إياد شربجيصفحات سورية

«الإشاعات» في سورية كوسيلة للسيطرة


إياد شربجي *

في ظل التضييق الكبير على مصادر المعلومات، والخنق المقصود لوسائل الإعلام، وتكريس بديل إعلامي عنها أقل وثوقية ومهنية كالـ «فايسبوك» و «التويتر»، ومع الاستخدام المفرط للعنف من جانب النظام، وما يسببه من استثارة للعواطف، وتغليب للغريزة على العقل، وللرغبة على المنطق، تنشأ أرضية مهيّئة وممهدة تماماً، ووضع مثالي لبثّ الإشاعات وانتشارها وتداولها بأوسع نطاق بين العامة.

من المعروف تاريخياً أن الإشاعات (الشائعات بالفصحى) كانت دوماً وسيلة تتبعها الأنظمة السياسية – لا سيما البوليسية منها – لتمارس سيطرتها على الرأي العام، ولتنشر منظومة قيم وقناعات وأمزجة معيّنة تمكّنها من التلاعب بمزاج المجتمع وتوجيهه وفق ما تريد.

ولعل النظام السوري من أكثر الأمثلة الحية إتقاناً وتفنناً في استخدام هذه الوسيلة لإحكام سيطرته على المجتمع. تاريخ هذا النظام مع الإشاعات يعود إلى بداية ظهور حزب البعث كلاعب سياسي، لا سيما بعد 8 آذار (مارس) 1963. فالحزب الذي تآمر على دولة الوحدة مع مصر هو من اتخذ الوحدة أول هدف في شعاره، ومن سجن وقتل آلاف المطالبين بـ «الحرية» سمّاها له هدفاً ثانياً، ومن أنشأ منظومة فساد ولصوصية – سرقت فيها قلةٌ أموال الكثرة – كانت الاشتراكية هدفه الثالث في شعاره الأممي الإنساني الكبير!

خلال تحقيقه كل ذلك، كانت أجهزة الاستخبارات تتكفل بصناعة وبثّ سيول من الإشاعات لخداع الناس، والتغطية على القضايا الكبرى، حافظ الأسد جوّع السوريين وألهاهم بربطة الخبز وتنكة السمنة في الثمانينات (بالصدفة) بعدما ثارت عليه حماة وحلب ودمشق، وعلى رغم ذلك ما زال كثيرون من السوريين يعتقدون حتى اليوم أن سبب ذلك التجويع إنما كان حصار ريغان وأميركا لسورية بعد مواجهتها أطماع إسرائيل في لبنان عام 1982. ولا ننسى هنا التيارات الشعبية اليسارية التي نشأت حينها في البلاد معلنة نضالها ضد الإمبريالية الأميركية، وصالت وجالت وهتفت وأزغبت وهي تظنّ نفسها فطنة، بينما كان تجار التهريب من النظام يكدّسون ملايينهم وهم يضحكون من المناضلين ومعاداتهم المزعومة للإمبريالية… الإمبريالية ذاتها التي لم يتوقّف الأسد الأب عن اللعب معها تحت الطاولة، فأعلن وفاة جبهة الجولان بدايةً، ثم شاركها حربها على العراق، وقاسمها سلة البيض (لبنان)… كل ذلك كان يحدث بينما نحن نصفق للقائد الرمز الذي واجه بمفرده وحنكته قوى التكبّر العالمي، وخلّصنا من عصابات الإخوان المسلمين العميلة، «العصابات» التي بفعل قناعاتنا التي بناها النظام نفسه من تكرار الكذب والإشاعات (الغوبلزية) لا نزال نرتعد خوفاً من عودتها إلى سورية.

المشهد نفسه يتكرر اليوم في دولة الأسد الإبن، بالمفردات ذاتها، والأسلوب ذاته وعبر الشخوص نفسهم؛ ضباط الأمن أولئك الذين ما زالت عقولهم تعيش تجربة الثمانينات «الناجحة» في السيطرة على المجتمع. فتارة يبثّون إشاعة توحي بأن بشار يريد حل الأزمة في شكل سلمي لكن من حوله يرفضون، في استحضار لتجربة حافظ الأسد وأخيه رفعت، حيث خرج الأول ليعتذر إلى السوريين وكأن ما حدث حدث بغير علمه وموافقته، وتارة أخرى تنتشر إشاعة تتهم حكومة ناجي عطري المقالة بأنها سبب كل مصائب البلاد وسبب الغليان الشعبي، وثالثة أخطر تدعي أن السنّة يقتلون العلويين في حمص، ورابعة تقول إنه تم ضبط أسلحة إسرائيلية في بانياس… وخامسة وسادسة… وألف

هذا غيض من فيض مما نسمعه يومياً، ومما يراد لنا أن نتداوله، وعندما يتم التداول بالطريقة المعتادة ذاتها، فإن مصدر الخبر سيضيع في النهاية، ومع تكرار مرددي الإشاعة يمنةً ويسرة، ستتشكل لدى كثيرين قناعة بأنها صحيحة، ولعل هذا تحديداً ما يعتمد عليه النظام السوري لضمان استمرار خديعة مريديه… أولئك الذين لا يزالون يعتقدون حتى اللحظة بالمؤامرة الكونية، ومجسمات الجزيرة، و«أمـوال بندر والحريري»، والتي تهدف كلها لتدمير نظام الممانعة!

* كاتب وصحافي سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى