الاحتفاء بجماليّات “الوطن” المدمّر/ عمّار المأمون
تلتقي كاميرا التلفزيون الرسميّ السوريّ، المخرج جود سعيد، في كواليس تصوير فيلمه “مطر حمص- 2017″، نشاهد خلفه خراب مدينة حمص، وأبنيتها المدمّرة، وبينها يحضر فريق العاملين، ممثلين وفنيين، كتلة إنتاج بشريّة وتقنيّة، تتحرك لتعيد تكوين المكان لجعله “سينمائياً”، فالممارسة الفنيّة تفترض تجهيز مساحة ما، واقعيّة كانت أم رمزيّة، لتظهر ضمنها “الموضوعة” الفنيّة، ما يجعل المُنتَج الفنيّ، حدثاً في المكان، هو ليس كياناً أو بنية منفصلةً، تطفو في الهواء مترفعة عن الظرف الواقعيّ، بل وليد شروطِ إنتاج وبنى تحتيّة تجعله “ممكناً” و”مرئياً”.
جماليات “الوطن”
حين نشاهد الأعمال المنتجة رسمياً في سوريا، فنحن أمام مستويين للقراءة، الأول، جماليّ، يرتبط بالممارسة الفنيّة، كمعادلٍ لحقيقة ما، وكون هذه المنتَجات رسميّة، فهي تعكس سياسات الإقصاء والاحتواء التي تمارسها السلطة، والتي تكرّس عبرها حقيقتها وتعريفاتها، كالترويج لعلم الثورة السوريّة بوصفه رمزاً للانتداب الفرنسيّ أو للمخرّبين، ضمن ما يسمّى “مسلسلات البيئة الشاميّة”، أو استثناء بعض الأفراد والمناطق من “الظهور”، كحال أغنيات أصالة نصريّ، التي منع بثها في التلفزيون الرسميّ، بسبب موقفها السياسيّ. تنسحب هذه السياسة على بنية العمل، كعدم المساس بهيبة الدولة السوريّة، ومحاربة الإرهابيين الأشرار، وانتقاد نتائج العنف السياديّ لا أسبابه، كحال مسرحيّة “اختطاف”، للسوري أيمن زيدان، والتي تحضر فيها شخصيّة تختطفها “الجماعات الإرهابيّة”.
المستوى الثاني للقراءة، مرتبط بالجانب الماديّ، أو شروط الإنتاج الاقتصاديّة والسياسيّة، من توزيع الميزانيات، والموافقات الأمنية على الوجود في مكان ما، وأشكال هذا الوجود وكيفية تصوير مساحة ما، كحالة نجدت أنزور، الذي رافقته عناصر عسكريّة، حين كان يصوّر مسلسل “تحت سماء الوطن” في داريا في ريف دمشق.
تمثل المستويين السابقين مجموعةٌ من القوى فوق السرديّة، التي تحدد مساحات الإنتاج، الرمزيّة والواقعيّة، والتي يتيح النظام السوري للأفراد العمل ضمنها، هذه القوى تنعكس ضمن المكونات الجماليّة للعمل الفنيّ والثقافيّ، وتحدد الشروط التي يتبناها أحدهم، كي “يُنتج” عمله، وتُشرعن ممارسته الفنيّة، فحينما نشاهد كاميرا جود سعيد تصور خراب حمص، أو عرضاً مسرحياً على خشبة المسرح الوطنيّ في سوريا، نحن أمام مُنتَج يعكس طبيعة العلاقات وقوى النظام الاقتصاديّة والسياسيّة، وتواطؤ الجهود البشريّة، سراً أو علناً، لإنجازه ضمن شروط السلطة.
حقيقة السلطة الدراميّة
ضمن المنتجات الرسميّة الخاضعة للشروط السابقة، نحن أمام تطابق بين الحقيقة السلطويّة وتلك الفنيّة، ولا مجال لأشكال أخرى للوجود، وكأن هناك تدخّلاً إلهياً أو أمنيّاً، يحسم الصراع ويوزع الأدوار، حتى قبل إنتاج العمل، فإما احتفاء بالمنتصر، أو ميلودراما عاطفية يعيشها المهزوم، كما في مسلسلات وأفلام نجدت أنزور منذ 2011، بوصفها المثال الأشدّ مبالغة ودعائيّة، كفيلمه “رد القضاء”، الذي نرى فيه الجنديّ السوري مخلصاً وحامياً للوطن، هو المقاتل الذي يضحي بجسده، لأجل المواطن البسيط، الذي كسرت ظهره الحياة، وجعلته ضحية للإرهاب، والتشدد الديني، والمؤامرة الكونيّة.
النماذج السابقة على اختلافها، تختزن داخلها سياسات التمثيل، أي الأشكال الاصطناعيّة التي تصورها المنتجات الرسمية، ضمن مساحاتها المقننة، وتخزن في داخلها أنساق الطاعة، وتطبع المقولات السلطويّة، وتخلق وعياً زائفاً بالعالم، مرتبطاً بطبيعة السلطة السوريّة، بوصفها الشكل الأمثل للسيادة، والتي لا يمكن تحدّيها، كما أنها تروج لشكل “صحي” للعلاقات في ظل سيادة الأسد، سواء بالنسبة إلى الجمهور أو العاملين ضمن الإنتاج. ما سبق، يجعل هذه المنتجات ذات قيمة أداتيّة instrumental، بوصفها تشكل القناعات من جهة، وتعكس شروط إنتاج الموضوعة الفنيّة وترسخها من جهة أخرى.
لكن، لمَ كلّ التنظير السابق ؟
السبب، هو محاولة فهم الخصوصية العجائبيّة لمنتجات المؤسسات الرسميّة السوريّة، والتي تحضر ضمن بعض المنصات والفاعليات، ولا تتم مقاطعتها، ويتحول العاملون فيها، إلى محطّ قضايا حريّة التعبير أو دعم الأصدقاء، فالبعض يرى أن لا مشكلة في الترويج للمنتجات الرسميّة، بوصفها ذات جانب جماليّ خالٍ من السياسة، والأهم، التعامل مع البعض، بأنهم ذوو رأي موضوعي، أو رؤية نقدية، بغض النظر عن أنهم جزء فعّال ومنتج من ماكينة “بروباغندا”، تساهم في إعادة إنتاج السلطة السوريّة وحقائقها.
لمحاولة فهم الإشكاليّة السابقة، يجب الاعتراف، أنه لا يمكن منع فرد من الإنتاج، واختيار الظروف التي يراها مناسبة لممارسة مهنته، لكن ما يستحق الانتقاد، هو تداول ونشر نصوص، وأفلام، ومسرحيات، مُنتجة ضمن مؤسسات النظام الرسميّة، الخاضعة للشروط السابقة، كـ”مهرجان المسرح العربي في تونس”، الذي استقبل أخيراً عرض “اختطاف” السابق، و”مهرجان روتردام للسينما العربيّة”، الذي حاز فيه فيلم “حرائق”، لمحمد عبد العزيز الجائزة الذهبيّة، على رغم أنه منتج من قبل المؤسسة العامة للسينما في سوريا.
حضور منتجات المؤسسات الرسميّة السوريّة، أو المنتجات التي “سمحت” السلطة بها، ضمن منصات خارج “مساحات السيادة” السوريّة، يعني بكل سذاجة، أن الفن والسياسة منفصلان فعلاً، وأن كل “التنظير” السابق لا يحمل أي معنى، أو أن هناك مصالح واعترافات خفيّة، واتفاقاً ضمنياً على سياسات التمثيل الرسميّة، وقبولاً بالمنطق الأداتي الذي تحويه، والأهم، الاعتراف بهذه المؤسسات، على أنها مُنتجة وفعّالة، مع تجاهل القوى التي تتحكم بها، كما أن حضور الأفراد “المُنتجين”، والمُشرعنين من قبل السلطة السوريّة، ضمن مؤسسات ومنصات أخرى، بوصفهم أيضاً مُنتجين لمحتوى فنيّ أو أدبي أو صحفي، يعني قبول أدوارهم الرسميّة الآنيّة، التي يمارسونها ضمن المؤسسات الرسميّة، والتي تنتج “الفنّ الوطنيّ”، أو المعادل الجماليّ لسياسة السلطة الوحشيّة.
درج