الإعدام والديمقراطية/ فتحي المسكيني
للفلسفة علاقة قديمة جدّا بالإعدام، بل ربما كانت تستمدّ من واقعة الإعدام بذرة روحها الأولى: إنّ يوم إعدام سقراط (399 ق.م.) هو اللحظة الاستثنائية التي حوّلت حكماء الإغريق إلى فلاسفة، نعني إلى “محبّين” لذلك النوع من “الحكمة” التي يمكن أن تقتل. كان الإعدام اليوناني يتمّ في شكل انتحار إجباري. أمّا من اتهم سقراط فهم ثلاثة: سياسي (أنيتوس) وشاعر (ميليتوس) وخطيب (ليكون). لكنّ من اقترح عقوبة الإعدام هو الشاعر. لن يتغلّب على الحقيقة سوى وهم مناسب. تهمة سقراط هي: عدم توقير آلهة المدينة وإدخال آلهة جديدة وخاصة إفساد الشباب بالأسئلة. لكنّ سبب الحكم بالإعدام هو الأسئلة العمومية المزعجة. سقراط كان شيخا مزعجا للسلطات بأسئلته الشابة. ذاك الشخص، الذي يقضي ساعات طويلة إمّا يسأل الناس عن حدود عقولهم، أو يبقى في الساحات العمومية واقفا لا يتحرك غارقا في ضرب من التأمّل المتجمّد يجادل نفسه، دونما حاجة إلي أيّ كان،- هو الذي تمّ الحكم عليه بالإعدام. الموت هو الوسيلة الأخيرة لإسكات الأسئلة المزعجة للحكام، ولكن أيضا لكسر الأصنام العمومية الواقفة أمام سير الدولة نحو بسط سلطتها.
لذلك فالموت له طبيعة واحدة وكلّ استعمال عمومي له هو قتل محض. لا يمكن للموت أن يتحوّل إلى أفق أخلاقي لأيّ مؤسسة مهما كانت نبيلة. من أجل ذلك فإنّ عقوبة الإعدام، التي لازالت بعض الدول تعوّل على خدماتها الاستثنائية، هي أفظع علاقة قانونية يمكن أن تقيمها مؤسسة الحكم في أيّ عصر مع محكوميها. فإنّه لا يجوز لأحد أن يستعمل الموت كتقنية حياة أو كأفق للحياة. طبعا، ليس الإعدام الحديث بدعة أمنية. بل هو جزء من تاريخ القتل الذي طوّره النوع البشري وعوّل عليه في تأمين بقائه الطويل على الأرض. ومهما تعددت الأسباب فإنّ القتل كان دوما أداة بقاء نموذجية لتدبير البشر. ونحن نقع فقط في مرحلة من مراحل تاريخ القتل.
ثمّة قتل حيواني (الأمر الغريزي بالقتل) ، افتراس صرف للحم البشري؛ وثمّة قتل قبلي (أمر العائلة بالقتل)، يمنع الأجساد من تغيير الانتماء. وثمّة قتل ديني (الأمر الإلهي بالقتل)، قتل مؤمن، قتل مقدّس، يرتّب علاقة الجماعات المتألّهة على غيرها بالآخرة، كجهاز خلاص رسمي لمن لا خلاص له على الأرض. وثمّة قتل طبّي (أمر الطبيب بالقتل)، يستمدّ مشروعيته من اليأس العلمي من قدرة جسم ما على الاستمرار في الحياة، فيقايض نهاية الألم بالموت كإجراء احترازي. وثمّة قتل حربي (أمر الجيش بالقتل)، قتل عرضي، غير شخصي، قتل بريء لا يقصد موت أحد، لكنّ ذلك لا يمنعه من قتله. – قُتل الناس بالحيوان والقبيلة والدين والطب والحرب والقانون.
لكنّ القتل القانوني هو القتل الوحيد الذي يدّعي أنّه عادل إزاء المقتول. ومن ثمّ أنّه يصدر عن حقّ ما في القتل. وهذا الحقّ الصريح والرسمي في القتل هو عقوبة الإعدام باعتباره الحلّ الأخير لردع القاتل الذي لم يعد يردعه أيّ شيء، لا الدم ولا الولاء ولا الدين ولا الأخلاق ولا القانون، عن أن يلحق الموت بشخص آخر أو بمجموعة من الأشخاص. قتل الآخر كعمل وحشي وفارغ من أيّ تبرير ولامشروط ومحض، هو الذي جعل عقوبة الإعدام تبدو مستساغة ومسوّغة وقابلة للتبرير.
ومع ذلك علينا أن نسأل: هل ثمّة فرق حقيقي بين الإعدام (القانوني) وبين القتل (غير القانوني) ؟ ما الفاصل بين قتل بالدولة وقتل بلا دولة ؟ وعندئذ ما هو الإعدام ؟
الإعدام هو استعمال أداتي واصطناعي للموت ضدّ جسد بشري أعزل بواسطة مؤسسة القتل المتاحة في عصر ما. الموت كنوع من الهشاشة الأنطولوجية التي لا يمكن إصلاحها في النوع البشري. والقتل هو ابتزاز هشاشتنا، واستثمار قابليتنا للموت كتهمة لانهائية ضدّنا.
ولكن ما هو الشيء الذي لا يُغتفَر والذي يبرّر اللجوء إلى عقوبة الإعدام ؟ – إنّه ليس شيئا آخر سوى اقتراف الموت نفسه. ولكن هل الموت ضرب من الدَين ؟ أليس ثمّة وسيلة أخرى لإعادة الموت سالما إلى مكانه ؟ أليس هناك طريقة أخرى لتسديد دين الموت ؟ ولكن، لماذا نعترض على عقوبة الإعدام ؟ أليس القتل هو المطهّر الوحيد للقتل ؟ هل نعترض على الإعدام لأنّه فعل فظيع، لا يمكن لحواسّنا الحديثة المترفة بكل أنواع التحضّر، أن تتحمّل رؤيته أو حتى سماع خبره اللعين ؟ لأنّه إجراء متوحش، ينطوي على قسوة لا متناهية، تدمّر قدرة البشر على الألم وتحوّلهم إلى مواد أو أشياء ترابية، أم نعترض عليه لأنّه جزء خبيث من تصوّر نسقي للعنف الذي اخترعه النوع البشري وأقام عليه بقاءه الطويل على الكوكب ؟ هل فعل الإعدام هو المشكل أم أنّ الجهة التي تصدر عقوبة الإعدام هي المعترض عليها فعلا ؟ هل الموت أم القتل ؟
ثمّة فرق كبير بين التفكير في الموت وبين ذهنية القتل. لا تصدر عقوبة الإعدام عن تفكير فلسفي في معنى الموت في أفق النوع الإنساني، بل عن تدبير صناعي وخبيث لتقنيات القتل التي طوّرتها أجهزة السلطة منذ ظهور أوّل أنواع العيش معاً بين الحيوانات البشرية. وإنّ التقدم الوحيد الذي حققته الدول المعاصرة إزاء موتنا هو في وسيلة القتل أمّا عقوبة الإعدام فلم تتغيّر.
أجل، لم تعد وسيلة الإعدام هي الرجم أو سلخ الجلد أو تقطيع الأوصال أو نزع الأحشاء أو السلق أو الصلب أو الحرق أو قطع الرأس أو المبارزة،…كما أنّ سبب الإعدام لم يعد هو الثأر أو السبي أو الغزو أو السرقة أو الجنس أو الشرك أو قطع الطريق أو قطع الأشجار أو الغياب أو الهروب أو السلب،…
بل صار الإعدام أنيقا ونظيفا وخاطفا. تمّ التعويل أوّل الأمر على الموت شنقا أو رميا بالرصاص؛ لكنّ الغاز أو الكهرباء أو الحقنة أقصر إيلاما وأسرع موتا. بعبارة واحدة: صار الإعدام أكثر إنسانية ( ! )
ولكن هل يمكن فعلا أنسنة القتل ؟
لقد ظلّ الإعدام دائما متعلقا بجريمة تجاه المجموعة التي ننتمي إليها. وهي جريمة تتم دوما في الجمع. كل إعدام هو إعدام انتماء، وليس شيئا آخر. فليس هناك إعدام بسبب جريمة تجاه أنفسنا. ولكن في المقابل، لا يكون الإعدام إلاّ في المفرد، حتى ولو كان المعدمون شعبا كاملا. لذلك ليس ثمة ما يضع قيمة الانتماء إلى أمة أو شعب ما موضع سؤال مثل عقوبة الإعدام: لأنّ من يدّعي الحق في إعدامك ينبغي قبلُ أن يكون قد امتلك الحق في حياتك. ثمّة توازن رعب بين الحق على الحياة والحق على الموت هو الذي تتأسس عليه ظاهرة الدولة. وهي لم تخترع هذه المفارقة بل ورثتها عن التاريخ السحيق لفكرة الألوهية على الأرض. وحده إله خالق يمكنه امتلاك الحق في الحياة والموت البشريين.
ولذلك مهما كانت طبيعة الجهة التي تصدر عنها عقوبة الإعدام فهي غير مخوّلة أصلا لافتكاك النفس الإنسانية من صاحبها. فهل يمكن فعلا لإله ما أن يأمر بالقتل ؟ هل ثمّة ألوهية قاتلة ؟ هل من معنى لعدالة تقتل ؟ وهل يجوز فعلا إقامة العدل بواسطة القتل ؟ أو الدفاع عن الحياة بواسطة الموت ؟ هل ثمّة قيمة تستحق أن نقتل من أجلها ؟ أيّ علاقة بين القتل والعقاب ؟
يبدو أنّ القتل جزء لا يتجزّأ من ثقافة العدل التي أقامت عليها الشرائع الإنسانية صلاحيتها المعيارية إلى حدّ الآن. لقد ظلّ معنى العدل رهين فكرة القانون التي يصدر عنها. لكنّ القانون إلى حدّ الآن لا معنى له من دون قدرة على الإساءة، نعني على العقاب. وهكذا نحن أمام مفارقة عميقة في وجود النوع البشري منذ أن وضع مصيره بين أيدي الدولة كشكل مميّز ورسمي لحفظ بقاء النوع: لا يمكن إرساء العدل إلاّ بواسطة القدرة على العقاب، نعني على القتل. الدولة في أيّ عصر هي جهاز العنف الشرعي الذي تحوّل إلى قانون يُحترم باعتباره طريقة العدل الوحيدة والرسمية.
لكنّ عقوبة الإعدام هي الحالة الاستثنائية التي تضع صلاحية الدولة القانونية موضع سؤال: لأنّ هذه العقوبة لا تُطبّق إلاّ على من يضع أمن الدولة نفسها موضع خطر شامل (من يقترف جريمة الخيانة العظمى أو جريمة ضدّ الإنسانية مثلا) فهي عقوبة في ظاهرها لا تهمّ المواطن العادي. إلاّ أنّ هذا هو أصل الوهم السياسي الذي منه تستمدّ الدولة هيبتها.
ليست الدولة مخيفة أو مهيبة إلاّ لأنّها تمتلك سلطة غير مفهومة على المحكومين، سلطة مختلفة عن سلطة القانون: إنّها سلطة الموت.
ولذلك فإنّ عقوبة الإعدام متى صدرت ضدّ معارضين لسلطة الدولة باسم جريمة “سياسية” هي أكثر الجرائم لؤما ميتافيزيقيا: نعني استعمال العدالة بوصفها مؤسسة قتل. إذ ما معنى “المعارضة” ؟ – نحن لا نملك إلى حدّ الآن أيّ مفهوم مناسب ومتفق عليه حول معنى معارضة الدولة؟ وهذا النقص يؤجّل الدرس الديمقراطي إلى أمد غير معلوم.
في الحقيقة ليس هناك “جريمة” سياسية يمكن لمعارض ما أن يقترفها إلاّ تجوّزا أو توسّعا في المعنى. فكل موقف معارض هو نوع مختلف (وليس مخالفا) من الحرية. ولذلك لم يفهم حكّامنا، أبدا، منذ الجاهلية، معنى المعارضة إلاّ عرضا. لقد ظلّ الخارج عن الحاكم عندنا مجرما نسقيا، لا يمكن أن نقيم معه أيّ ضرب من التفاوض الإيجابي حول الحرية. ولذلك تأخّر درس الديمقراطية لدينا بشكل لم يعد يمكن احتماله.
إنّه لا يمكن الاطمئنان الأخلاقي لأيّ دولة تطبّق عقوبة الإعدام: فهي تفهم السيادة بوصفها بالأساس مؤسسة قساوة محضة، مسلطة على رقاب السكان داخل إقليمها منظورا إليه كغرفة تعذيب أبيض، يمكن أن يتلوّن إلى الأسود في أي لحظة استثنائية، أي لحظة الاتهام “السياسي”.
من أجل ذلك لا يجوز أبدا تبرير الموت بواسطة الديمقراطية. ليس هناك موت ديمقراطي أو قتل ديمقراطي أو إعدام ديمقراطي. بل ما نحتاج هو التدرّب على إعادة بناء المعارضة السياسية ديمقراطيًّا: كل معارضة، أكانت قائمة على وهم ديني أو على مطلب اجتماعي أو على رأي فكري أو على حرية شخصية أو على ضمير أخلاقي أو حتى على اعتراض بيئي،.. هي ضرب من التحدّي السياسي لا يحق لأيّ جهة مصادرته، أي معاملته باعتباره جريمة تستحق الإعدام.
فإنّ الدولة هي المسؤولة أوّلا وأخيرا ليس فقط عن مناخ العنف، بل بخاصة عن سياسة الموت في بلد ما: فكل من يموت أو يُقتل هو ميت أو مقتول تحت مسؤولية الدولة، سواء بشكل مباشر (من خلال التشريعات القائمة) أو بشكل غير مباشر (من خلال وتيرة العنف المسموح بها).
سياسة الموت في بلاد معيّنة تعني أنّ نشاط القتل يتمّ وفق وتيرة تتحكم فيها مؤسسة العنف الشرعية على وبين السكان في مرحلة ما. وتيرة أو حالة العنف هي هيئة أخلاقية أو مزاجية للمحكومين وفيما بينهم تعدّلها الدولة بحسب طريقة استعمال السلطة أو التشريع لها. وكميّة العنف ووسائله ومداه وطرق استعماله هي البنى التي تعدّل وتيرة القتل في ضوء سياسة الموت التي تنتهجها دولة ما كجزء لا يتجزّأ من سيادتها.
ولذلك لا يمكن تصوّر ديمقراطية ما بمعزل مؤسسة العنف السارية وبالتالي بمعزل عن سياسة الموت التي تقرّها سيادة دولة ما. ذلك يعني أيضا أنّ الديمقراطية ليس لها معنى واحد أو شكل واحد من التعبير عن الحرية، إنّها في كل مرة نتيجة سياسة الموت السارية المفعول كجزء من سيادة دولة ما.
وإنّ فكرة “الانتقال الديمقراطي” نابعة من الشعور بالمسافة المزعجة بين الحق في الحياة والحق في الموت داخل الفضاء السياسي لدولة ما. نحن ننتقل من حالة حرية إلى حالة حرية أخرى، في شكل انتقال من وتيرة عنف إلى وتيرة عنف أخرى، وفي واقع الأمر من سياسة موت إلى سياسة موت أخرى. لا تطالب الشعوب التي ثارت بإبطال الدولة والعودة إلى الكهوف. وحدهم العدميون يريدون تدبير بنية الدولة باسم الحرية. أمّا الإرهابيون فهم يريدون تدمير الحرية نفسها باسم دولة فوق الدولة.
لا يمكن تصوّر عمل الدولة من دون احتكار جهاز العنف وشرعنته. والشعوب لا تريد أن أكثر من ذلك. لكنّ المشكل هو أنّ الدول لا تتحمّل معارضة الشعوب لكميّة العنف المصرّفة داخل فضاء سلطة ما. ما تريده الشعوب هو الحدّ الأدنى من العنف والحدّ الأقصى من العدل. لكنّ الدول لا توفّر إلاّ الحدّ الأدنى من الحياة والحدّ الأقصى من القانون.
وإنّ الهالة القانونية والأخلاقية التي تنجح الدولة في إضفائها على سيادتها، أي على سياسة الموت التي تتأسس عليها، هي التي تمنع المحكومين من التفكير في حياتهم الجسدية تحت وطأة سياسة الموت الرسمية. ولذلك تظنّ الشعوب أنّه يمكن المطالبة بالديمقراطية من دون اشتراط إجراء تعديل جوهري يمس سياسة الموت التي تنتهجها مؤسسة الدولة. لكنّ كلّ تأسيس للديمقراطية على سياسة الحياة فقط، هو ضجيج أخلاقي بلا نجاعة. اعتناق الديمقراطية دون مراجعة سياسة الموت التي تأسست عليها فكرة الدولة القانونية الحديثة هو مراهقة ميتافيزيقية للشعوب.
إنّ الديمقراطية هي بمعنى ما عزم جذري وغير مشروط على تغيير سياسة الموت التي تفترضها السيادة الحديثة، وذلك بواسطة تحرير الحرية نفسها من رواسبها اللاهوتية: أي تقديس الحاكم باسم العدل. لا يعني ذلك تدمير فكرة السيادة. بل فقط مراجعة مؤسسة العنف داخلها. وخاصة فيما يتعلق بسياسة الموت.
كما أنّه لا يمكن عزل الدولة عن سيادتها، كذلك لا يمكن عزل السلطة عن سياسة الموت التي تفترضها. لا معنى لدولة عزلاء، كما لا معنى لعدالة لا تسيء إلى أحد. بيد أنّه في المقابل: لا معنى لأيّ حرية تؤدي إلى تدمير المجتمع المدني: أي تجريده من قدرته على الدولة. وكل من يخرّب الدولة الحديثة باسم حرية دينية أو جنسية أو عرقية،..الخ. هو يخرّب إمكانية الديمقراطية المتاحة لدى شعب ما.
إمكانية الديمقراطية هي مساحة تمرين مرير على فن استعمال الحرية وذلك بتحريرها من رواسبها اللاهوتية: أي من قيم الاستبداد. وكل الاعتقاد الديني في إله مستبد بأمره، مستقل بنفسه، محتكر لعالم الأمر دون مخلوقاته، هو موقف سياسي في الصميم، وليس مزاجا أخرويا شخصيا. ولذلك فإنّ كل مشروع للديمقراطية في أي مكان أو زمان هو يكمن في فرضية تحرير الحرية من ماضيها اللاهوتي، أي من الطمع في التألّه على الآخرين باسم الإيمان بجهاز تقديس معيّن. ولذلك ليس الإيمان شعورا ضعيفا أبدا. بل هو طمع غير محدود في المشاركة في الأمر الإلهي في حكم العالم الإنساني وتسخيره. وربما كان كل إيمان ضربا من “الشرك” الأبيض أو العفوي أو البريء: هو الطمع في المشاركة في الاستبداد المتعالي على الوجود الإنساني، أكان أخلاقيا أو دينيا أو سياسيا.
لكنّ الإيمان الديني ليس هو النوع الوحيد من الاستبداد أو النوع الوحيد من التألّه أو التعالي: فإنّ الإيمان العلماني بهيبة الدولة أو بحرمة سيادتها أو بنزاهة قانونها أو بقداسة عدالتها أو بجلالة أعضائها، الخ… هو لا يقلّ رغبة في التألّه أو في المشاركة في الاستبداد باسم مقدّس ما، من الإيمان الديني.
إنّ القتل باسم أيّ مقدّس، أكان دينيا أو علمانيا، هو تبذير مجّاني للحياة. والموت لا يفيد أحدا. ومع ذلك فإنّ الإلحاد بكل المقدسات ليس حلاّ. فمن يلحد لا يلحد إلاّ داخل وفي نطاق تاريخ لاهوتي مخصّص جدّا. ومن ثم، لن يبقى أمامنا عندئذ سوى اختراع أنواع من الإيمان تكون أكثر ديمقراطية. ولا فرق إن كانت إيمانا بالله أو بالإنسان أو بالحقيقة أو بأيّ قيمة أخرى.
موقع الآوان