الاستبداد المتعدد
سوسن جميل حسن
منذ بداية الانتفاضة الشعبية في سوريا وأنا أسأل نفسي، بل وكثيرون على ما أظن كانوا يسألون السؤال عينه: لو استمر التظاهر في سوريا سلمياً، فهل كان الطريق سيكون أطول؟ وهل كانت النتيجة ستكون أكثر دموية وعدد الضحايا أعلى؟
سؤال صعب بقدر ما هو غير مجدٍ على الأقل في اللحظة الراهنة، فمتغيرات الواقع وتعقد الحالة السورية بحيث صارت أزمة حقيقية وكبيرة، صارت تدفع بهذا السؤال إلى سلة المهملات. فالمقاومة «اللاعنفية» بحسب مقولة بطلها التاريخي «غاندي» لا تقوم على إلحاق الأذى وإثارة المعاناة عند الخصم، إنما بقبول المرء أن يعاني بنفسه، هذه المقاومة كانت ستؤسس لحالة تمرد جماعي بطريقة اللاعنف، لو أتيح للتجربة أن تكون لها جذور اجتماعية وثقافية وأخلاقية وسياسية في مجتمعنا، لكن الواقع يكشف لنا كل يوم في منطقتنا العربية المتشابهة التاريخ والثقافة والبيئات الحاضنة لهذه الثقافة، وأنظمة الحكم، أن اللاعنف هو حلم، لكن ثقافة العنف هي ما تم الاشتغال على تكريسها عبر التاريخ.
منذ الإرهاصات الأولى لتسليح الانتفاضة السورية، علت أصوات مستبقة أي استنكار أو مطالبة بالتمسك بالسلمية تقول: لا يمكن لأي استفزاز أن يبرر القتل الوحشي لأناس خرجوا حاملين أغصان الزيتون. ومع علو الأصوات علت أصوات بالمقابل تبرر القتل تحت ذريعة أمن الوطن وحمايته من مؤامرة تحاك ضده. لكن أصوات الرصاص والقذائف والهاونات والطائرات صارت هي الصوت الذي لا يُعلى عليه.
لم تعد الحالة السورية معادلة من الدرجة الأولى، صارت مجاهيلها عديدة، مثلما هي معالمها، والبحث عن حل كلما طال أمدها يُدخل الجميع في أنفاق مظلمة مسدودة. هناك واقع لا يمكن نكرانه، ولا يمكن التغافل عنه، صارت سوريا مسمومة الهواء بغازات البارود، وغازات الفتنة وروائح التعصب، بعدما كان الشعب يبحث لاهثاً عن هواء الحرية. صار المناخ السائد هو مناخ الاستبداد بأشكال مختلفة بعدما كان الشعب يرزح تحت نير استبداد سياسي بالدرجة الأولى. استبدت مشاعر التعصب بالشعب وفرقته إلى شيع وفرق ومذاهب وطوائف، لكل منها مرجعياتها التي عليها طاعتها طاعة عمياء، عقيدة لها وجوه متعددة هي المستبدة الأولى بأفراد الشعب، عقيدة لاعقلانية تكرّس الانتماء بأضيق مفهوم له وأكثره عرقلة للعيش في وطن، وصار أغلب الناس يعيشون في الرعب ومجبرين على السكوت، إلاّ الحرب فتزداد استعاراً وجنوناً.
التحولات كبيرة ومربكة وخطيرة ومنذرة بمستقبل لا يرحم، وأنا لا أقصد ما يجري التهديد به من نتائج كارثية على المنطقة، بل أقصد المستقبل السوري على الصعيد الفردي والمجتمعي، فنحن لا نخسر وطناً فقط، بل نخسر إمكانية بناء وطن سليم في المستقبل بما يخبئ هذا الحاضر في غفلة منا من نوى معطوبة.
التحولات الاجتماعية خطيرة، فأين نحن من المسؤولية تجاه الشعب؟ هل تفرض الحروب منطقها ومزاجها وأدواتها على الجميع؟ الحرب مدمرة فإذا اشتغلنا جميعاً على وقع الحرب فقط سينهار الوطن. علينا مقاومة الحريق وحصره إذا لم نتمكن من إطفائه، وعلينا المقاومة لكل أشكال الإبادة وأهمها إبادة الفكر والإبداع.
برغم سوداوية المزاج العام، والحالة اليائسة التي تتناول الشاشات فيها الحالة السورية، ومحاولات زج الرأي وأنظمة التفكير وشحن المشاعر بخطاب مذهبي وطائفي، وبرغم شراسة القتل وانتهاك الحياة، هناك نشاطات يقوم بها الشباب السوريون هي بمثابة بارقة أمل تومض في نهاية النفق، مثلما يفعل الشاب الجامعي «خليفة» في حلب وهو يمارس فن «الغرافيك» على بقايا الركام السوري، يلون الجدران المهدمة وبقايا البيوت المتروكة لفراغ الأرواح، يرسم الأمل فوق صمتها وحزنها، يقول إنه يحارب الفكر المدمر ويحاول أن يؤسس لثقافة أخرى تقوم على الأمل والإبداع وإرادة الحياة. خليفة ليس الوحيد فهناك الكثير من الشباب السوريين يقاومون الموت ويبتدعون حياة من رحم الخراب، يقاومون استبداداً قائماً واستبداداً يحاول أن يحل مكانه. مقاومة لاعنفية، مقاومة تقوم على تلقف الإله «المخلوع عن عرشه» في هذه الحرب الخائنة، ويسكنونه مجدداً في قلوبهم، على رأي «غاندي» أيضاً، بعد أن صار المجتمع السوري بحاجة إلى لقاحات ضدّ ثقافة الموت. شباب سوريون هم الأمل بما يحملون من قدرة على مقاومة الموت وإبداع الحياة في زمن الحرب السورية. شباب سوريا هم المرشحون لتحريك التاريخ وانتشاله من ركوده، بعد أن كانت القيادات التي احتكرت بوصلة الثورة قد دفعته، بدعوى الأبوة والتجارب المدفوعة مسبقاً في مقاومة الطغيان، إلى خيارات أضيق من طاقاتهم وخيالاتهم.
الثورة هي انقلاب على الواقع وخلق واقع أبهى وأنقى وأكثر قدرة على العيش. هي إبداع سوف يصنعه الشباب السوري الناشط في الحياة أكثر من نشاطه السياسي، برغم بوق الموت الذي تتبدل الأفواه التي تنفخ فيه.