صفحات الثقافة

الإطلالات الأولى/ محمود الزيباوي

في نهاية تشرين الثاني 2005، كتب سمير عطاالله في “النهار” مقالة جميلة عنوانها “سبعون البنت السريانية” حيّا فيها فيروز، هذه الصبية “الناحلة التي جاء أهلها من ماردين وأوكلوا اليها، مع الرحابنة، أن توسّع رقعة لبنان”. من يومها، دأب الفيروزيون على الاحتفال بعيد ميلاد نجمتهم في كل عام، الذي يتوافق مع اعلان استقلال دولة لبنان الكبير، كما هو شائع. في هذه المناسبة، نستعيد اليوم صفحات منسية تعود إلى مرحلة البدايات، يوم كانت فيروز تصدح من وراء ميكروفون الإذاعة، ولا تغنّي أمام الجمهور إلا في ما ندر.

لمع نجم فيروز بسرعة في السنوات الأولى من الخمسينات، وارتفعت الأصوات المطالبة بخروجها من ستوديو الإذاعة إلى خشبة المسرح، لكن الفنانة الشابة ظلت “كوكب الإذاعات العربية” الجديد، كما وصفتها مجلة “الإثنين” المصرية في أيار 1953، ولم تغنِّ أمام الجمهور إلا في اطلالات خجولة لا نعرف عنها الكثير. بدأت نهاد وديع حداد مشوارها الفني على الأرجح في نهاية الأربعينات حين دخلت الإذاعة اللبنانية، واختير لها هناك اسم فيروز. ظهر هذا الاسم في لوائح برامج الإذاعة في صيف 1950، واتحد باسم الأخوين رحباني بعد أقل من سنتين. في حديث نشرته مجلة “أهل الفن” في تموز 1955، عاد عاصي إلى تلك الحقبة، وقال: “كنت أقوم بإعداد برامج موسيقية غنائية للاذاعة، وفي يوم دعاني حليم الرومي رئيس قسم الموسيقى بالإذاعة للاستماع إلى صوت جديد، فرأيت فتاة صغيرة تحمل كتاباً، ومعها أبوها، وسمعت صوتاً وقلت “لا بأس”، إلا أنني آمنت أنها تصلح للغناء، وقال أخي إنها لا تصلح إطلاقا للغناء الراقص، وبدأتُ أعلّمها فكانت أحسن من غنّى هذا اللون”.

بحسب هذا الرواية، كانت أول أغنية رحبانية لفيروز، قصيدة “غروب” لقبلان مكرزل، تبعتها سلسلة طويلة من الأغاني واللوحات الغنائية توزعت على ثلاث إذاعات، هي إذاعة لبنان، وإذاعة الشرق الأدنى، والإذاعة السورية. يخبرنا محرّر مجلة “الإثنين” أن هذه المحطات الثلاث كانت تذيع يومياً “ثلاث أغنيات على الأقل لفيروز”، وكان العدد يبلغ بعض الأحيان العشر في برنامج “ما يطلبه المستمعون”. كانت المغنية يومها صبية “لا تزال طالبة في المدرسة، يحمرّ وجهها خجلاً اذا قال لها أحد: صباح الخير. وقد بدأت تغنّي في فرقة الكورس بمحطة إذاعة بيروت، إلى أن اكتشفها الأخوان رحباني، وتعاقدت معها محطة إذاعة دمشق على تسجيل عشرات الأغاني، فارتفع اسمها مرةً واحدة حتى طغى على الجميع، وارتفع بذلك كسبها من خمسين ليرة لبنانية، إلى خمسمئة على أقل تقدير”. في تلك الأيام، مرّ النجم المصري عبد العزيز محمود ببيروت، وسمع فيروز، وعرض عليها عقداً للعمل في السينما، فاعتذرت وقالت: “بعدين، لمّا إكبر”. بعدها، ذهب أنور وجدي إلى بيروت، وراح يبحث عن فيروز، “ولكن الفتاة الخجولة كانت مشغولة بدروسها، فلم تتح لها فرصة مقابلة النجم السينمائي والمنتج المغامر”.

متى خرجت فيروز من الإذاعة إلى فضاء الغناء الحي؟ تقول السيرة الرسمية إن هذا التحوّل تمّ في صيف 1957، يوم غنّت فيروز في بعلبك “لبنان يا أخضر حلو” في “مهرجان الفن الشعبي اللبناني” الأول، غير أن العودة إلى السنوات التي سبقت هذا الحدث، تكشف عن إطلالات نادرة باتت اليوم منسية ومجهولة. في كتابه “الرحبانيون وفيروز”، عاد جان الكسان “إلى الوراء، إلى الخمسينات، إلى بدايات فيروز”، وتوقّف عند “حكاية لا يعرفها الكثيرون، تروي جانباً من سيرة هذه الفنانة التي احتلت الصفحات الأولى من أشهر صحف العالم”. “يروي الحكاية أحمد عسة، الذي كان مديرا لإذاعة دمشق في تلك الأيام، والذي كان له دور كبير في احتضان فن الرحبانيين وإطلاقه من الإذاعة السورية”، كما يروي الكاتب السوري. في كتاب “طريق النحل”، يقول منصور رحباني ان إذاعة دمشق كان لها الفضل الأكبر في نشر أعمال فيروز لأنها “عهدئذ كانت قوية البث، وكل ما يذاع منها يشيع”. تبنّى مدير الإذاعة أحمد عسة فيروز وعاصي ومنصور في أواخر عام 1951 ووضع إمكانات الإذاعة في تصرفهم، و”كان متطورا ويحب كل جديد، حتى أنه استورد سمفونية ماركة “بتروف”، وأرغم جميع عازفي الإذاعة أن يتعلموا عليها مع مدربين جاء بهم خصيصا”.

حضن مدير الإذاعة السورية فيروز في بداياتها، وكان كما يبدو عرّاب ظهورها الأول على المسرح. يروي أحمد عسة: “كانت فيروز آنذاك صوتاً من غير صورة. كانت تتهيّب الظهور أمام الناس، حتى في غرفة مقفلة، وترتجف كورقة عريش في مهب الريح، ولأن موجة الشباب في سوريا قد أنست لصوتها، وأحبّته، فقد قمنا بمحاولة لإظهارها على المسرح للمرة الأولى. وكم كانت المحاولة شاقة، فهناك حفلة لطالبات دوحة الأدب، تخصصت في تبنّي “رقصة السماح”، في نادي الضباط، وكان هناك اصرار على ظهور فيروز، الفتاة الخجول، والواجمة، المترددة، ولكن تغلبنا على هذه الصعوبة عندما أفهمناها انها ستحاط بمجموعة من بنات العائلات، وستكون جزءاً من كل، لا وحيدة وسط الأضواء، وفي هذا الجو المدرسي، وبالتنورة وبالبلوزة اللتين أصرّت على ارتدائهما في تلك الحفلة، والاستغناء عن أيّ فستان آخر. هكذا ولدت فيروز المسرح بعد فيروز المايكروفون”. ينقل جان الكسان هذه الرواية، من دون ذكر تاريخ هذا الحدث ومكانه. في عدد من مجلة “الصياد” يعود إلى التاسع عشر من شباط، نقع على مقال قصير يتألف من جملة واحدة: “كانت المطربة فيروز كوكب الحفلة الفنية التي أقامتها لجنة مؤازرة التسلح في دمشق، فقد استطاعت هذه الفتاة الصغيرة أن تمتلك عواطف الجمهور بأغانيها الخفيفة الراقصة”. تتضح الصورة في مقالة نشرتها مجلة “الفن” المصرية في العاشر من آذار، على الصفحة المخصصة لأخبار “الشرق”، أي سوريا ولبنان، وهي من توقيع محمد بديع سربيه، محرر هذه الزاوية في السنوات الأولى من الخمسينات: “في دمشق حركة مباركة تقوم بها نخبة من سيدات دمشق الراقيات، وتهدف هذه الحركة إلى جمع تبرعات من المواطنين السوريين لمؤازرة حركة التسلح في الجيش السوري وامداده بالعدة الكافية حتى يظل حصن الوطن الذي يمنع عنه خطر العدو الجاثم على الحدود. وقد أقامت لجنة مؤازرة التسلح مهرجاناً كبيراً في قاعة سينما دمشق في رعاية رئيس الدولة الزعيم فوزي سلو وسعادة العقيد أديب الشيشكلي رئيس الأركان العامة للجيش السوري. وقد دعت اللجنة نخبة من الصحافيين اللبنانيين لحضور هذا المهرجان ووضعت تحت تصرفهم سيارات عدة لنقلهم من بيروت إلى دمشق، كما نزل الصحافيون اللبنانيون في ضيافة الحكومة السورية مدة يومين. أما برنامج الحفلة فقد نظّمه الأستاذ أحمد عسة مدير الإذاعة السورية وتطوع للغناء فيه كبار المطربين اللبنانيين. فغنّى حليم الرومي “ذكرى بردى” للأخطل الصغير، وأنشدت المطربتان فيروز وحنان بعض أغانيهما الجميلة، وغنّت سعاد محمد قصيدة “إذا الشعب”، هذا عدا المقطوعات الممتازة التي قدّمتها الفرقة السمفونية الجديدة للإذاعة السورية، عدا الإستعراض الجميل الذي قدّمته سيدات دمشق وعرضت فيه صورة زاهية للفن الشعبي السوري. وقد أقام العقيد الشيشكلي حفلة غداء في نادي الضباط على شرف أعضاء الوفد اللبناني ألقى فيها الأستاذ الكبير ميشال أبو شهلا قصيدة رائعة حيّا فيها ثورة دمشق الحديثة ووثبتها الجبارة نحو النور والحرية والكرامة وكانت هذه الزيارة بمثابة بادرة طيبة من الحكومة السورية دلت على رغبتها في وضع حد نهائي للجفاء الذي قام بين لبنان وسوريا في العهود الماضية”.

في أكثر من حديث، ذكرت فيروز أنها غنت في بداياتها على أحد مسارح دمشق قصيدة “عنفوان” لعمر أبو ريشة، بمرافقة فرقة سمفونية كبيرة، إضافة إلى عدد من الأغاني السريعة، منها “يا قطعة من كبدي” للأخطل الصغير. يمكن القول اليوم إن هذا المسرح كان خشبة “سينما دمشق”، في حفلة فنية “أقامتها لجنة مؤازرة التسلح”، كما جاء في مجلة “الصياد”. نشرت مجلة “الفن” في تقريرها ثلاث صور، منها صورة تمثل فيروز وحنان معاً على المسرح أمام الميكروفون. والمعروف أن حنان مطربة لبنانية ظهرت قبل فيروز في السنوات الأخيرة من الأربعينات، وأدت دور البطولة في فيلم “عروس لبنان”، وشاركت في الكثير من الأعمال الرحبانية قبل انتقالها إلى أميركا. سجّل عاصي ومنصور مجموعة من أعمالهما بصوت الثنائي “حنان وفيروز” الذي عُرف أيضا باسم “لما ولميا”، وبعض هذه الأغانب محفوظ في المكتبات الإذاعية، منها “يا ساحر العينين”، “غيب يا قمر”، “سميرة”، “مهى”، “سلمى”، “سلام المحب”، “عدنا رأيناها”، “منك زهرة ومني زهرة”، و”العبي وامرحي”.

لم تتكرّر هذه التجربة في السنوات التي تلت، على الرغم من بروز اسم فيروز واتساع نشاطها الإذاعي بشكل فاق كلّ تصوّر. تكرّرت المطالبة بخروج النجمة اللبنانية الصاعدة إلى المسرح، وباتت صاحبة “عتاب” هذه المطربة التي “تهاب المجد”، كما وصفها سليم اللوزي في تشرين الأول 1953. في تشرين 1954، سجّلت الصحافة ظهور فيروز في سهرتين نادرتين. كانت الأولى في فوار انطلياس، وحضرها عدد من كبار الفنانين المصريين، برفقة نديم سبيريدون، أشهر موزع أفلام في تلك الحقبة. رصدت مجلة “الصياد” هذا الحدث، وقالت إن فيروز يومها “غنت كما لم تغنّ قط”. احتشد حول النجمة الشابة “ستون رجلا وسيدة يجلسون حول مائدة الشراب، وكأنهم في دير أو في معبد”. شكل يوسف وهبي ومحمد فوزي وأمينة رزق جوقة ترافق فيروز في “يا با لا لا”، أشهر أغانيها في مصر. واستمع الجهور طوال ساعتين إلى فيروز “ووجهها يلتهب بحمرة الخجل”. قال يوسف وهبي: “الكسوف فنون”. وقال صالح جودت في الختام: “إن لبنان لم ينجب أنبياء ومرسلين من السماء، لكنه أنجب أنبياء في الفن والموسيقى والجمال. ولا ريب أن وجود فيروز بيننا الليلة يثبت فعلاً أن لبنان هو موطن الآلهة”.

حضر الصحافي أنور أحمد هذه الأمسية الاستثنائية، وكتب في “الكواكب” مقالة عنوانها “كأس عرق في ظل نبع الفوار”، جاء فيها: “وكان الليل قد أقبل عندما انطلقت بنا السيارات من بيروت إلى ضاحية انطلياس على طريق ضهور الشوير، وهناك جلسنا في قهوة نبع الفوار عند سفح الجبل، حيث يتفجّر الماء تحت أقدامنا من باطن الأرض، صافياً كعين الديك، عذباً كالرحيق، بارداً كذوب الثلج، ثم يترقرق في قنواته بين الموائد المتناثرة في أرجاء المكان، وأقبلت أسراب الأوز الأبيض تسبح على صدر الماء لتكمل اللوحة الفائقة التي تألّقت الطبيعة في إبداعها. وبين أقداح العرق، وأطباق الكبيبة والدجاج المشوي، ارتفع صوت فيروز تهزج بأغاني الجبل، فتردد عشرات الأصوات ألحانها في إيقاع جميل يحكي فرحة الحياة. ان هذه الفتاة الشاحبة، الواسعة العينين، التي لا تضع على وجهها ذرة من المساحيق أو الدهان، والتي تكاد تذوب حياء، تكتسي بجمال روحي عبقري عندما تغنّي، وينبعث من عينيها الواسعتين ذلك البريق الهادئ الحزين”.

بعد انطلياس، غنّت فيروز في دار سلمى الحفار الكزبري، واحتفلت يومها “الصياد”، كعادتها، بـ”فيروز في دمشق”، وكتب محرّرها: “لا شك أن سلمى الحفار الكزبري ليست فقط من أديبات سوريا الراقيات. بل هي أيضا من أوفرهن تذوقاً للفن وطرباً للصوت الجميل، وخصوصاً إذا كان صوت المطربة فيروز. فهي من هذا القبيل زعيمة الفيروزيين والفيروزيات وحاملة لواء الطرب الرفيع في القطر الشقيق. للتدليل على ذلك كله، أقامت أديبة دمشق الراقية في الأسبوع الماضي حفلة ساهرة في منزلها العامر دعت إليها فيروز وعاصي رحباني وبعض الأسر اللبنانية الذين انضم اليهم لفيف من عائلات دمشق وأدبائها وفنانيها. وقد غنّت فيروز في هذه الحفلة أربع ساعات متوالية مرّت كأنّها أربع دقائق. وأنشد فيها بدوي الجبل قصيدة من أروع الشعر، مهّد لها بقوله إنه لو خُيّر بين سماع مئة مطربة هنّ على مقربة منه وبين سماع فيروز على بعد ألف كيلومتر، لفضّل قطع المسافة سيراً على قدميه والإصغاء إلى صاحبة الصوت الملائكي الدافئ. هذا وقد كانت صاحبة الدعوة وزوجها الكريم الأستاذ نادر الكزبري المدير العام لوزارة الخارجية السورية يشيعان بين المدعوين جوّاً من الأنس والإلفة بما فطرا عليه من الذوق الرفيع واللطف البالغ. ان دمشق سوف تذكر دائماً هذه الحفلة وسوف تتخذها دليلاً قوياً على أنّ ما قطعته السياسة الفاسدة بين البلدين قد استطاع الفن أن يجمعه بأواصره المتينة”.

في “طريق النحل”، ذكر منصور رحباني قصيدة “من نعيماتك لي”، أي “خالقة”، وأضاف: “شعر بدوي الجبل الذي أذهله صوت فيروز فتعرّف بنا وأعطانا من شعره”. في إطلالة تلفزيونية نادرة، عاد الشاعر السوري الكبير إلى هذه القصيدة، وقال: “أحبّ أي كلام تغنّيه فيروز، فكيف إذا غنّت من شعري خالقة”. تلك هي فيروز، “الفتاة السريانية” التي بدأت كبيرة، وحصدت منذ بداياتها إعجاب الخاصة والعامة. بعد حفل دمشق في دار آل الكزبري، تزوجت “المطربة الخجول” من معلّمها عاصي رحباني في الثالث والعشرين من كانون الثاني 1955، وطارت من ثمّ إلى القاهرة تلبية لدعوة من إذاعة “صوت العرب”. في نهاية ذلك العام، كتب صالح جودت في “الكواكب” مقالة تذكّر فيها سهرة “ربى الفوار، وأضاف: “فيروز معجزة من معجزات الغناء في هذا العصر، وفي رأيي أنها صاحبة أنقى صوت بعد أم كلثوم”. في حزيران 1958، استعاد الشاعر المصري من جديد ذكرى تلك الليلة، وقال: “صعدنا إلى كازينو لطيف يقع عند قمة ربوة الفوار المندفع من بين الصخور، وجاءت ربة الصوت الحريري، فيروز. وكانت هذه أول مرة أسمع فيها صوت فيروز، بل اسم فيروز. وغنّت ربة الصوت الحريري. غنّت فصعدت بنا إلى الجبل إلى ما فوق الجبل، إلى السماء”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى