صفحات الرأي

الاحتياطي الاستراتيجي للاستبداد/ غازي أبو عقل

 

 

ليس سراً أن الاستبداد يحصن نفسه من أجل البقاء في السلطة، بأساليب متنوعة.

بدءاً بمنع الحق في الكلام، مروراً باستخدام العنف المسلح وانتهاء بتصنيع أعداء على هواه، أو اختراق تنظيمات معادية له أصلاً، حيث تساعده طبيعة هذه التنظيمات وغموضها على التسلل إلى قياداتها وإلى قواعدها. فينتمي إليها «متطرفون ومتشددون» من منابت مشبوهة يأخذونها إلى تنفيذ أعمال ظاهرها يعادي الاستبداد، لكنها تؤدي له فعلا خدمات لا تقدر بثمن.

لن أسترسل في «التنظير» مفضلاً تقديم شواهد حية مما امتلأت به الدراسات التي أنصبت على «فهم» منظمات الإسلام السياسي، من الإخوان إلى داعش مروراً بأطيافه كلها.

الأمثولات كثيرة، انتفيت منها ما حدث في الجزائر في تسعينات القرن الماضي، بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ والعسكر، الذين قرروا بعد استفحال جماعات العنف «الاستثمار» في البضاعة نفسها.

بدأ الأمن العسكري الجزائري إعداد دعاة دينيين من المنتمين إليه يمتازون بالتشدد وراح ينشرهم في الأرياف والبلدان في بيئة جبهة الإنقاذ نفسها. وبعد أن يتحلق عدد من الشباب حول الداعية يقوم بانتقاء أفضلهم، ويرسلهم إلى معسكرات خاصة أقامها الأمن العسكري.

يجري فيها تدريبهم على القتال وتجهيزهم، من الوثائق الرسمية إلى السلاح والعتاد، ويرسلهم عبر مسالك معروفة إلى افغانستان التي كانت أبوابها مشرعة لاستقبال «المجاهدين» الغافلين عن واقع حالهم حين يضع الأمن أميراً على كل مجموعة يعرفه أفرادها ويبايعونه.

ينخرط المجاهدون الغافلون عن حقيقة أميرهم ومهمتهم في البيئة الجهادية، ومنها تزويد أميرهم بالمعلومات التي باتوا يعايشون مصادرها.. إلى هنا والأمور عادية قد تحدث أينما كان.. غير أن المعلومات التي يحصل عليها الامراء ويرسلونها إلى الأمن الجزائري الذي يغربلها ويختار المجدي منها تمهيداً لبيعها، نعم لبيعها إلى ادارة الأمن السوفيتية… هكذا بكل بساطة يتطوع المجاهد ويذهب إلى القتال في سبيل الله، فلا يفعل إلا نقيض ما تطوع من أجله من دون أن يدري. بالإضافة إلى حرمان تنظيمات الإسلام الجهادي في الجزائر من «مجاهدين» محتملين، يؤدون مهمتهم في صفوف الاحتياطي الاستراتيجي للاستبداد.

إن الغموض والسرية والعنف المتوحش تساعد على اختراق هذه المنظمات وتحويلها إلى خدمة الاستبداد. وكم مرة أعلنت حماس أنها أعدمت متسللين إلى صفوفها وقعوا في شرك الاستبداد الإسرائيلي… ومما يزيد فرص الاختراق لجوء هذه الجماعات إلى الوسائل القذرة للحصول على المال، بدءاً بتهريب المخدرات وتزوير النقود وتبييضها إلى تجارة السلاح.

مهما فعلت تنظيمات العنف المسلح لتطهير صفوفها من العملاء، فهي لا تفلح دائماً.. ذلك أن طائرات الاستطلاع والقنص من دون طيارين تحتاج إلى «إحداثيات» دقيقة على الأرض، ليس بوسع تقاناتها المتقدمة الحصول عليها، فمن أين تأتي هذه الإحداثيات إلا من المجاهدين في سبيل الله ممن اخترقت صفوفَهم أجهزة أمن الاستبداد، والذين لولاهم لما كنا نسمع دائماً عن «قيادي» أو غير قيادي من منظمات العنف المسلح قد اغتاله صاروخ من السماء وهو في سيارته التي كانت تمضي به إلى موعد لا يعرفه «إلا الله» سبحانه..

لن أسترسل في قراءة خطط الاستبداد الإسرائيلي، في جنوب لبنان وجنوب فلسطين ليسوق َ إلى ملعبه «المجاهدين» في الجبهتين من دون علمهم إلى خدمة أهدافه بعيدة المدى. ذلك أن اللعب مع إسرائيل ربما لا يتماثل تماماً باللعب مع غيره من الاستبدادات «المحلية». وسأنصرف إلى تقديم دليل إضافي على نشاط المنظمات الجهادية في خدمة استراتيجية الاستبداد، يتجلى في ما تفعله في المناطق التي «تحررها». فلا تترك وسيلة لإقصاء الناس عنها، ودفعهم إلى أحضان الاستبداد. من الجرائم الهمجية المرتكبة علناً أو سراً، إلى ظاهرة النهب لأملاك المواطنين الذين تعدهم « بيئتها الحاضنة « إلا وترتكبها.. فهل قياداتها غافلة عما يفعلون أم أن فيها من يخدم الاستبداد وهو يتظاهر بنقيض ؟

سأنهي هذه المطالعة بالتوقف أمام ما يتجلى لكل متأمل في أحوال داعش وأخواتها لكي أتساءل ألا يدرك «المجاهدون» والمجاهدات ممن يأتون ويأتين من كل فج عميق، للاحتشاد في العراق وسوريا، أن الوصول إلى الفردوس الأرضي يتم من دون عراقيل فاعلة تمنع وصولهم؟

الحقيقة ـ في رأيي ـ أنهم يُساقون إلى هناك، فيصطاد الاستبداد وداعموه من نتنياهو واوباما وبوتين، أكثر من غراب بحجر واحد:

التخلص تدريجياً من أشد العناصر اندفاعاً في بلاد المنشأ.. بخاصة من المتأسلمين القادمين من باكستان إلى بريطانيا، ومن أفريقيا الشمالية إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك بتصدير هؤلاء إلى داعش وأخواتها. (كما فعلت أوروبا بيهودها بعيد الحرب العالمية الثانية.. مع الفارق..).

حصر « المجاهدين» في محمية طبيعية فسيحة، تحت رقابات متنوعة تقنية وبشرية من أجل تنويع وسائل إصطيادهم.. من صراعهم على الغنائم والنفوذ إلى اصطدامهم بقوى الأمن المحلية.

تؤدي تنظيمات الإسلام المسيس، من الإخوان إلى داعش، دوراً يُرعب مكونات المجتمع في المنطقة بأطيافها المتنوعة، بخاصة عندما ينادي الإخوان بتطبيق الشريعة المُختلف على فحواها منذ عهد عاد، إلى جرائم «الدولة» الإسلامية وعنفها الذي ينافس عنف الاستبداد، وهذا عنصر فاعل في الدور الذي تؤديه لإطالة أجل الاستبداد.

من قواعد الإسترات يجية الحكيمة وجود احتياطي فاعل، أو العمل على إيجاده، ثم إتقان أساليب استغلاله من أجل تحقيق أهداف معروفة إلا لدى المجاهدين ضد الاستبداد…

٭ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى