الاجتهاد الأميركي
سناء الجاك
لا نعرف ما اذا كانت الإدارة الأميركية ستنتهي يوماً من درس الأدلة التي تبيّن هل استخدم نظام بشار الأسد أسلحة كيميائية ضد الشعب السوري، أم لا! العامة قبل الخاصة يعرفون أن آثار هذه الأسلحة، لا سيما غاز السارين، تزول بعد أيام. تالياً، قد يذهب درس الإدارة المعمّق والمطوّل هباءً منثوراً. واذا اجتهدت فلربما اكتشفت ما ينير دربها، لكن بعد إبادة الشعب الذي يبدو ان استخدام الغازات السامة لإسكاته أهون الشرور المبتلي بها.
اللافت ان الدرس الذي ينكبّ عليه اصحاب القرار الأميركي يقتصر على الحرب المتوحشة التي تحصد السوريين، في حين يصبح هذا الاجتهاد شربة ماء عندما يتعلق الأمر بمصر مثلاً. لم يستوجب ذلك، بعد استكمال الثورة في 30 حزيران الماضي وإعلان الإدارة الأميركية أنها ستدرس ما اذا كان الحاصل انقلاباً أم لا، إلاّ صفعة رفض من قوى الحراك المدني الشعبي، فانقلب الموقف على نفسه، وسارعت الإدارة الى لملمة الوضع وإرسال موفدها الى القاهرة ليفاجأ بأن القوة العظمى التي يمثلها ليست على أجندة الشعب المصري وقواه المنتفضة ضد أسلمة ربيعها، وليصطدم برفض هذه القوى الاجتماع معه، ما يعني أن على الأميركيين درس خطواتهم المقبلة لتأمين مصالحهم ومصالح إسرائيل معهم.
الليونة تظهرها الولايات المتحدة أيضاً في تعاملها مع ليبيا ومع تونس، وكذلك مع إيران. لكن باستثناء سوريا. فهي الوحيدة التي تخضع للاختبارات الأميركية وتُستثنى من تفعيل مسؤولي البيت الأبيض أقوالهم المعسولة عن حق الشعب السوري في تقرير مصيره وضرورة رحيل بشار الأسد، في حين أن الدلائل تشير الى الانتظار للتعامل مع من سيسيطر على الأرض ليحظى بالدعم، أكان هذا المسيطر شعباً ثائراً أم ديكتاتوراً مجرماً.
سواء أكان الموقف الأميركي وليد حسابات داخلية تتعلق بالرأي العام أم كان لمصلحة إسرائيل ووزن قرارها في السياسة الأميركية، أم يرتكز على خصوصية الحالة السورية بموقعها الاستراتيجي وارتباطاتها مع ايران وروسيا ما يلجم الادارة عن التورط في معركة مفتوحة مع الدب الروسي او المرشد الأعلى، الا انه بالتأكيد لا يرتكز على الخوف من التطرف الاسلامي. العكس قد يبدو صحيحاً. كأن السياسة الاميركية في تعاملها مع سوريا تدفع هذا التطرف الى الحصول على فرصة تاريخية لموطئ قدم في بلاد الشام، ما يزيد هموم الشعب السوري ليجد نفسه في مواجهة مزدوجة مع النظام والارهاب على السواء.
يتقاطع النظام الأسدي مع الادارة الأميركية في التذرع بالإرهاب، كي تبرر واشنطن مواقفها المترددة، وإحجامها عن التدخل لمصلحة الشعب المذبوح، مكتفيةً بالمواقف الاعلامية والاعلان انها على اتصال يومي مع المعارضة السورية لمناقشة الكيفية التي يمكن أن تسدّ بها الولايات المتحدة احتياجاتها، في حين تتابع مع الكونغرس درس السبل التي تكفل “دعم المعارضة في ثباتها بمواجهة الهجمات الوحشية لبشار الأسد بدعم من إيران وحزب الله”.
لو كان على مثل هذا الكلام جمرك لتمكنت المعارضة المسلحة قبل تسلل الارهابيين الى بلاد الشام، من جمع مبالغ طائلة تكفي لتسليحها وتمكينها من حسم الامور على الارض، ولكانت انتفت حاجة الولايات المتحدة الى الدرس والتمحيص والاجتهاد. وايضاً كانت انتفت حاجة رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي، الى القول إن الولايات المتحدة تواجه معضلة قد يستغرق حلها عشر سنين في سوريا، وإن القتال هناك بدأ يتحول مشكلة إقليمية مع تداعياته على دول الجوار، وخصوصاً لبنان والعراق، مضيفا أن معالجة أسبابه قد تستغرق عقدا كاملاً.
على رغم التذبذب الاميركي والتنبوءات السوداوية والاثمان الفظيعة التي يدفعها الشعب السوري، فإن احتمال تمكّن الثورة السورية من الوصول الى برّ الامان وانقاذ نفسها من الدم والتطرف، ولو بعد عقد كامل، سيُفقد الدولة العظمى أوراقها في المنطقة، ولن ينفعها حينذاك الانكباب الاستنسابي على الدرس والاجتهاد، لأنها ستخرج نهائياً من أجندة الشعب الذي وقفت تتفرج على نحره.
النهار