الإعلام المزدوج للنظام السوري
راتب شعبو
في ثمانينات القرن الماضي كان النظام السوري منخرطاً في مواجهة أمنية عسكرية مع “الإخوان المسلمين”، وكان إعلامه يصم الآذان في كلامه عن الرجعية وعملائها وعن الامبريالية وأذنابها. في الوقت نفسه كان النظام يعمل بدأب وحزم، وتحت غبار معركته المفتوحة مع “الإخوان” حينئذ، على استئصال كل قوة سياسية مستقلة، أكان يمكن إدراجها ضمن القوى الرجعية والامبريالية أم لا، أكانت يمينية أم يسارية، سلمية أم عنيفة، إسلامية أم علمانية، لا يهمّ، المهم أنها قوة مستقلة عن النظام، لم ينشئها النظام أو لم يتمكن من وضعها تحت إبطه بحيث تصبح طوع بنانه.
دائماً كان للنظام السوري إعلامان لتغطية هذا السلوك: إعلام ظاهر وإعلام باطن. إعلام يتوجه به إلى العالم وإلى عموم الشعب السوري، وآخر يتوجه به إلى أنصاره وخاصته. الإعلام الأول وسيلته الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون وخطب المسؤولين أمام الناس. والإعلام الثاني وسيلته جهاز الحزب والمنظمات التابعة له والشائعات والجلسات الخاصة وكلام المسؤولين أمام الدوائر الضيقة من المحظيين. مثلاً في الإعلام الرسمي الظاهر يكون الاتحاد السوفياتي صديقاً وفياً، وفي الإعلام الأسود أو إعلام الباطن، يكون الاتحاد السوفياتي متخاذلاً ولا يقدم لنا الأسلحة التي تجعلنا ننتصر. في الإعلام الرسمي تكون أحداث “الإخوان” في الثمانينات هجمة امبريالية رجعية تبرر ضرب حاملها الداخلي وهم الإسلاميون، وفي الإعلام الباطن يكون الشيوعيون أكثر خطراً من “الإخوان” بما يوجب ضربهم واستئصال شأفتهم. طبعاً المقصود هنا الشيوعيون المستقلون عن النظام والخارجون عن إرادته التي لا يرتاح حتى يفرضها حتى على الأطفال.
ما ينظم سياسة النظام الأمنية هو الإعلام الأسود الباطن وليس الإعلام الرسمي الظاهر. فحين يمكن أن يتسبب تعارض هذين الإعلامين بإعاقة في التنفيذ العملي للسياسة الأمنية، يكون الحل بالمزيد من الكذب. مثلاً حين كان يتم دهم بيت أحد أعضاء حزب العمل الشيوعي في سوريا أو الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي (الحزبان الشيوعيان اللذان تعرضا لعنف قمعي رهيب خلال فترة صراع النظام مع “الهجمة الرجعية الامبريالية”) كان يُعبّأ أفراد مجموعة المداهمة بمعلومات كاذبة عن الشخص تفيد بأنه مسلح، أو، أكثر من ذلك، تفيد بأنه من “الإخوان”. الهدف هو ضرب أدنى تعاطف يمكن أن ينشأ في دخيلة عنصر الأمن (والكثير منهم مجنّدون وليسوا متطوعين) تجاه اعتقال شخص شيوعي (غير رجعي) ومسالم (غير مسلح)، ولا ينبغي تالياً اعتقاله بحسب الإعلام الظاهر.
اليوم تتكرر على مستوى أشد وأقسى، حكاية الإعلام المزدوج. الإعلام الظاهر يتحدث عن جماعات أو عصابات مسلحة تخرب وتروع وتوقظ الفتنة ويجب قمعها وتطهير البلاد منها، ويجري الحديث في الوقت نفسه عن معارضة وطنية سلمية لها احترامها وحقها وحريتها. أما في الإعلام الباطن فيقال إن المثقف أخطر من حامل السلاح، وإن الكلمة الناقدة للنظام تشكل تغطية للرصاصة القاتلة. وتدأب أجهزة الأمن على اعتقال المثقف الذي يعبّر عن رأيه ثم يتكفل الإعلام الباطن الكذب ونشر الشائعات لتشويه صورة المثقف وتبرير اعتقاله. المؤسف أن هناك مثقفين يخدمون هذه الآلة الإعلامية المزدوجة حين يروّجون، دون أي حس نقدي ودون أي حس بالمسؤولية، شائعات مختلقة في حق مثقفين سوريين لمجرد كونهم معارضين.
بكل بساطة يتحول مثقف معارض، عاش بؤس أن يكون الشخص معارضاً في ظل الاستبداد، إلى شخص انتهازي وعميل يبيع ذمته بالدولار، وذلك على لسان مثقفين نافقوا وانتهزوا وخبروا جيداً أروقة الأجهزة ونكهات قهوتها ولذة تسهيلاتها. إعلام مزدوج لا يجعل الإنسان السوري يستقر على يقين، أعلام يزرع الشكوك بين أبناء الوطن الواحد وينسف روابطهم المشتركة في كل مكان.
النهار