صفحات الثقافة

الإيحاء بالحقيقة/ عباس بيضون

 

 

مر وقت على الرواية العربية أخذتها فيه غواية الشعر، وأعني بالشعر هنا لفظية شعرية تستعير من الشعر تداعيه، ونظمه الحدسي الذي قد يشذ عن التعليل والتفسير والاستخلاص، وتأليفه من الصور وما يتراءى لكتاب هذه الرواية أنه قاموس الشعر واستدعاءاته، ناهيك عن عدم تسلسله وتوزعه البنائي فضلاً عن غموضه. كان هذا الضرب من الرواية وهذه المحاولة الأسلوبية جناية على الشعر وعلى الرواية في آن معاً. إذ إن ما ادَّعى كتابها انه شعر كان نوعاً من تمويه الشعر ومن قشوره ومن سطحه الخارجي، فضلاً عن انه كان تبسيطاً للشعر وتسطيحاً له، ان لم يكن جهلاً به. ففي هذه القصص والروايات «الشعرية» لم يكن هناك سوى الغموض غير الموحي والدامس والتداعي المهلهل، فضلاً عن الكثافة غير العميقة وفقدان الشفافية والثقل الأسلوبي، فوق الوعورة والافتعال. ذلك كان في أصله يمت إلى معرفة سيئة للشعر، بل وإلى تعريف ساذج ودارج له، لا يرى في الشعر سوى شرود وثرثرة صورية وتداع كلامي.

إذا شئنا أن نتكلم عن شعرية السرد فإن علينا أن نبتعد ما أمكن عن هذا القصص وتلك الروايات التي تنتحل الشعر وأن تبحث عن الشعر في مكان آخر. أريد أن أمثل على سردية الشعر برواية داريل «الرباعية الاسكندرانية». هنا لا نجد لفظية شعرية ولكننا نجد إحساساً ورؤيا شعريين. هنا نجد ما يتولد تحت الحدس من إيحاءات ومن معرفة ومن رشق خيالي. هنا نجد الكثافة حيث تكون الكثافة كشفاً وحيث تكون غوصاً وعمقاً، حيث تكون استبصاراً خالصاً، توغلاً في الحس والحساسية والعاطفة والتفكير والنظر. هنا نجد الطرافة حيث لا تكون الطرافة تخريفاً وفانتازيا إغرابيه فحسب ولعباً بخيال مجاني، بل حيث تكون الطارفة مزاوجة لشتات، حين يجتمع، يخلق مساحة وحيزاً ومكاناً، بحيث يبدو وكأنه ركب هكذا في الأصل، وبحيث يضيف بداهة ويخلق تبايناً ومقابلة فطريين.

يمكن لشعرية السرد أن تكون في الأسلوب ولا نعني بالأسلوب هنا التهويم الشعري، إنه القدرة على بناء المفارقات وتصيّد المشابهات والتقاط الصور التي تتولد من الحس ومن الملاحظة الشعرية، فالشعرية طريقة في الملاحظة. الأسلوب يوازي الشعر حين يقصد إلى حقائقه بقوة الحدس والتركيز العميق والتصفية الذكية واللماحة. والأسلوب يوازي الشعر حين يثقل على اللمح، اللمح الذي هو استبصار وحدس، بشيء يشبه الحقيقة أو يوحي بها. السرد يوازي الشعر في الشخصيات التي لا يعوزها في دواخلها المفارقة والازدواج والتمايز والملكات التي تمت إلى الشعر، فليس الشعر مهنة بقدر ما هو ملكة إنسانية وعنصر إنساني. سرد يوازي الشعر حين يجد كالشعر معادلاً موضوعيا كما ذكرت. س. اليوت، أريد هنا كمثال أن استعير من رواية حنيف قريشي «هبه غابرييل» حادثة غابرييل الذي توفي توأمه وبقي حياً فيه يشارك في أفكاره وأفعاله، هكذا هي الفانتازيا الروائية، بعض الرواية، لذلك كما هي بعض الأفلام قصائد كبيرة ولا نبعد إذا قلنا أن أفلام فلليني هي قصائد القرن العشرين.

دعونا نتكلم عن الشعر. هل هو تقنية فحسب ونظام من حركات، كان شاعر أميركي يقول إن الشاعر بالنسبة له ليس لويل بل هو سقراط. لن نذهب مذهبه، لكنه عندما يقرر ان الشعر طريقة في الفكر، أو فكر على نحو ما، لا نستطيع أن نكذبه. نحن بالطبع نجد شعراً في نصوص نيتشه، بقدر ما نجد شعراً في الرباعية الاسكندرانية لداريل، بل نجد أن الشعر هنا موفور بقوة قد لا نجدها في القصائد.

الشعر قائم حيث يجد الكلام داخل نفسه ما يشبه أن يكون حقيقة أو ما يملك الإيحاء بالحقيقة. عندئذ لا يمكننا التوقف عند التفريق التقني، فالكلام على الشعر من حيث انه تراصف صور لا يكفي، إذ المهم ان تشير الصور إلى ما يتعداها، المهم ان تكون الصور حمَّالة أدوار، أي أن تكون صورة ومعنى وحكماً في ذات الوقت، ومن الطبيعي أن رصف الصور لا يصل دائماً إلى هنا.

إن تقليب الكلام واللعب باللغة قد يكون هو الآخر أمراً غير لافت إلا حين يقع الكلام على تلك العقدة التي تشبه اللغز وتشبه الخيار الانطولوجي، يمكن ان نجد شعراً في مفارقات صارخة كتلك الطائرة التي تحمل تمثال المسيح المصلوب في فيلم فلليني، عندها لا يسعنا ان نتكلم عن صورة فقط لكننا نتكلم عن استعارة كبرى وإذا وصلنا إلى فلليني فإننا نفهم بدون تردد أن بعض أفلامه ملاحم شعرية، قد يكون الكلام نثرياً لكن الشعرية مع ذلك تظهر ففي الشيخ والبحر لأرنست همنغواي لا نجد لفظية شعرية، لكننا نجد في المفارقة بين الصياد والعجوز والسمكة الضخمة التي نهشتها الأسماك في الطريق ما يشبه الشعر. لقد شاعت في وقت تسمية القصة ـ القصيدة ولست احتج على التسمية فإننا نجد بالتأكيد قصصا وروايات يستعير منها الشعر وتقدم برموزها ومفارقاتها أفقاً شعرياً، غير ان هذه التسمية تختل إذا كان مفهومها للقصيدة لا يعدو أن يكون سيولة كلامية وتشبهاً بالشعر من حيث كونه تداعياً حراً ورصف صور. يمكن للشعرية أن تكون في الرواية من حيث لا نجدها في الشعر نفسه، هناك شعرية السخرية وشعرية الفانتازيا، شعرية اللعب بالكلام وعلى الكلام وشعرية المفارقة. أي ان في وسع الرواية أو القصة أن تجد بنفسها شعريتها كما ان في وسع الشعر أن يجد بنفسه سرده، فالشعرية لا تعني البتة استعارة من الشعر انما تعني اقتلاع المعنى على نحو يشبه الومض الشعري. غير ان المهم في ذلك كله هو ان الرواية هي أيضاً كالشعر مغامرة لغوية، هي أيضاً كالشعر إعادة تأسيس وتكوين للغة وفي اللغة. هنا لا نستطيع ان نهرب من تقاطع عضوي بين الشعر والرواية، وهنا تتجلى شعرية الرواية على نحو لا يضارعها فيه إلا شعرية الشعر.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى