون مشروع معاوية العداء، لأنهم يؤمنون بالميكافيلية التي تضمن لهم البقاء في الحكم، فإنهم يَسقطون، لشدة حَرْفيتهم وعدم حِرَفيتهم في «وهم المقدس»، بينما أولئك الذين «ينبّشون» عن مقاصدية الشريعة، ويحاولون «تبْيئة» خطابهم بما لا يخدش السلم الاجتماعي، والتوافقات الائتلافية، ويتحركون في دائرة المتاح، يكشفون عن نباهة أين منها «إخوان» مصر و «حماس»؟!
فأن تحكم وأنت تحلم بتطبيق الشريعة، وإحياء طرائق السلف، يعني أنك لم تشهد على تحطيم الأوثان التي ما كان للإسلام أن ينبثق كحركة ثورية لولاها كمحطة رمزية كثيفة الدلالات. ولعل أبرز تلك الدلالات ما وعاه وأدركه على نحو «ديالكتيكي» جماعة «إخوان» تركيا وتونس، عندما أقرّت بضرورة عدم التوقف عن تحطيم الأوثان النصيّة اعتماداً على مجهود تأويلي ألمعي يوائم بين مقتضيات الدين والدنيا.
* كاتب وأكاديمي أردني
الخياة