صفحات الرأي

الإعتداد بالديموغرافيا ورهانات الركود والفرز والطفرة/ وسام سعادة

 

 

الديموقراطية ديموغرافيا. الحرب الأهلية أيضاً ديموغرافيا. لا يسع الديموقراطية في أي مجتمع سياسيّ تقوم فيه أن تتحلّل من دواعي استطلاع المعطيات الديموغرافية، من عدد ومن نسب توزّع السكّان، بحسب الانتماءات اللاطوعية في المقام الأول. بخلاف صناديق الاقتراع حيث يمكن احتساب الأصوات بدقّة، ليس هناك أي احتساب «دقيق» للنسب الديموغرافية، ولا يعود الأمر فقط لعوائق «تقنية» يمكن أن تزال بتحسينات «تقنية»، بل ان الديموغرافيا هي أيضاً مسألة مشتهى وخيال، وهي «مخيلة الديموقراطية» نفسها، كما أنها المخيّلة الملازمة لأي حرب أهلية في العصر الحديث.

قد يحدث استطلاع النسب الديموغرافية خلسة أو مجاهرة، وستتباين في كل الحالات طرائق استبعاده واستحضاره الى حلبة التزاحم السياسي والأضواء الإعلامية المواكبة لها، وقد يجنّد له علم الإحصاء الحديث، الذي لا يقفل أبواب التوظيف المعياريّ بل يتيحها بأشكال تمدّ مطوّعيها بسلاح «العلمية». وقد تفرض ثقافات التخمين نفسها بلا منازع، فتعيّن الهويّات المختلفة النسب الديموغرافية المتخيّلة التي تعجبها، سواء برفع هذه النسب اذا كان المقصد رفع مستوى التمثيل والمشاركة والمحاصصة، أو بتخفيضها دراماتيكياً اذا كان المقصد التنبيه الى خطر استنزافيّ وجوديّ يحدّق بهذه الجماعة ويهدّد استمراريتها في موطنها.

من يعاين كتابات الأوروبيين الغربيين عن المسلمين في القرن التاسع عشر سيلاحظ أنّ الحجّة الأساسية للتثبّت الغربي من جمود العالم الاسلامي كانت جموده الديموغرافي. الأرشيف في متناول الجميع ويظهر كيف كان يتوقّع مراقبون غربيون أن تعود نسب الأكثرية والأقلية فتنقلب لصالح المسيحيين في بلاد الشام، بل أن اعادة بعث مسمّى «سوريا» بعد قرون مديدة على اندثاره، كان يرتبط بهذا التقدير الذي تقاسمه البلديّون والمستشرقون، من أن بلاد الشام وكيليكية في طريقها لأن تشهد انقلاباً ديموغرافياً يصير فيه المسيحيون هم الأكثرية.

هذه التقديرات، بما ولدته من انتظارات مسيحية غير مسندة، ومن مخاوف اسلامية تنامت بعد الاستفادة المسيحية من حملة ابراهيم باشا في سوريا، لعبت دوراً أساسياً في تغذية العنف الطائفي في بلاد الشام وصولاً الى مجازر جبل لبنان ودمشق.

في الوقت نفسه، فإن «سوريا» هذه، التي «ألّفها» التقاطع الاستشراقي الغربي – المسيحي البلديّ – الاصلاحي العثمانيّ في عصر التنظيمات، والتي كان تخيّلها طيلة القرن التاسع عشر كياناً له طابع مسيحي، تحوّلت بعد التقاسم الاستعماري للمنطقة الى هوية يفترض من شعب أكثريته الساحقة مسلمة عربية سنّية أن يتدبّرها، بدءاً من اعلان «المملكة العربية السورية»، فيما تحوّل الحلم السابق بقلب الموازين الديموغرافية على صعيد «سوريا ككل» الى مطلب بالانشقاق عن سوريا هذه، وانشاء بلد له أرجحية ديموغرافية مسيحية هو لبنان، ولبنان الكبير هذا استبقى المشروع الذي كان مقدّراً لكامل سوريا في القرن التاسع عشر، وحدّده على مقاسه، منطلقاً من واقعة أن الأرجحية الديموغرافية المسيحية فيه يوم انبثاقه قائمة بالفعل ومتينة، ومن أن التجانس الاثني بين مسيحييه بفعل التمركز حول الكنيسة المارونية والجبل اللبناني لا يقارن بالتشتت الديني والثقافي والمناطقي لمسيحيي سوريا، خصوصاً اذا ما احتسبنا ضمن الجغرافيا الخيالية لهذه الـ»سوريا» الرها وكيليكية وما جرى على السريان والأرمن فيها من مجازر.

من الطريف للغاية اليوم أن قرناً ونيّف من حضور «هاجس قلب الموازين» الديموغرافية لصالح المسيحيين في بلاد الشام، لم يعد له مكان في أي مقاربة حول مسيحيي الشرق الأدنى والخطر الذي يتهدّد بقيّتهم الديموغرافية مطلع هذه الألفية. من الطريف كذلك أن يستمر الادغام الحاصل بين الاسلام وبين الطفرة الديموغرافية في الغرب اليوم، دون أن تجد من يذكّر الغربيين من أن أجدادهم كانوا يتخيّلون العكس تماماً في القرن التاسع عشر، وكان يبدو أن العكس صحيح، فقبل أن يكون السؤال «لماذا يتقدّم الغربيون ويتأخر الشرقيون؟» كان السؤال «لماذا يتراجع ديموغرافياً المسلمون ويتقدّم غير المسلمين ديموغرافياً سواء في ديار الاسلام أو خارجها؟». السؤال الأخير كان سؤال القرن التاسع عشر بامتياز.

وفي عاصمة السلطنة، الأستانة نفسها، كان تقدير الممهدين للحركة القومية اليونانية الحديثة، أن النسب الديموغرافية اختلت كثيراً لصالح المسيحيين، بدءاً من العاصمة ذات الأكثرية المسيحية منذ محمد الفاتح وحتى القرن العشرين، وضفاف بحر ايجه من الجهتين، وسائر البلقان، عدا الألبان – الأرناؤوط – والبوشناق، وكانت الأكثرية بين الألبان تحولت الى اسلامية ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، أي لا تزال حديثة العهد.

في البدء، كانت القناعة لدى المثقفين اليونانيين البرجوازيين المنتمين الى منطقة «الفنار» بالأستانة أنّه بالمقدور استثمار صعود روسيا القيصرية من جهة، ومكتسبات عصر التنوير الغربي من جهة ثانية، لتحويل السلطنة ككل الى «جمهورية هيلينية»، متكئين على التصور الديموغرافيّ لهم. فقط حين اصطدمت هذه الأحلام بمنعة السلطنة، وبرفض بطريركية القسطنطينية المسكونية، اللائذة بالسلطان خوفاً من مصادرة دورها من قبل روسيا، ومن مصادرة رعيتها من قبل الأفكار الغربية، فقط حينذاك تحوّلت الحركة القومية اليونانية الى المناداة بالانفصال عن السلطنة. والنتيجة كانت تاريخاً من التهجير المتبادل: تهجير المسلمين بنسب كبيرة من الدول الوطنية التي انشقت عن السلطنة في البلقان، ونكبة الأرمن في نهايات السلطنة و»يونانيي آسيا» في الحرب مع مصطفى كمال.

سواء في الأستانة واليونان أو في سوريا القرن التاسع عشر، كانت المسألة الشرقية في بعد أساسي منها مسألة «ديموغرافية»: المسيحيون يتكاثرون أكثر من المسلمين. في الهند أيضاً، نشأت القناعة الموازية: الهندوس يتكاثرون في البنغال أكثر من المسلمين، فكان تقسيم البنغال التوطئة لتقسيم أليم لشبه القارة نفسه بعد ذلك بعقود، وبأكبر عملية ترحيل في التاريخ.

الوضع في القرن التاسع عشر يختلف كثيراً عن القرن العشرين، وما شهده نصفه الثاني تحديداً، من طفرة ديموغرافية اسلامية جعلت من الطفرة الديموغرافية والاسلام يقترنان ببعضهما البعض في النظرة الغربية الحالية، ولكن أيضاً في النظرة الروسية أو الهندية أو حتى الصينية. ما عاد أحد يمكنه أن يتخيّل انه قبل مئة عام فقط كان ثمة من يتصور ان باكو ستكون جزءاً من أرمينيا، أو ربما عاصمتها، أو أن ازمير ستكون جزءاً من اليونان، ومن بمقدوره أن يتعامل بجدّية اليوم مع كون أطماع البلغار في الاستئثار باستنبول وتحويلها الى عاصمة لأمّتهم، احدى الأسباب الوجيهة للحرب العالمية الأولى؟!

لأجل ذلك، لا أهلية لأي منطلق يقول «تعالوا لا نفكّر بالديموغرافيا، تعالوا نفكّر بدلاً منها بالديموقراطية». فالـ»ديمو» لا يسعه أن يفصل بهذا الشكل بين «غرافيته»، أي عدده وأشكال توزّع هذا العدد، وبين «قراطيته» أي قراره. الى حد ما، الديموقراطية في مجتمع تحضر فيه الانقسامات اللاطوعية بشكل بارز تكون بالتنظيم السلمي لعملية تداول المعطيات الديموغرافية فيه، وهذه تعني طبعاً عملية تداول المتغيرات الديموغرافية، فليس ثمة ديموغرافيا ساكنة ومحافظة على النسب نفسها، كما ليس ثمة ديموغرافيا غير متخيلة، لأنه وبالعودة الى بندكت اندرسون فإن كل جماعة لا يعرف أفرادها بعضهم بعضاً فهي جماعة متخيلة، وهذا لا يعني أبداً أنها غير موجودة، والأعداد جزء من أي مخيال. أيضاً ليس ثمة اجتماع بشري قائم فقط على الانقسامات الارادية. لا اجتماع بشرياً من دون انقسامات لاطوعية، تزيد أو تنقص، وتثبت لفترة في الظاهر ثم يظهر تبدّلها.

كانت رحلة القرنين الماضيين هي رحلة الانتقال من تصوير الركود الديموغرافي للمسلمين وصولاً الى اعتباره حجة عليهم، ونشأة الفكرتين اليونانية الحديثة والسورية الحديثة على هذا الأساس، لتسلك كل منها طريقاً مختلفة كثيراً عن الثانية، الى تصوير الطفرة الديموغرافية للمسلمين، بين من يعتبرها حجّة لهم، وينتظر يوم تحوّلهم الى أكثرية عددية كوكبية، وبين من يعتبرها، «مالتوسياً» حجّة عليهم، بل ان «الاسلاموفوبيا» اليوم مظهرها الأساسي هو «رُهاب العدد».

بالتوازي، يحضر مآل «ديموغرافي» للانقسام المذهبي بين المسلمين، وينسج أيضاً مخياله الخاص، الذي يصعب على المتعاطين معه تفهّم جملة أمور في وقت واحد: اوّلها أنه اذا كان متخيّلاً، ومركّباً، بعملية انشاء لها سياقها وعناصرها، فهذا لا يعني انه وهميّ وزائل، بل العكس تماماً. وثانيها أنّ المآل الديموغرافي الحالي للانقسام المذهبي بين المسلمين لا يختصر التاريخ الديموغرافي المستعاد بحثياً، للانقسامات المذهبية بين المسلمين وهو تاريخ في غاية التبدّل والتعقيد خصوصاً وأنه في جزئه الأكبر قائم قبل ظهور الهموم الديموغرافية المرتبطة بالحداثة، والحداثة ليست الا عمليات فرز واعادة فرز للسكان، بما يقتضي تارة «توليدهم بداعي الفرز»، وتارة «اماتتهم بداعي الفرز».

كذلك، جغرافيا الانقسام المذهبي لا تجعل الاعتداد بمفهوم «الأكثرية» أو التترّس بمفهوم «الأقلية» له ما يسنده ويقيم أوده في كثير من الحالات، فأن تقول مثلاً «أكثرية مسلمي شمال افريقيا على مذاهب أهل السنّة» ثم تقول «أكثرية مسلمي المشرق العربي على مذاهب أهل السنّة»، فأنت لا يمكنك أن تعني حتماً الأمر نفسه في الحالتين، ليس فقط من باب العدد، لكن أيضاً من باب «مغزى العدد»، وشروط «الاعتداد» به، ولنا في ذلك تفصيل آخر يعتني بـ.. «عرب آسيا» ومخيالهم الديموغرافي.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى