صفحات الرأي

الاخوان” ما زالوا عند حسن البنّا وسيد قطب

 

أمين الياس

“ربيع عربي” أم “شتاء إسلامي”؟ لا يهم. في الواقع، تمرّ البلدان الناطقة العربية وذات الغالبية المسلمة، منذ سقوط بن علي في تونس في 14 كانون الثاني 2010، بواحدة من أدقّ المراحل في تاريخها السياسي والفكري.

التحرّكات الاعتراضية التي يطلقها شباب ثائرون ضد “الفساد” وحكم “رجال الأعمال” للمطالبة بـ”الحرّيات، والعدالة الاجتماعية، والديموقراطية” تستولي عليها لاحقاً التيارات الإسلامية. لقد فاز “حزب النهضة”، أي النسخة التونسية لجماعة “الإخوان المسلمين”، بالانتخابات التشريعية في تونس بـ42 في المئة من الأصوات. ونجح “حزب الحرية والعدالة”، الجناح السياسي للإخوان المسلمين في مصر، بالحصول على 40 في المئة من الأصوات. ينهل هذان الحزبان أفكارهما السياسية من فكر حسن البنّا.

ناضل حسن البنا طوال حياته، مدفوعاً باستياء قوي من الغرب بسبب موجة الاصطباغ بالحضارة الغربية التي اجتاحت مصر في النصف الأول من القرن العشرين، ضد النموذج الحضاري والسياسي والاقتصادي والمجتمعي والفكري الآتي من هذا الغرب. يختصر البنا هذا النموذج بعبارة “الفكرة المدنية” أو العلمانية التي تستند إلى الفصل بين الديني والزمني. وهو يعتبر أن النموذج الوحيد القادر على مقاومة هذه الفكرة العلمانية هو “الفكرة الإسلامية”.

خلق البنا، بقلمه وخطبه، “إسلاماً” منمذَجاً واقترحه “نهجاً شاملاً لكل أوجه الحياة” في مواجهة المنظومة الغربية. وإذ سعى إلى صبغ كل قطاعات الحياة البشرية، السياسية والتربوية والمجتمعية والعسكرية والثقافية والقانونية والمالية والاقتصادية والتشريعية، بهذا الإسلام، تمنّى تكوين “خلافة راشدة” يكون هدفها الأسمى ممارسة “أستاذية العالم”.

إسلام ينظّم شؤون العالم

رأى البنّا في الإسلام ردّاً جيداً على أزمة “العقل البشري” الذي يعتبر أنه مرّ بثلاث مراحل. تتّسم المرحلة الأولى بهيمنة “العقلية الأسطورية والتبسيطية” التي يخضع فيها العقل لقوى “الغيب”. والثانية هي مرحلة “النزعة المادّية” التي ليست سوى ردّ فعل على هذا “الغيب”. هنا، يشرح العقل البشري كل جوانب الكون من خلال وسائل تجريبية وانطلاقاً من ذهنية مادّية. وإذ لا يرى “الإنسان المادّي” في هذا العالم سوى المادّة وقوانينها، يرفض “الألوهية” و”الرسائل النبوية” و”العالم الروحي”. يقترح البنا الإسلام حلاً وسطاً بين العقليّتَين. فالإسلام الذي يجمع بين الإيمان والعقل يعترف بـ”العالمَين: المادّي والروحي”. وبما أن الإيمان ضروري للإنسان، بحسب البنّا، الوحيد القادر على إصلاح المجتمع البشري.

وهكذا يستمدّ البنا رسالته من بداهةٍ تعتبر أن الإسلام ينقذ العالم من “العقلية الخاضعة لقوى الغيب” و”العقلية المادّية الغربية”. مع البنا، يجد “الإسلام القويم” الذي يجمع بين “المادّة” و”الروح”، إطاره الأوسع على الإطلاق: إنه نهج شامل لكل أوجه الحياة.

لا يقتصر هذا الإسلام على المسائل المتعلّقة بالعبادة والشؤون الروحية، لكنه يتعدّاها إلى تنظيم الشؤون الدنيوية. عرّف البنا في رسالته “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي”، الإسلام بأنه “دين ومجتمع، ومسجد ودولة”. فهو يعتبره “جنسية ودولة وروحانية وعملاً ومصحفاً وسيفاً”. الإسلام هو قانون “لكل زمان ومكان”. ومن هذا المنطلق، يقترح البنا إنشاء “دولة إسلامية” تعود أصولها إلى مراحل الإسلام الأولى عندما حاربت الأمة الإسلامية التي وحّدها الخلفاء، اليهود والمسيحيين، ونجحت في الوصول إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، فحوّلت المتوسّط “بحراً إسلامياً”. في هذه الدولة الإسلامية، لا وجود لـ”فصل عملي بين الدين والسياسية”: “المسلم لا يتمّ إسلامه إلا بأن يكون كائناً سياسياً”. والرابطة التي تجمع بين الأفراد في هذه الدولة هي “رابطة العقيدة” أو “أخوّة الإيمان”.

 “الإخوان” حركة أصولية

أما في ما يتعلّق بغير المسلمين، فيُعامَلون بطريقة سلمية طالما أنهم يقبلون العيش بسلام مع المسلمين. في هذه الحالة، “رابطة الدعوة” هي التي تحكم العلاقات بين الطرفَين، وبموجبها على المسلمين أن يدعوا غير المسلمين إلى الإسلام “الذي يحمل الخير للبشرية جمعاء”. يعتبر البنا أن أعضاء الحكومة الإسلامية لا يمكن أن يكونوا إلا مسلمين يطبّقون أحكام الإسلام. ولا يتم اللجوء إلى غير المسلمين إلا في حالات الضرورة القصوى شرط ألا تندرج الوظائف المسندة إليهم في نطاق “الولاية العامة”. دستور هذه الدولة هو القرآن، فالبنا يعلن “الله غايتنا، والقرآن دستورنا، والرسول قدوتنا”. القرآن هو دستور الدين والدنيا، إنه “تنظيم دنيوي ونهج مجتمعي”. فهو يرسم، بحسب البنا، الطريق للإنسان لتحقيق السعادة في هذا العالم، وكذلك الوسائل الضرورية للفوز بالحياة الآخرة. وهو أيضاً وعاء ضمّنه الله كل العلوم والمعارف الدينية والدنيوية. ولذلك يرفض البنا كل أشكال “القوانين الوضعية”. ففي الدولة الإسلامية لا مكان إلا “للقوانين السموية” المستوحاة من الشريعة الإسلامية المستمّدة بدورها من القرآن وأحكام الفقه الإسلامي.

بعد وفاة المؤسّس، وجد “الإخوان المسلمون” أنفسهم عند منعطف بين نزعتَين في الدعوة. النزعة الأولى تمثّلت بجمال الدين البنا، الشقيق الأصغر لحسن البنا، الذي سعى إلى إعادة توجيه الطرائق التي تعتمدها هذه الدعوة. لكن بعدما خاب ظنّه من ردّ فعل الإخوان تجاه خطابه، أخذ مسافةً منهم وانطلق وحيداً في مغامرة جديدة في الدعوة تحت عنوان “نداء من أجل النهضة الإسلامية” من شأنها إطلاق مرحلة “ما بعد الإخوان المسلمين”. تهدف هذه المغامرة إلى تجديد “منظومة المعارف الإسلامية” المعمول بها، والتي تتعلّق بالشروحات والتقليد والفقه؛ من هنا كتابه المؤلَّف من ثلاثة أجزاء “نحو فقه جديد”. أما النزعة الثانية فطوّرها سيد قطب (1906-1966)، الذي تأثّر بالفكر المتشدّد لأبي الاعلى المودودوي، فأطلق فكراً وخطاباً سيطرا على مسار “الإخوان المسلمين” طوال نضالهم ضد سلطة الجنرالات. صبغ قطب كلام حسن البنا بصبغة راديكالية، وأصرّ على استحالة الفصل بين الدين والدنيا، فأدخل مفهوم العنف في نضال الإخوان للاستيلاء على السلطة. وأصبح الملهم الجديد للإخوان المسلمين طوال مرحلة الستينات وحتى بعد الحكم عليه بالإعدام في 29 آب 1966.

يجد “الإخوان المسلمون” الذين يتبوأون الآن سدّة الحكم في مصر وتونس والسودان، صعوبات جمّة في إدارة الشؤون الحكومية، بعدما رفضوا إعادة توجيه طرائق الدعوة، وتطوير فكر سياسي يتناسب وتطوّر المجتمعات التعدّدية التي تشهد بروز علاقات جديدة بين الدين والسياسة. يخلص دومينيك أفون في مقاله “الإخوان المسلمون والدولة المدنية الديموقراطية ذات المرجعية الإسلامية” الذي يتطرّق إلى سلوك “الإخوان المسلمين” بعد سقوط الرئيس حسني مبارك، إلى أن الإخوان ظلّوا عند خضوعهم لمحك الاختبار، تياراً أصولياً بعيداً جداً عن صفة “المسلمين الديموقراطيين”.

 يُبيّن أفون كيف أن “الدولة المدنية الديموقراطية ذات المرجعية الإسلامية” التي ينادون بها، “تستقي جوهرها من مفهوم شامل للتقليد الإسلامي، وسلطة أعلى من الشعب مستمدّة من “الله” لمنع عامة الشعب من تشكيل كتلة فاعلة في ميادين الحياة العامة (السياسية، القانونية، العلمية، الثقافية)”. وهذا يجعلنا ندرك السبب وراء خطابهم الملتبس وقدرتهم على تأكيد الشيء ونقيضه. كما يُفسِّر جزئياً الظاهرة التي تشهدها حالياً مصر وتونس والسودان، والتي يُسمّونها “الثورة على الثورة”، حيث يتعاظم تدريجاً الاحتجاج على الحكومات الإسلامية.

جامعة لومان الفرنسية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى