صفحات الرأي

“الاحتلالات»” والاعتصامات الميدانية تحت شارة “الربيع”: السياسة حين تُباشر من غير هالة ولا قيادة أو عٍلم: وضاح شرارة

 

 

لم تكد تظهر بوادر خروج الحركات والانتفاضات العربية و»ربيعها» في 2011-2012 عن توقعات وآمال نيطت بها، أو عُلقت عليها، حتى تسابق كثر من أصحاب هذه التوقعات والآمال على التنصل من الحركات والانتفاضات هذه، والتنكر لها، والرجوع في آرائهم الاولى فيها. وبدا الرجوع والتنكر والتنصل صدى معللاً وسائغاً لنكوص الحركات والانتفاضات عن انجاز وعودها والتزامها. وذهب تعليل النكوص مذاهب شتى، حمل معظمها على آثار التربة الاستبدادية المعمِّرة في البنية الاجتماعية التي صدرت عنها هذه الحركات ونشأت في ثناياها. وبعض آخر ذهب الى تعليل انتكاسة الحركات والانتفاضات الربيعة، تارة بقصور قوامها التنظيمي، وافتقارها الى أطر مجربة وبرنامج واضح وقيادة بصيرة؛ وتارة ثانية بقوة التيار الإخواني المتربص ورجحان كفته على كفة التيار الديموقراطي والليبرالي؛ وتارة ثالثة بالاستقطابات الاقليمية والدولية وإناختها بثقلها التقليدي و»الرجعي»، المالي والسياسي والاجتماعي والثقافي، على حركات نشدت مثالاً هو نقيض المثال الذي استوحته الدول القطبية وتستوحيه. وخلص تعليل رابع، جبري ومستكين، الى ان الثورات لا بد من أن تعقبها «نوبات» مضادة، كامنة في أبنية الدولة والمجتمع القديمين، فإذا لم تسرع الثورة الناشئة الى القضاء على ضدها، حبطت وأجهضت.

سابقات عربية ربيعية

وتقدمت محاولات التعليل الكثيرة على محاولات الوصف، القريب أو البعيد. ونحا التعليل نحو تشخيص علة واحدة وجامعة. ومال إلى الاستيفاء والاستنفاد، فأدخل عوامل وظواهر فرعية كثيرة تحت العلة الجامعة وقسرها على الدخول تحتها. وإلى ذلك كله، وعلى رغم التنبه على تنقل الحركات والانتفاضات من بلد أو مجتمع الى بلد آخر أو مجتمع آخر وجريها غالباً على شكل واحد أو مشترك، هو الاعتصام السلمي والحاشد في ميادين المدن الكبيرة وساحاتها وقيامها الظرفي مقام «شعب» عيني، وطوافها في مدة قصيرة قارات العالم والبلدان على اختلاف أنظمة حكمها وأبنية مجتمعاتها- أغفلت محاولات التعليل عالمية الحركات والانتفاضات أو أمميتها، وأطرحت هذا الوجه من صفتها. أو هي حملته على اتفاق او مصادفة لا بد أن تربتهما «عولمة» مبهمة تُعمَل في تعليل كل ما يحصل في إطارها وبين دفتيها العريضتين. واتصال هذه الحركات على شاكلة موجة حَمَلَ على مقارنتها بموجة حركات 1968 الطالبية وغير الطالبية، وبموجة 1989 التي اكتسحت الانظمة الشيوعية بشرق أوروبا وعصفت بالصين، وبربيع الشعوب في 1848، قبل الاثنتين. ولا ريب في ان اختلاف مصائر هذه الحركات والانتفاضات، وطيها السريع في معظم الاحوال، والانقلابَ الحاد عليها وقمعها، وافضاء الانقلاب والقمع (حيث حصلا أو أمكنا) الى انظمة حكم لا تقل قهراً واستبداداً عن سابقتها- عجلت في «نسيان» الحركات والانتفاضات «الميدانية» العربية. وربما نسبت إليها تجديد شباب الاستبداد أو الحروب الاهلية المتمادية إليها، وحملت هذه وذاك على عاتقها.

وهذا الإغفال المثلث- إغفال وصف الحركات والانتفاضات وعالميتها وكثرة مصائرها- هو ما سعت بعض الاعمال في تداركه وتعويضه. فبعد عشرات وربما مئات من المقالات والكتب، كتب ألبير أوجيان، الباحث في الاجتماعيات ومدير معهد مارسيل موس، وساندرا لوجييه، أستاذة الفلسفة في جامعة باريس الاولى ومديرة مركز الفلسفة المعاصرة في الجامعة نفسها، كتب الفرنسيان ما سمياه «تقصياً (عن) أشكال السياسيات الجديدة»، ووسماه بعنوان «أصل الديموقراطية» (لا ديكوفيرت، باريس، 2014). وتتبوأ الثورات أو الحركات «العربية»، التونسية والمصرية واليمنية (اعتصامات طريق السبعين التي أفضت الى تنحية علي عبدالله صالح) مكانة متصدرة. ويلاحظ القارئ إهمالَ الحركة الليبية، وهي شكلها غير شكل الحركات الاخرى الميداني والسلمي والشعبي والمحاور والراديكالي، وترك الاعتصام البحريني في ساحة اللؤلؤة، ربما لتجانس جمهوره المذهبي وائتماره بأمر منظمة سياسية محترفة توسلت بالاعتصام الى غايات غير ميدانية ولا سلمية. ويمر الكاتبان على الحركة السورية، في طورها الاول، مروراً خاطفاً. ويتردد صدى نسبة حركات 2011-2012 العربية، ولو خافتاً، الى حركة 14 آذار اللبنانية، والى حركة حزيران 2009 الايرانية (الخضراء).

فيذكِّر صاحبا «أصل الديموقراطية» ببيان نشر على موقع حركة «أوكيباي (احتلال أو احتلوا) وول ستريت»، شارع نيويورك المالي والمصرفي، وذهب ناشروه فيه الى انهم يتوسلون بـ»تكتيك الربيع العربي الثوري الى بلوغ أهدافـ(هم) ويقدمون اللاعنف ضمانةً لسلامة المشاركين القصوى«. ويعرِّف المحتلون المعتصمون صنيعهمم بأنه «حركة مقاومة من غير قائد، تجمع ناساً من كل الالوان وكل الاجناس، وكل الآراء السياسية». وما يتشاركه هؤلاء هو أنهم الـ»99 في المئة الذين لا يطيقون بعد شَرَه الـ1 في المئة وفسادهم». ولا يحول اطراحهم القيادة، وحملهم أنفسهم على مقاومة جامعة ومسالمة، وتعريفهم قاسمهم المشترك بإخراج الواحد في المئة من صفوفهم، واقتفاؤهم على مثال تكتيك الربيع العربي- بينهم وبين إعلان شعارهم الراديكالي: «الحل الوحيد هو الثورة العالمية». وحين خطب جوليان أسانج، صاحب ويكيليكس وناشر جزء من المراسلات الديبلوماسية الاميركية التي أعملها التونسيون في التنديد بديكتاتورهم الفاسد، زين العابدين بن علي، في كانون الاول 2012، جمهوراً من المؤيدين والصحافيين المحتشدين تحت شرفة سفارة الاكوادور بلندن (حيث لجأ ولا يزال لاجئاً)، قال: «الديموقراطية الحقيقية هي مقاومةالشعب، مسلحاً بالحقيقة، الاكاذيب، من (ساحة) التحرير الى لندن، هنا».

المثال السياسي المتجاوب

وسابقتا اعتصامات الحركة المدنية في الجامعات الاميركية في 1960، والحركة الديموقراطية الطلابية بساحة تيان آن- مين ببكين في منتصف 1989، لا تغمطان جدة الاعتصامين التونسي والمصري في كانون الاول 2010 كانون الثاني وشباط 2011. والحق أن الاعتصامين هذين تبوآ مكانة المثال والريادة. وأسهم في إعلاء مكانتهما اضطرار بن علي الى الاستقالة في 14 كانون الثاني، وحسني مبارك في 11 شباط، أي «رحيلهما» بعد أسابيع قليلة على ابتداء الاحتجاجات، وقبل بروز الخلافات الحادة في صفوف المعتصمين وانقسامهم تيارات وأحزاباً وبرامج وخططاً متضاربة ومتناقضة، وعلى الخصوص قبل ظهور إرادة وضع اليد على السلطة والاستيلاء عليها من وراء ظهر «الشعب». فما بعثته الاعتصامات، وبعثه بلوغها غاياتها في غضون أسابيع تعد على اصابع اليد الواحدة وبعد عقود من الرسوخ في رأس الحكم، هو تصديق زعم أبو القاسم الشابي ان الشعب إذا أراد «يوماً» الحياة قسر «القدر» على الاستجابة. وأخرج السياسة، وهي صنو القدر في معتقدات كثيرين منا، من استكانتها وتسليمها وتفاهتها. وعظَّمت أصداءُ الحركات (العربية) الدولية، وجهرُ اعتصامات شعبية «غاضبة» في البلدان الديموقراطية الغربية، من مدريد الى نيويورك، اقتداءها بهذه الحركات، مكانتَها ودلالتَها. فنبهت الاصداء المتواترة والعريضة الى ابتكار الحركات العربية مثالاً سياسياً جديداً أنشأ أمكنة مشرَّعة ومستقلة في قلب المدن يسع من شاء الوقوف بها، والتنديد بازدراء الحكام وأولي الأمر وأهل الثورة عامةَ الناس من أهل الضعف، واختبار صور غير مألوفة من المداولة والمناقشة والحياة السائرة.

وسرعان ما سرى الصوت في انحاء العالم، وبلغ أقاصيه (وهذه لم تبق أقاصي لما تقوضت مكانة المركز أو القلب). فدعا صينيون من طريق الشبكة، في 20 شباط، أي غداة 5 أسابيع على رحيل بن علي عن «عرش» تونس، الى التظاهر تأييداً للتونسيين. فخشيت السلطات الشيوعية عدوى الحركتين التونسية والمصرية، وحجرت على ألفاظ التعارف واطرحتها من تداول الرسائل الالكترونية وتبادلها. وهذا قرينة قوية على عمومية لغة الاعتصام في الميادين، ويسر تداولها في مجتمعات و»ثقافات» سياسية تباعد بينها الاحوال والازمنة والمسافات. ولا يخفى ان ما وسع السلطات الحزبية والامرية ببكين مراقبته وتقييده في شتاء 2011 أعجزها قمعه بهونغ كونغ في خريف 2014. وهي لم تتوقع هبوبه من الجيب أو القطاع، على نحو ما لم تتوقع سلطات البلدان التي هبت عليها ذرية الاعتصامات العفوية والمسالمة حصولها. وعلى رغم سرعة جواب الصينيين، سبقهم البلجيكيون فتظاهر ببروكسيل، في 23 كانون الثاني قبل يومين من 25 بالقاهرة، نحو 40 ألف بلجيكي لبوا دعوة على فايسبوك الى انكار عجز الاحزاب السياسية البرلمانية عن تأليف حكومة، والتنديد به. وكان مضى عام كامل على استعصاء الازمة الوزارية من غير ان يبادر السياسيون البرلمانيون الى إظهار عزمهم على حلها.

وعلى نحو قريب من هذا، نزل 200 ألف برتغالي الى شوارع لشبونة، في 12 آذار (2011)، وأجابوا نداء رابطة «جيل ضعيف الحيلة» على وسائط التواصل الاجتماعي، أهاب بهم التصدي لخطة تقشف جديدة تفاقم البطالة الكاملة أو الجزئية، وتضطر خريجي التعليم الجامعي الى الرضا بوظائف لا تزيد مرتباتها عن 500 يورو في الشهر. وبعث السبب نفسه 500 ألف متظاهر في مدريد، في 15 آذار، على التجمع في ساحة كبيرة، بويرتاديل سول، وإقرار الاعتصام فيها مساء، من غير ضرب موعد لرفعه. وسرت «عدوى» الاعتصام الى اليونان بعد عشرة أيام على تظاهرة مدريد و»احتلال« ساحتها المركزية. فنصب الأثينيون مخيماً في ساحة سانتاغما، في مقابلة البرلمان. وتظاهر، في 15 حزيران، نحو 200 ألف متظاهر. وفي 17 أيلول 2011، ظهرت «قرية من خيم» في زوكوتي بارك، بنيويورك هذه المرة، ردَّ جواب على دعوة فريق من الناشطين: «احتلوا وول ستريت». وتناسلت «الاحتلالات» أو الاعتصامات في المدن والعواصم المتفرقة: لندن، فرنكفورت، جنيف، طوكيو، تل أبيب… وتداعى انصار هذه الحركات الى إعلان ترابطها وتواشجها وانخراطها في اطار مشترك. واختاروا موعداً يوم 15 تشرين الاول ضربوه للتنسيق بين 900 مدينة في 90 بلداً على موقع على الشبكة.

المشروعية المتهاوية

ولم تفِ التظاهرة الجامعة بوعودها، فكانت أعداد المتظاهرين قليلة، واقتصر التظاهر يومه، على خلاف المأمول. ولكن عام الاحتلالات والاعتصامات هذا لم يخل من حركات احتجاج «تقليدية»، من اضرابات مطلبية وقطاعية ونقابية، بينها وبين حركات الاحتلال والاعتصام العريضة العامة و»الثورية» تناغم وتوارد شكليان أو منهجيان أكيدان. فنزل الطلاب والثانويون الشيليون، في 28 نيسان 2011، الى شوارع المدن، منكرين مضي الحكومات المتعاقبة، منذ نهاية عهد بينوشيه، على سياسة تعليمية واحدة تقضي بخصخصة التعليم من طريق زيادة الاقساط زيادة «فاحشة». ودعت النقابات الطالبية الى تظاهرة عامة، في 9 آب، فلبى الدعوة 500 ألف متظاهر بسانتياغو. وهذه المرة كذلك، فشت «عدوى» الحركة الطلابية في شطر القارة الجنوبي: فنسق طلاب 14 بلداً اميركياً لاتينياً مسيرة مشتركة، في 24 تشرين الثاني 2011، أجمعت على طلب تعليم مجاني «نوعي». واقتصر الحضور على 100 ألف متظاهر. ولكن جدة التظاهرة وقوتها لم يكن العدد مرآتهما، بل التنسيق العريض الذي تخطى الحدود الوطنية الى أفق جامع وعام، أو كوني، على مثال أنجزته منظمات غيرحكومية فاعلة، وقامت «غرينبيس» و»أمنيستي» و»أطباء من غير حدود» و»هيومن رايتس ووتش» علماً عليه.

وهزت كيبيك إضرابات طالبية، كان أولها في آب 2011. وأفضت، في شباط 2012، الى إضراب عام جمع التعليم الجامعي على رفض زيادة الاقساط. وتظاهر مئات الآلاف من الكيبيكيين رداً على قمع بوليسي قاسٍ، وعلى سن البرلمان قانوناً عرف بـ»قانون 87» قلص الحريات السياسية المدنية، وقسر المدرسين على التعليم عنوةً، وجرَّم التجمَّع والرأي والتظاهر والدعوة الى التظاهر من طريق وسائط التواصل الاجتماعية، وعهد الى الشرطة بتقييد التواصل. فجهر كثيرون عصيانهم المدني والعلني على الشبكة، فأذاعوا دعوات صريحة وسافرة الى التظاهر، وانتهاك القانون «اللئيم» هذا. وقعقعوا بالأواني المنزلية المعدنية، على مثال الارجنتينيين في 2001. فاستقالت الحكومة، وألغت الحكومة التي خلفتها زيادة الاقساط والقانون 87، معاً. ودعت تنسيقات طالبية من خارج النقابتين البريطانيتين الرسميتين، في تشرين الثاني 2011، الى حملة وطنية على الاقساط المدرسية وتقليص النفقات العامة في الموازنة. وكان إعلان اقتراح الاجرائين، في 2010، أثار تظاهرات عريضة وعنيفة لم تتورع عن احتلال مقر حزب المحافظين، وتحطيم محال تجارية، وجبه الشرطة بالعصي والحجارة والقناني الحارة.

وفي سياقة مباينة وبعيدة ظاهراً عن سياقة الاضرابات الطالبية، تعاقب انفجار مفاعل فوكوشيما النووي باليابان، في 12 آذار 2012؛ وأجازت محكمة بريطانية في 24 شباط من العام نفسه، تسليم جوليان أسانج السويدي، صاحب ويكيليكس، الى الحكومة السويدية (تمهيداً على الارجح لتسليمه الى الولايات المتحدة الاميركية)؛ وفي أواخر 2013، رفع إدوَرد سنودن، الموظف الاميركي في وكالة الامن الوطني، الستر عن تجسس دوائر الاستخبارات الرسمية على اتصالات المواطنين الخاصة وتواطؤ شركات تشغيل وسائل التواصل الاجتماعي على التجسس الاستخباري. ونمَّت هذه الوقائع وغيرها «مثلها» على شاكلة اقتراع الايسلنديين على رفض سداد الدين العمومي، وصوغهم دستوراً جديداً بواسطة استفتاء على الانترنت، أو طرد الاوكرانيين رئيساً فاسداً قصر عن تكليفه- بخسارة الحكومات الديموقراطية شطراً راجحاً من مشروعيتها ومن سلطاتها، واضطرار جماعات فاعلة وناشطة الى التنديد بشلل الحكومات المنتخبة وقعودها عن المعالجة المناسبة التي يقتضيها حجم المشكلات وعولمتها المتعاظمة.

أعراض العولمة

فالحركات التي مر إحصاء بعضها، وتشترك في تقارب أوقاتها، الى اشتراكها في وجوه كثيرة أخرى لم تُتناول بعد، تتحدر على الارجح كلها من أزمة 2008 المالية والاقتصادية. فهذه الازمة، وهي لم تنته فصولها الى اليوم، كشفت عن فداحة تقلص السيادة الوطنية التي تتجلى في بنيان الدولة على العوامل الاقتصادية المؤثرة في التنظيمات والهيئات الداخلية الحيوية، وعن تعاظم التفاوت في توزيع الموارد المعنوية والمادية على الفئات الاجتماعية في الداخل وعلى الصعيد العالمي. ويصيب الامران، أي تقلص سيادة الدولة وتعاظم التفاوت، مقومات السياسة في الصميم ويوهنانها. فغلبة المصالح والقرارات المالية والمصرفية والنقدية الغفل على سياسات الدول، وعلى هيئاتها وحكوماتها المنتخبة، تسوّي في العجز والشلل بين القوى السياسية على اختلاف مشاربها ونزعاتها وبرامجها، وتحيل اقتراع المواطنين واختيارهم الى لعب عقيم. وتتعطل دواعي المشاركة السياسية والاجتماعية، وتحلّل الجسمَ الوطنيَ أجزاء أو ذرات من غير لحمات إرادية تربط بينها. فتبحث «الجماهير» عن تكتل من نمط آلي و»طبيعي» معياري تُسْلِسُ أمرها إليه، والى من يدعون القدرة على إحياء هذا النمط أو بعثه من رميمه، على ما يُرى في تظاهرات مناهضة المثلية في فرنسا. وهذه السياقة يقع عليها المراقب، على وجه الضدية، في الحركات التي تقدم إحصاؤها السريع. فراديكالية بنود البرنامج المعلنة وثوريتها، وعموميتها المرسلة والمقصودة، واضطلاع بنود ظرفية وجزئية بدور المدخل الى القصد العام («العالم الجديد») والعودة من القصد العام الى المواد الجزئية، وإيجاب حيز سياسي ومطلبي على حِدةٍ من الهيئات والمؤسسات التمثيلية التقليدية، والسعي في إحضار «الشعب» وولايته المرجعية على صورة ملموسة وعينية هذه السمات كلها قرينة على إرادة التفاف على الابنية السياسية المجربة والمتهافتة، وتطويقها من طرق مختلفة توجب مباني سياسية أخرى.

واختار الكاتبان، ألبير أوجيان وساندرا لوجييه، في ضوء غلبة التجريب على هذه الحركات وفي ضوء هشاشتها وترجحها وتخبط مصائرها، التزام وصفها وصفاً دقيقاً، والاقتصاد في تعليلها، وتعليق الرأي في مستقبلها ونتائجها، والامساك عن تقويم آثارها، المتوقعة، وذلك من غير الاغضاء أو السكوت عن ضعفها. فما يلاحظه الكاتبان، من غير الجزم فيه، هو قيام التجمعات العريضة و»الاحتلالات»، أو الاعتصامات التي أفضت إليها غالباً، بتجديد تجربة الفعل السياسي الصادر مباشرة عن المواطنين، والملتزم احترام المساواة التامة بينهم. ولا شك في أن تواقت الحركات، وانتشارها في مواضع متباعدة من العالم، أي عولمتها، يضاعفان صفتها الجماعية والمشتركة. وإجماعها على الاندراج في «ربيع» واحد على قول الاميركيين النيويوركيين أو قول الاوكرانيين من أهالي كييف وغيرها، دليل آخر على قوة الصفة الجماعية والنَسَبية هذه. ومن غير أن تصوغ هذه الحركات «فكراً» متماسكاً يبيِّن عن مقدماتها، ويصف عمارة وسائطها ومفاصلها- والحق انها تنكر انكاراً شديداً السعي في مثل هذا العمل وتحمله على نازع ذهني ذهاني واحترافي استبدادي-، تنم اجراءاتها وخطواتها بفكر سياسي لصيق بالوقائع العامة والخاصة التي تتقلب هذه الحركات بين أظهرها، أو تبحر في مياهها. وإرادة الصدور عن «حضور» شعبي عريض وماثل هو رد جواب على تآكل الهيئات التمثيلية وانصرافها عن الاضطلاع بالعبارة عن مصالح صفوف متعاظمة من المتروكين وأهل الضعف. وهؤلاء تحسب هذه الحركات، على قول «محتلي» وول ستريت، انهم الـ»99 في المئة» من المواطنين.

ولكن إرادة الصدور عن «شعب» ماثل وحاضر- ومثل هذا الشعب هو فكرة، على معنى مثال أو أفق جامع لا يدرك فعلاً وحقيقة آن يتيح جمع المتفرق القائم والمادي بين دفتي وحدة- لا تقتصر (هذه الارادة) على إيجابها وإثباتها على نحو قاصر وناقص وملتبس معاً. فتتمتها الضرورية والعملية هي تبني الكثرة والتعدد من غير اشتراط ولا تحفظ. ويُلزم هذان، الكثرة والتعدد، بقبول الآراء والمعتقدات وصور الحياة كلها. وانهيار النظامين التونسي والمصري السابقين شرَّع الباب على غليان أسمع أصواتاً مكبوتة، وألسنة عقدها الخوف والصمت ومنعها من الجهر والعلانية. وإخماد هذا الغليان، عن يدي «الاخوانيين» والعسكريين، جاء برهاناً على ان نظاماً ديموقراطياً مستتباً لا تقوم له قائمة ما لم يتعهد حق الاصوات والالسنة كلها، من غير استثناء، في العبارة والجهر. ولعل ضمان مساكنة الآراء المتقابلة والمتشاجرة في اطار مشترك يقر بالخلاف، هو من تبعات النظام الديموقراطي، أو «الديموقراطية الحقيقية»، العسيرة. وعلى هذا، ليست الديموقراطية نظاماً سياسياً وحسب، بل هي «شكل حياة» أو «صورة حياة»، على قول الكاتبين مستعيدين مفهوماً هو أصل من أصول مقالات فيتغنشتاين. والشكل، أو الصورة، شأنه (أو شأنها) هو شأن الحياة نفسها: رتق خروق «الثوب» المتسعة من غير كلل، واستئناف الحياكة من غير تسليم للتراث وضمانه.

القواسم المشتركة

وما تشترك فيه الاعتصامات و»الاحتلالات» والتظاهرات الميدانية، ثالثاً، هو المحافظة على حرية حكم أو رأي المعتصمين و»المحتلين» واحداً واحداً، ورفض أو انكار ترتيب الآراء والاحكام على مراتب من الشرف أو المكانة. وترجم المعتصمون محافظتهم ورفضهم إصراراً على ألا يقدِّموا أو يصدِّروا زعيماً، وألا يصوغوا برنامجاً. ولم تفت ملاحظة الامر الاعلام والصحافة، فاستماتا في تنصيب فلان من المعتصمين «مقدماً» عليهم ومرشداً أو إماماً. ولم يعثرا على بغيتهما إلا في يوسف القرضاوي، المتنطح بقوة حرسه الاخواني الخاص الى حمل تقدمه صفوف المصلين على مرتبة سياسية وقيادية. وأما وائل غنيم أو محمد دومة أو وائل عبد الفتاح وأمثالهم فكانوا نقائض على الابطال المتدافعين على مراتب البطولة وامتيازاتها في صفوف «الاخوانيين» ثم «لواءات» العسكريين و»الفلول». ولا شك في ان بعض المعتصمين أرادوا التصدي لأدوار متصدرة ومحترفة على معنى «الثوريين المحترفين» الاغنياء عن التعريف، وحيل غالباً بينهم وبين الصدارة المحترفة. والاصرار على رفض المراتب وتوليها، وعمومه على مقادير متفاوتة، قرينة من قرائن أخرى على تشكك عميق في تسنم مواقع السلطة والتهافت عليه، ومرآة رغبة قوية في خدمة عمل جماعي ومشترك بديلاً من تولي التحريض عليه وتنظيمه وحمل لوائه. ويضمر رفض المراتب نقداً لاذعاً للمقالات «التنظيمية»، الايديولوجية والفلسفية، التي تنبري لمديح شهوة الانتصار، وتمجيد الشجاعة والقيادة، والحض على المغامرة والمخاطرة. فهذه تقود، من طرق شتى، الى بعث التسلط والسيادة والولاية على المأمورين الراضين بانقيادهم والمُسلِّمين باذعانهم ورضوخهم. ورفض المراتب يقود الى سؤال جوهري: ما صورة السياسة إذا عزم مزاولوها ومباشروها على مزاولتها ومباشرتها من غير هالة العطية (الالهية)، ولا برنامج (يزعم استباق الحوادث والتحكم فيها)، ولا عنف؟ وإذا قدموا جماعة المشتركين على النزعات الخاصة؟

والقاسم المشترك الرابع بين الحركات «الميدانية»، إذا صحت الصفة، هو خروجها عن النطاق الذي ترسمه المنظمات السياسية الرسمية، واستلهامها تقنيات ابتكرتها روابط أو جمعيات غير حكومية، مثل تعبئة دالة المستهلكين، وإعمال قوة الحق والقانون، والتوجه الى افراد الهيئات المنتخَبة، والدعوة الى حملات مقاطعة، والتشهير بفساد موصوف، والتنديد بأفعال غير لائقة (مثل تزوير ثابت أو رشوة موثقة). وسائق هذه التقنيات، على قول بعض مناهضي العولمة، هو «حمل الحكومات على الانقياد» وإلزامها استجابة رغبات واحتياجات المواطنين الذين عهدوا إليها بتدبير أمورهم وتصريفها. ولا تنفك مباشرة السياسة على هذا النحو من علانية لا هوادة أو توسط فيها. وهي تترتب على التباس السياسة بالمنازعة على إعداد الرأي («العام») وتربيته، من غير استعلاء ولا توجيه أو عنف معنوي. والتوجه الى الرأي يقترن حكماً بمراقبة ما تبثه قنوات الاعلام وتوزيعه. ومن ويكيليكس وأنونيموس الى تكتلات الصحافيين الدولية التي تحقق في التهرب الضريبي والفراديس الضريبية وتبييض الاموال، شاعت أشكال العلانية، ومناهضة التستر عليها، في الانظمة الديموقراطية، بينما تتعاظم صفاقة الانظمة الديكتاتورية والمتسلطة ويصعب التستر عليها (ولعل من الامثلة الصارخة على خداع هذه الانظمة محاورة جوليان أسانج، صاحب ويكيليكس، حسن نصرالله، صاحب الجماعة الخمينية المسلحة، ونشر الصحيفة اللبنانية الحرسية والاستخبارية بعض البرقيات الديبلوماسية الاميركية…).

والقواسم المشتركة هذه، والحركات التي اتسمت بها، قد تؤذن (فالجزم في المسألة لا يتفق و»روح» الحركات الميدانية، من وجه، ولا مصدِّق له في اختباراتها الى اليوم) بصنف جديد من السياسيات وموضوعها هو تثبيت مثال للعلاقات الاجتماعية ولتوزيع النفوذ والسلطات، بين أهل كيان سياسي مشترك- ، وربما آذنت بعلاقة جديدة بالسياسة- أي بدائرة عمل موضوعها إنشاء اطار دستوري للدولة يتولى نَظْمَ وظائف الحكم والتمثيل والمشاركة (على قول الكاتبين وتعريفهما). ولكن عسر الجزم في مصائر هذه الحركات وثمراتها لا يحول دون ملاحظة ولادتها من رحم الاصل الديموقراطي ونازعه العميق واللصيق الى امتحان نفسه، والى حملها على المناقشة والمسألة والطعن والتشكيك. فالديموقراطية، الاصل وليس النظام أو النُظم، هي الصورة السياسية والاجتماعية الوحيدة التي تلد من داخلها نزعات وجماعات نقيضها تطعن أو تعيب عليها ضيق دائرتها وحدودها، وتجبهها وتعارضها باسم أصلها وباسم مترتبات هذا الاصل وفروعه. فتغذي جموحاً الى الاطراف (أو تطرفاً) لا ينفك يندد بسلاسل عملية وإجرائية تقيد بها السياسة، وهي نُظُم وظائف الحكم والتمثيل والمشاركة في اطار دستوري على ما مر، الديموقراطية «البرية»، على ما وصفها كلود لوفور وميغيل أبينسور، وتعثرها. فحين ينتهي الانتخاب او الاقتراع، وهو كان في أول أمره من إواليات السياسة الديموقراطية الثورية، الى استقرار اوليغارشيات محترفة وعاجزة، والى استتباب الامر لبيروقراطيات آمرة تجدد قسمة الامر والطاعة أو قسمة السيطرة والانفاذ المذعن- ينهض من يدعو الى تجديد مبدأ أو أصل التكليف والتوكيل الموقت والمقيَّد الذي تحدر الانتخاب والاقتراع منه.

وتبدو حركات الميادين واعتصاماتها وتظاهراتها وبياناتها وذراريها، إعمالاً راهناً وحراً للأصل الديموقراطي على وجوهه (ومرَّ إحصاء خمس سمات أو خمسة وجوه). وعمومُها البلدان والمجتمعات المتفرقة التي عمتها وبلغتها، وتواقتُها وكأنها تنجز مواعيد ضربتها أو اتعدتها، وتناقلت سمات تكاد تكون ثابتة مشتقة من أصل عام وجامع واحد، تبدو هذه ردَّ جواب على «أزمة» سياسية واجتماعية جامعة وعامة (أونيفرسيل) بدورها. ولا يخفى المراقب، بالغاً ما بلغت سذاجته، أن حركات الميادين ووجوهها المشتركة، تفند سمات أو صفات العولمة المالية والسوقية والتكنولوجية ومضامينها، سمةً بعد سمة ومضموناً بعد مضمون. وهي تتوجه بالنقد أو بالنقض العملي على عوامل ومظاهر الازمة السياسية الكيانية أو البنيانية التي تضرب أركان الانظمة الديموقراطية، المستعارة و»الاصيلة» معاً. وليس من قبيل اتفاق أعمى ان احتلال الميادين، والاعتصام فيها، أعقب على الدوام انتخابات عامة استأنفت توكيل الوكلاء القاصرين والخائرين أنفسهم، أو جددت ولاية أهرامات الفساد والاستبداد المتربعين في سدات حكومات منذ «الابد» (السوري وغير السوري).

وقد يكون هذا، أي المبادرة الى الاعتصام أو التظاهر الكثيف والجامع في أعقاب انتخابات مقفلة، ما أسبغ على «الربيع» («العربي») نموذجيته. فتظاهرُ اللبنانيين الجامع في شتاء سنة 2005 وربيعها نَقَضَ على استعمال الاحتلال السوري وعامله المحلي المزدوج السلطة البرلمانية والرئاسية استعمالاً متعسفاً ومفرطاً. وخرج ملايين الايرانيين الى الميادين والساحات قبيل الانتخابات الرئاسية المزورة وبعدها احتفالاً «اخضر» بالاقتراع لواعدَيْن بمقاومة الاوليغارشية الحرسية والحوزوية ثم تنديداً بسرقة الاصوات الناخبة. واستبق مواطنو هونغ كونغ على طرف القوس الجغرافي الآخر، تزوير الحزب الشيوعي المستبد والفاسد، الانتخابات المزمعة السنة الآتية. والمصائر الخائبة التي صارت اليها «الاحتلالات» والاعتصامات، أو معظمها، لا تبطل دلالتها، أي تجديدها الاصل الديموقراطي، ونقدها إقواءَ الابنية الديموقراطية وجفافَ نسغها، وغلبةَ العولمة المالية والمصرفية والاجرائية عليها. ولكنها لا تضمن، من وجه آخر، شيئاً، ثمرةً «ضرورية» تترتب على منطق جازم. فـ»استفتاء كل يوم»، على ما عرف إرنست رينان الامة في 1871، أي تجديد العزم على احياء الاصل الديموقراطي والنفخ فيه والسهر على استقامته، يصدق تعريفاً لما تولته الحركات والاعتصامات وتتولاه.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى