الاستبداد وفضائح التعليم/ باسل العودات
خلال هذا الأسبوع، شهدت ثلاث دول عربية فضيحة تسريب أسئلة امتحانات البكالوريا (الثانوية العامة)، حيث وصلت الأسئلة لعدد كبير من الناس لدرجة أنها أُدرجت في بعض مواقع التواصل الاجتماعي ليستفيد منها الجميع تعميماً للفائدة و”البركة”، وسرعان ما حمّلت حكومات هذه الدول المعارضات المسؤولية لتنفي وجود أزمة جوهرية في أنظمتها ومؤسساتها.
تسرّبت في سورية هذه الأسئلة وانتشرت في أوساط الطبقة المتنفّذة والطبقة الغنية، حيث حصل عليها أبناء الأولى بسيوف آبائهم وأبناء الثانية بأموالهم، وسرعان ما تسرّبت إلى شرائح واسعة عبر أصدقاء هؤلاء ورفاقهم لتصل إلى مواقع إلكترونية نشرتها على الملأ بمثابة (الزكاة) من أجل “أن يستفيد منها الفقراء ممن لا يقدر على دفع ثمنها” وفق تعبيرهم، ووصلت جرأة البعض لوعد الطلاب بتسريب الأسئلة الجديدة في حال تغييرها، وبطبيعة الحال غضت السلطات المعنية الطرف عن هذه الفضيحة، التربوية منها والقضائية، وكأن شيئاً لم يكن، من دون أن تُجهد نفسها بفتح تحقيق ولو شكلي بالقضية.
في مصر كذلك، تسرّبت أسئلة الثانوية العامة وانتشرت بالتدريج لتصل الى الكثيرين، وضج الشارع بالفضيحة وارتفعت الأصوات تتحدث عن الفساد، ولأن الأصوات الحرة كانت عالية لم تستطع الحكومة (تطنيش) الموضوع، لكنها هربت للأمام، إذ سارعت لتحويل القضية من أزمة فساد مالي وأخلاقي يلف نظام التربية والتعليم والقضاء إلى أزمة سياسية وأمنية، وسارعت باتهام جماعة الإخوان المسلمين بالأمر، وقالت إن تلك الجماعة تتحدى النظام وتخترق مؤسساته، وشددت في الوقت نفسه على أن مؤسساتها صلبة متماسكة “ما تخرِّش المية”.
أما في الجزائر، وبعد أن تسربت أسئلة الثانوية العامة على نطاق واسع وانتشرت كالنار في الهشيم، لم يعد بإمكان السلطات إخفاء الأمر، فاعترفت بالفضيحة، لكنها كسابقتها ألقت اللوم على الآخر المعارض، فاتهمت الرئاسة الجزائرية ما أسمته بـ “اللوبي الإسلامي” بالوقوف وراء هذا التسريب من أجل “ضرب الإنجازات” التي قامت بها الحكومة، وشددت على أن كل هذه الفضائح “لا تتماشى مع نهج وأدبيات النظام الحاكم!”.
ليست المسألة مجرد خلل في النظام التربوي والتعليمي في هذه الدول، أو قصة فساد عابرة، وإنما هي خلل جوهري في مؤسسات الدولة الأمنية والرقابية والتشريعية، وتعكس أسلوب ونهج هذه الأنظمة، ودليل استهتارها بالشعب الذي يعرف بواطنها.
من الطبيعي القول إن أنظمة لا تستطيع حماية ورقة الأسئلة لن تستطيع حماية الوطن، وأنظمة لا تُؤتمن على بضع وريقات لا يمكن أن تُؤتمن على مصير ومستقبل شعوبها، ومن لا يستطيع القضاء على الفساد لن يستطيع القضاء على الإرهاب، وكذلك فإن الأنظمة التي لا تحافظ على استقامة العلم غير قادرة على تحقيق الحكم الرشيد.
لعل أسوأ الصفات التي يمكن أن تُطلق على أي نظام سياسي هما صفتا الفساد والاستبداد، وهما صفتان لسلطات الأنظمة القمعية للكثير من الشعوب النامية، فالفساد هو الاستهانة بالعدالة وبتكافؤ الفرص بين المواطنين، وانتهاك القوانين والأنظمة، واحتقار القيم الوطنية، ونهب القطاع العام، وتخريب الأخلاق العامة، والحط من قيمة العمل الثقافي والفكري والعلمي، والاستبداد هو انفراد النظام بصلاحيات الدولة ومهماتها، والسطو على مؤسساتها، وبتحالف الفساد والاستبداد تنتج فضائح يندى لها الجبين.
لو كان الأمر يتعلق بحزب معارض أو حركة مناوئة للنظام أو تجمع صغير في حي بسيط في قرية نائية، لاستنفرت هذه الأنظمة كل مقدرات الدولة للسيطرة على الوضع، ولعملت بسرعة البرق وبدقة الساعة لاحتواء التهديد، ولكان أداء أجهزة الدولة بأرفع مستوياته، ولنشط الجهاز القضائي ليحاسب كل فرد، وتجندت الأجهزة الأمنية لمنع مرور المنشورات، أما بحالة فضيحة تسريب الأسئلة التي يمكن أن تُدمّر التعليم فالأمر مختلف، ولا يستدعي وفق رأي هذه الأنظمة هذا التوتر.
تعكس المؤسسات الحكومية صورة أنظمتها، فكلما ازداد نهم هذه الأنظمة للسلطة والمال وزاد قمعها للحريات والإعلام وعبثت بالقضاء وهيمنت على السلطات التنفيذية زاد خراب المؤسسات، ومع أنظمة من هذا النوع لا حل جزئياً، بل شامل يقتضي إقامة دولة حديثة واحترام معاييرها، وتحويل السلطة إلى دولة، وليس دولة للسلطة.
المدن