صفحات الرأي

الاستبداد السلطاني العثماني في كتابات المؤرخين العرب/ عبد الله حنا

 

 

أولا في الاستبداد

الاستبداد في اللغة تعني التفرد بالشيء, والمستبد هو الذي ينفرد برأيه. وعبر التاريخ أُطلقت كلمة الاستبداد لتصف أشكالا متعددة من الحكم على رأسها حكام لديهم سلطة لا قيد لها. ويطلق الاستبداد على حكم شخص (أو مجموعة) يحكم حكما مطلقا عن طريق القوة العسكرية أو الخداع السياسي أو الإتكاء على الدين لكسب قلوب المؤمنين وجعلهم يسيرون طائعين لأمره.

ويجري أحيانا استخدام تعبير ” الاستبداد الشرقي ” [1] ,الذي تموضع في أماكن حضارات الري والتنظيم المائي , إذ اقتضت الضرورة وجود دولة مركزية قوية تقوم ببناء السدود وفتح الأقنية وتوزيع مياه الري . فقد كانت إحدى ” الشروط الأولى ” للنشاطات الزراعية التي تمارسها المشاعات القروية هي ” الاستعمال الإقتصادي المشترك للماء , ذلك المورد ذي الضرورة الحيوية في البلدان التي تضم مناطق صحراوية واسعة . ويرى فردريك انجلز أن تنظيم ورشات الأشغال الكبيرة الضرورية الى الأرض صناعيا تقع مسؤوليته على عاتق البلديات والأقليم  أو الحكومة المركزية  . ويمض انجلز قائلا :  إن ” الوظيفة الأولى لحكومة مركزية  هي ضمان الأشغال العامة الشرط الضروري لاعادة الانتاج . ووظيفتاها الأخريان هما المالية ( النهب الداخلي) والحرب ( النهب الخارجي) . [2]

وفي رأينا أن الاستبداد ليس شرقيا فحسب  فالاستبداد هو الاستبداد في الشرق والغرب , وفي كل زمان ومكان تجري فيه عملية الاختلاف وبالتالي الصراع على توزيع الثروة بمختلف أنواعها .

وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر مع انتشار عصر التنوير  ظهر في أوروبا تعبير الاستبداد المستنير . ويقابل ذلك في عالمنا العربي استخدام تعبير المستبد العادل , الذي ظهر مع بداية صعود النهضة العربية . [3] وهنا علينا أن نميّز بين الاستبداد والطغيان . والأخير ، أي الطغيان ، أشد وطأة وجورا واستعبادا وبربرية من الاستبداد على مختلف درجاته.

ثانيا الاستبداد السلطاني العثماني في كتابات المؤرخين

مما يثير الأسى أن يظل مجتمعنا ذو الماضي التاريخي العريق والمجيد , وذو الثقافة والحضارة الانسانيتين ، ان يظل هذا المجتمع ساكنا راكضا قرون عدة بعد ان بلغت الحضارة العربية الاسلامية في القرن الرابع الهجري الأوج , ثمّ شهدت بعد القرن الثالث عشر الميلادي قرونا من السكون والركود وسادها الاستبداد السلطاني لدول الاقطاع العسكري السلجوقي والمملوكي والعثماني , التي خنقت إرهاصات التطور والتقدم .

ومن يقرأ كتابات مؤرخي تلك الفترة يرى بوضوح الطرق والوسائل التي اتبعها الحكام من المماليك والعثمانيين في فرض الضرائب الباهظة والإتاوات المتكررة , وابتزاز الأموال , ونهب الثروات والمحاصيل , وصرفها في الأمور الترفية الاستهلاكية غير المنتجة . ويلمس القارئ لمس اليد دور أولئك الحكام المستبدين في عرقلة إبداع القوى المنتجة وإقفال بوابات التطور والنهوض .

*     تحت عنوان : ” ظلامات عهد الظلمات ”  لخّصت جريدة المقتبس الدمشقية النهضوية عام 1910 الوضع من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر الهجري بالجمل التالية : ”  كانت أشقى العصور . لا حكم فيها إلا للقوة ,   ولا عدل يُحْيِها , ولا عِلم يُنهضها , وخصوصا في الأيام التي سادت فيها حكومة الإقطاعات ” . [4]

*    ويلخّص مؤرخ الشام محمد كرد علي الحالة في تلك العصور بالجملة التالية : ” كان أهل الشام بين ظالم ومظلوم ” .[5]

*   قبل قرنين من كلام كرد علي , وصف المؤرخ ابن جمعة المقار الأحداث في دمشق سنة 1136 هجرية -1725 م كما يلي :

” … وفي هذه الأيام كان الظلم الشديد الزايد وكثرة العوانية حتى صارت أرض الشام مشغولة بالظلم , وتمادى هذا الحال وقلّ المسعف حتى بالقال … اما أهل البلد لم يبق لهم جلد وحارت عقول المحلات , من قول هات هات وهم رعايا بادية بين ذياب عارية ” . [6]

*   بعد عقدين من الزمن وصف البديري الحلاق الحالة في دمشق عام 1725 م بالجمل التالية :

” … غير انه ما فيه من يفتش على الخلق بالرحمة والرأفة من الحكام والوجوه . والخَزّانة كثيرون , والأكابر ساكتون , والحكام يأكلون , فإنّا لله وإنا إليه راجعون … ” . [7]

* المعاصر للأحداث بريك يصف قدوم الوالي العثماني الجديد إلى دمشق عام 1171 هجرية – 1758 ميلادية على النحو التالي:

” ومعه عساكر كثيرة مثل جراد زحاف أشكال وألوان , فخافت دمشق اكثر من الأول … دخل على الوزير ( أي الوالي ) في مدة سبعين يوما نحو أربعة آلاف كيس ( من النقود ) من ظلم أهالي دمشق من الموالي والرعية والحرف , ومن النصارى والإفرنج واليهود , ومن البساتنة , ومن أهالي الأراضي , ومن أهالي القرايا, التي حوالي الشام , على أن فُقد القرش من الشام بالكلية . وعساكر الوزير طافت على القرى والضياع التي حوالي الشام ونهبوها نهبة خفيّة وخربوا البلاد والزراعات ودُور الفلاحين … ” . [8]

*  والي عكا أحمد باشا الجزار وهو من التلاميذ النجباء ” لمدرسة المؤامرات والاغتيالات والسلب والنهب والغدر والمكائد ” , مدّ نفوذه إلى ولاية الشام . المؤرخ مخائيل الدمشقي وصف حالةالناس  , التي لم تأخذ أي قسط من الراحة بسبب مظالم الجزار وهي :

” طلب القرش ظلما , نهب البضائع من جهة وطرحها في الأسواق بأسعار مرتفعة , حوادث كثيرة مقهرة ومغمّة من أنواع كثيرة ” . [9]

وكانت النتيجة كما ذكر الدمشقي نزوح أعداد كبيرة من الشام هربا من الظلم [10] في ايام حكم أحمد باشا الجزار في الربع الأخير من القرن التاسع عشر . وبعد قرن من الزمن اشتد النزوح من بلاد الشام والهجرة إلى أمريكا تخلصا من الفقر وهروبا من استبداد عبد الحميد وظلم ولاته وموظفيه .

ثالثا استبداد السلطان عبد الحميد استمرار لأسلافه

وهكذا نرى أن الاستبداد أيام حكم السلطان عبد الحميد ، الذي خصصنا له مقالة في عدد سابق من الضفة الثالثة ، ليس إلّا استمراراً للاستبداد السلطاني من أيام الأتراك السلاجقة إلى العثمانيين مرورا بالمماليك . والاستبداد الحميدي والمقصود  استبداد السلطان العثماني عبد الحميد ( 1876 – 1909 ) بزّ انظمة الاستبداد السلطاني السابقة له بأنه أوقف عجلة التطور في اواخر القرن التاسع عشر وأوجد مناخا فكريا متحجّراً متزمتاً ومتزلفاً للسلاطين وبطانتهم , ومغلِقاً الأبواب أمام التقدم العلمي والانفتاح الحضاري .

* تعكس ترجمة الشيخ راغب الطباع ( الحلبي) لأعيان القرن التاسع عشر  أحد جوانب الحياة في المجتمع الراكد لتلك الفترة العثمانية . فقد صنّف الشيخ راغب الطباع الأعيان إلى فئات [11] منها  ” أعيان على صلة بالسياسة ” . وهؤلاء “الأعيان”، الذين عملوا في السياسة أيام السلطان عبد الحميد مثّلوا الاتجاه المحافظ المناهض للتقدم والتطور والعلم واعتبروا كل اجتهاد مخالف لرأيهم من البدع. ووصل الأمر بأحدهم الشيخ سعيد الغبرة أن استصدر إرادة سنية من السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل الروايات في دمشق ، مما اضطر رائد المسرح السوري أبا خليل القباني إلى مغادرة دمشق والإلتجاء  إلى مصر، مأوى جميع الأحرار ( الشوام ) والمناوئين للاستبداد في أواخر أيام الدولة العثمانية. [12]

*     وهكذا يتبين أنه لم يكن من السهل على رواد النهضة نشر أفكارهم في أجواء سياسية واجتماعية وفكرية غير ملائمة:

– فمؤرخ الشام محمد كرد علي يلخص الوضع بالجملة التالية : ” كان المرء سرياً في ثلاثة أمور: في ذهبه وذهابه ومذهبه ” [13]..

– والاهتمام بتوافه الأمور والاعتقاد بالخرافات والأساطير والخوارق يختصرها الشيخ المستنير محمد بهجت البيطار واصفاً عصر جده (1253 – 1335 هجرية ) بالجملة التالية : ” كان عصره عصر جمود على القديم وتلقي الأقوال بالتسليم من دون تمحيص للصحيح من السقيم “.. [14]

– وفي ذلك الجو الفكري السقيم كان من الطبيعي ” أن تَقِلَّ ” , كما كتب القساطلي سنة  1879 , ” بضاعة المعارف لرواج بضاعة السيوف والعصي ” [15]..

– وتقرير الوالي المصلح مدحت باشا عن أحوال سوريا عام 1879[16] يبين مدى الإرهاب والفوضى السائدة آنذاك . جاء في التقرير:

“…فالأوامر التي ترسل من الأستانة قاصرة على طلب المال والجند. وهذه الحالة تفتح للأجنبي باب الاستعمار وخصوصاً بعد أن اشتغل موظفوا الولاية بمصالحهم الشخصية وتركوا المصلحة العمومية فأخلوا بواجباتهم وفسدت أخلاق الأهلين بسبب أعمالهم وكثر القتل والنهب واختل الأمن العام.. ويوجد في سجن طرابلس “الشام” قوم قد سجنتهم الحكومة إحدى عشر سنة بلا حكم قانوني وقد أخلينا سبيلهم. وأن ضريبة الاعشار قد خرّبت بيوت الأهالي..” . [17]

رابعا حُكّام ليلة القدر

الدكتور عبد الكريم غرايبة الاردني المولِد واستاذ التاريخ الحديث في الجامعة السورية بين عامي 1955 و 1961 أصدر كتابا بعنوان : ” مقدمة تاريخ العرب الحديث ” صدر في دمشق سنة1960 . نقل غرايبة عن الاسحاقي ص196 الحوار الذي جرى بين عبدين وجماّل وهما سائران في إحدى القوافل :

” … وتحادثا مع الجمّال في ليلة مقمرة من شهر رمضان , فقالوا لعل هذه الليلة النيّرة ليلة القدر , ولعلّ الدعاء فيها مستجاب , فليدْعُ كلٌ منّا بما يحبه . فقال أحد العبيد : أنا أطلب سلطنة مصر من الله تعالى . وقال العبد الثاني : وأنا أطلب ان أكون أميراً كبيرا . والتفتا إلى الجمّال وقالا له : أي شيء تطلب أنت , فقال : أطلب من الله حُسن الخاتمة ” .

يعلق غرايبة  عام 1960على هذا الحوار بالآتي :

” نعم لقد كان حكم العالم العربي قرونا طويلة من قبل أمراء ليلة القدر , الذين بدأوا حياتهم أجانب ومماليك ثمّ دانت لهم رقاب الأحرار دون أن يفقدوا صفة العبيد . ولم يكن ما تمناه هذان العبدان أمراً غير عادي ” .

***

وحول الحكم العثماني كتب غرايبة :

” وسعى سلاطين بني عثمان إلى إضفاء هالة من القدسية حول أنفسهم . فهم حماة الشريعة الذائدين عن دار الإسلام و وخدّام الحرمين الشريفين . واستغلّوا بدهاء العديد من الآيات الكريمة وفسّروها وفق مصالحهم . وغدو حكاما مطلقي الصلاحية لا يحدّ من سلطانهم وسطوتهم  إلا الشريعة الإسلامية , التي فسروها وفق اهوائهم , واصدروا الفتاوى المؤيدة لسياستهم ” .

” ولم يكن بالإمكان على أية فئة , في ظل هذا الوضع الشرعي للسلطان , أن تقوم باي تحرك  دون أن تُتَهَم بالخروج على ” أهل السنة والجماعة ” . ولهذا فإن كل الثائرين  في الولايات العثمانية حرصوا على إعلان ولائهم للسلطان عند قيامهم بأي تحرك ضد ولاة السلطان ” .

[1] أول من استخدم تعبير الاستبداد الشرقي هو الألماني Karl A. Wittfogel كارل فيتفوكل . وجاءت الماركسية وألقت الأضواء على اسلوب الانتاج الأسيوي ذي العلاقة الوشيجة بالاستبداد في دول هذا الانتاج .

[2] رسالة من ماركس إلى انجلز في 14 حزيران 1853 . نقلا عن موريس غودولييه : ” حول نمط الانتاج الأسيوي ” ترجمة جورج طرابيشي  . دار الحقيقة بيروت 1072 , ص 189 .

[3] نتيجة لضعف البنية الاقتصادية الاجتماعية المؤهلة للتقدم اتجه عدد من رواد النهضة ومنهم محمد عبدة للدعوة إلى حكم المستبد العادل , الذي لا ينهض الشرق بدونه .. راجع كتاب  محمد عفيف استاذ التاريخ في جامعة القاهرة بعنوان : ” المستبد العادل .. الزعامة العربية في القرن العشرين ” .

[4] سقط تاريخ الجريدة من أرشيفنا

[5] كرد علي محمد  ” خطط الشام ” ..

[6] ابن جمعةالمقار : ” الباشوات والقضاة ” . نشر صلاح الدين المنجد , دمشق 1949 , ص 6 .

[7] البديري احمد الحلاق : ” حوادث دمشق اليومية 1154 -1175 هجرية -1741- 1762 م , جمعها الشيخ احمد البديري الحلاق , نقحها الشيخ محمد سعيد القاسمي . وقف على تحقيقها ونشرها دكتور أحمد عزت عبد الكريم . القاهرة 1959 , ص163 .

[8] بريك مخائيل : ” تاريخ الشام 1720 – 1782 ” , عُنيَ بتعليق حواشيه مع ملحق جزيل الفائدة الخوري قسطنطين باشا المخلصي . حريصا لبنان 1930 , ص 63

[9] مخائيل الدمشقي : ” تاريخ حوادث الشام ولبنان من سنة 1782 إلى 1841 ” . بيروت 1912 , ص 6 .

[10] المصدر نفسه .

[11] انظر :راغب الطباع : ” أعلام النبلاء بتاريخ حلب ” , حلب 1922 .  انظر أيضا مجلة المجمع العلمي العربي 1923 ص206 وفيها دراسة نقدية للكتاب .

[12] في منتصف القرن العشرين لم يعد بإمكان التيار المتزمت تهجير رجال الفن والمسرح , كما كان الأمر أيام السلطان عبد الحميد .  انظر شحادة الخوري :  فصول في الأدب والاجتماع والتربية والثقافة والحياة العامة ” دمشق 1956 .

[13] كرد علي محمد : ” المذكرات ” دمشق 1949 , ج 1 ص 10 .

[14]  البيطار عبد الرزاق : ” حِلْيَة البشر في تاريخ القرن الثالث عشر ” . دمشق 1960 . مقدمة الشيخ بهجت .

[15] القساطلي نعمان : ” كتاب الروضة الغناء في دمشق الفيحاء ” . بيروت 1979 ص 87 .

[16] أثناء فترة ولاية مدحت باشا على دمشق قام بجملة من الإصلاحات الثقافية والعمرانية , وسعى كما يظهر من التقرير أنه طمح إلى النهوض بالولاية وتخفيف وطأة الاستغلال عن كواهل اهلها .

[17] نقلا عن العطار نادر : ” تاريخ سورية في العصور الحديثة ” ج 1 , مطبعة الانشاء دمشق 1962 . الملحق رقم 3 .

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى