إيلي عبدوصفحات الثقافة

الإنكليزية مدجّنة “بعثياً”

إيلي عبدو

 في أواخر عقد السبعينيات، كان السوريون أسرى شاشة تلفزيونية واحدة تبث أخبار القائد الرمز وتتحدث عن قيادته الحكيمة وإنجازاته القومية الكبرى. بعد سنوات، أنشأ النظام الحاكم “القناة الثانية” لتكون نسخة طبق الأصل عن الشاشة الأولى بفارق واحد، أن الثانية تنطق بالإنكليزية.

كان يُراد لهذه الشاشة، بلا شك، أن تمثل “الخارج” في وعي المواطنين. الخارج الذي يعتبر، في أدبيات “البعث”، عدواً امبريالياً يتربّص بالأمة. والنظام العقائدي الحديدي يخشى على مواطنيه لوثة ما وراء الحدود، وما يأتي معها من أفكار تحررية “توهن نفسية الأمة” وهي على طريق تحرير فلسطين. لذا لم يكتف بمنع أي تسلل لغير المحلي (أي غير الوطني بلغته)، بل آثر أن يخترع “خارجاً” على مقاسه وأن يؤطره في شاشته الضيقة.

انطلقت الشاشة الثانية في بث نشرة الأخبار بالإنكليزية. بدا ذلك سوريالياً ومسلياً، إذ على اللغة المرنة البسيطة المعروفة بمفرداتها الخفيفة والمقترنة في الأذهان بأخبار تُستقى من شاشات عالمية تحظى بالاحترام، أن “تضيق” لتسرد أخبار الرئيس برتابة مُملة. في الحقيقة، من الصعب على المرء أن يتخيل قاموس “البعث” الخشبي، المهووس بشخص الرئيس وإنجازاته، مترجَماً إلى الإنكليزية، لا سيما مقدّمة الأخبار الصارمة. وبطبيعة الحال، قدمت القناة سلسلة برامج، من بينها مسسلات أجنبية ذات طابع موجّه، تنتقد أنماط الحياة الغربية المُتفلّتة من القيم والأخلاق. وكذلك الأفلام، كان يتم انتقاؤها بعناية لتظهر الجانب السلبي للمجتمع الغربي. هكذا، عمدت القناة إلى ترويض صورة الغرب وإدخالها في “الفلتر” البعثي لتخرج ممسوخة، ضحلة، مؤدلجة.

في سوريا المغلقة، والمحروسة بأجهزة الاستخبارات، لم يكن في إمكان المواطنين، التعرف على الغرب سوى عبر “القناة الثانية”، إذ بدأت الصحون اللاقطة تستوطن أسطح البيوت وشرفاتها منتصف التسعينات، ولم تنتشر فعلياً إلا بحلول العام 2000. لم يتمكن السوريون من مشاهدة مسلسل واحد أو فيلم يتناول فعلاً المجتمع الغربي وتفاصيله. في وعيهم، بات الغرب بعثياً مُدجّناً، يخضع إلى تنقية عقائدية صلبة.

لم تكن “القناة الثانية” شاشة بعثية تتوسل اللغة الإنكليزية فحسب. لقد أسس النظام الحاكم ثقافة معادية للخارج، أحد مظاهرها هذه القناة التي سعت، بغباء، إلى تشويه صورة الغرب في أذهان السوريين، وقولبته على مقاسها. الرئيس حافظ الأسد نفسه لم يكن يتقن الإنكليزية، ولنا أن نتخيل أي معانٍ اكتسبتها هذه اللغة، حينما ترجمتها له البعثيّة العتيقة بثينة شعبان خلال لقاءاته الديبلوماسية.

حالياً تنشغل “القناة الثانية” ببث أخبار العصابات المسلحة والسلفيين والإرهابيين الذين يعيثون خراباً في بلادنا. ويبذل صنّاع التقارير في نشرتها الإخبارية جهداً لترجمة “اعترافات إرهابيين قتلة”.

بعد عقود طويلة على أزمنة التنوير الأوروبية، ورسوخ ديموقراطيات مؤسساتية في دول الغرب… كم يبدو ركيكاً ومضحكاً أن تُعادَى ثورة بحجم تلك التي في سوريا… باللغة الإنكليزية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى