عن السخرية التي دفنها النظام قبل الثورة/ مصطفى علوش
الإنسان أكثر الكائنات تعاسة في العالم ابتكر الضحك” (نيتشه)
مرّت بتاريخ الصحافة السورية، تجارب ساخرة اشتغلت على نبش الفساد عبر الفكاهة والجملة الضاحكة، يمكن تسميتها ببقع ضوء ساطعة ضمن مشهد إعلامي متعب ومرهق برقابته الأمنية الحديدية؛ كالجزر المتباعدة في محيط لا يرحم، تسجل للصحافيين والكتّاب الذين بادروا وكتبوا ونقدوا الفساد والفاسدين الكبار، وتمكنوا من استغلال السخرية بطريقة صحيحة، لتكون حاملة لأفكارهم وملاحظاتهم وتحقيقاتهم التي فضحت الكثير من الملفات المخبأة، كما فضحت آليات الرقابة الحكومية على الإعلام والمستنقع الأمني الكبير الذي يخضع كل عمل إعلامي إليه.
ففي العام 2003 وعندما كان خلف الجراد رئيس تحرير صحيفة “تشرين” الحكومية، بادر الكاتب نجم الدين السمان برفقة الصحافي وليد معماري إلى إنشاء صفحة أسبوعية ساخرة ضمن الصحيفة عنوانها “يا ساتر”، استمرت 21 أسبوعاً فقط. من الطرائف المريرة أثناء العمل أن السمّان رغب في أحد الأعداد أن تضم الصفحة مقالَين من أرشيف الصحيفة منشورَين قبل 15 عاماً لمحمد الماغوط وزكريا تامر، فاحتج رئيس التحرير، فكان رد السمان بأنه لن يتحمل مسؤولية طالما أنهما منشوران منذ 15 عاماً فصمت رئيس التحرير ووافق على النشر.
من خلال 21 صفحة، خلال 21 أسبوعاً، تمكن السمّان ومعماري وعدد من الكتاب والصحافيين الذين كتبوا في الصفحة من تأسيس محاولة صحافية ساخرة، خنقها مبكراً النظام السياسي السوري.
يخبرنا نجم الدين السمان كيف منعت الرقابة السورية مقالته “جزيرة شفافستان” في العدد الأول من صحيفة “الدومري” عام 2000 التي أسسسها رسام الكاريكاتور علي فرزات، وتمكنت من استبدال المقال الساخر برسوم قديمة للفنان نفسه، وذلك في الساعة الثالثة ليلاً، لكن المطابع في جريدة “الثورة”، مكان طباعة الدومري، كانت قد طبعت 2600 نسخة من الصحيفة الساخرة وفيها مقالتي، فظهرت “الدومري” في اليوم الثاني بطبعتين إحداهما تحمل مقالتي، والثانية من دونها.
أقرأ الآن المقال الساخر الذي انتشر من خلال 2600 نسخة، وفيه سخرية حادة من الحرس السياسي القديم في النظام السوري، وتلميح واضح إلى الأمير الشاب وارث الحكم فأعلّق عليه: يا صديقي نجم، احمد الله أنهم في لحظتها لم يعتقلوك؟ فيردّ: لقد أخبرت آنذاك المخبرين الصحافيين بأنني أرسلت المقال إلى صحف “النهار” و”الأهرام” و”الحياة”، بحيث تنشر المقال تضامناً معي في حال اعتقالي.
من مقالة السمّان نقرأ: “قال: بعد ملكنا المفدّى… جاءنا أميرٌ شابٌ منادياً بالشفافيّة، فخلعنا ملابسنا فرحاً في الميادين والساحات، ونظرنا شذراً إلى الحرس القديم، فالتجأوا إلى الحمّامات الشعبية، يكشطون جلودهم بأكياس التفريك وبالغار الحلبيّ وبالليف الطبيعيّ، حتى ظهرت مِن تحت جلودهم، حراشفهم، كالعظَّاءات والديناصورات، ثم خرجوا، فضحكنا جميعنا حتى كاد يُغشى على الرعيّة كلّها، فركضوا خائبين إلى البحر، وغطسوا فيه، بانتحارٍ جماعيّ، ولم يبق على جزيرتنا سوى مواطنيها الشفّافين”.
لم يتحمل النظام السوري أيضاً جريدة “الدومري” الساخرة التي أسسها وأنشأها علي فرزات في العام 2000 عبر مرسوم رئاسي. ففي تاريخ 31/7/2003 أغلقها وزير الإعلام عدنان عمران بقرار حمل رقم 6061، أما العدد الأخير، “العدد الانتحاري” حسب وصف علي فرزات نفسه فقد وزعه الكتّاب والصحافيون أنفسهم، بينما انشغل الأمن السوري بمصادرة العدد من الأسواق.
خلال أربع سنوات كانت صحيفة “الدومري” الأسبوعية تبيع 75 ألف نسخة كل أسبوع بينما كل الجرائد الحكومية لا تبيع أكثر من 6 آلاف.
منذ تلك الأيام كشفت تلك التجارب الصحافية مدى عداء النظام السوري للسخرية والفكاهة وللأقلام الحرة الذكية القادرة على فتح الملفات الخطرة.
ضمن هذا السياق أيضاً وفي العام 2007 جاءت تجربة الصحافي إياد عيسى صاحب القلم الحرّ، الذي ابتكر صفحة أسبوعية ساخرة أطلق عليها “صحافة غير شكل” تضمن كل عدد بورتريها من كتابته بعنوان “راسب بالسلوك”، وذلك ضمن صحيفة “تشرين” الحكومية. كان البورتريه الأول عن نائب رئيس مجلس الوزراء عبد الله الدردري، والأخير عن المواطن السوري “أبو صابر” وتمكن خلال ثلاثة أشهر من فضح العديد من ملفات الفساد التي تخص شخصيات نافذة في النظام السوري مثل محمد حمشو ونادر قلعي، وغيرهما، كما تعرض بالنقد الساخر لنقيب الفنانين آنذاك صباح عبيد، وتكاثرت هواتف الاحتجاج من كبار المسؤولين في النظام على الصفحة فتم إغلاقها في شهر أيلول من العام نفسه.
الغريب أن النظام السوري الذي تساهل نسبياً مع أعمال درامية ساخرة مثل “مرايا” ياسر العظمة و”بقعة ضوء”، كان حاداً وقاطعاً في تعامله مع الصفحات الساخرة في الصحافة المطبوعة، وكأنه يدرك مدى قيمة الكلمة المطبوعة الساخرة وتوثيقها، ويعرف أن التلفزيون وبرامجه الساخرة أقرب إلى التسلية والتنفيس عن الناس منه إلى تحفيز الوعي وتراكمه.
هو النظام السوري عدوّ الضحك النابع من القلب، وعدوّ الشفافية والسخرية. قبضته المرعبة لم تسمح لتلك اللحظات الصحافية بالنمو لتصير تجارب ثابتة، راسخة، فقصفها منذ طفولتها وارتاح.
كاتب سوري
النهار