“الاستبداد 2.0”: كيف فاتتنا الأسئلة الكبرى/ حسام عيتاني
انتهت الثورات العربية إلى الفشل الكارثي الذي نعيش، ودخلنا عصر “الاستبداد 2.0” الأعنف من سابقه والأشد وحشية من حيث سفوره عن وجه السلطة الصريح كغاية لا تبغي إلا البقاء ولو على جثث الملايين. انتهت الثورات من دون أن ننجح في الخروج بقول مفيد أو جديد حول عدد من الإشكاليات التي سيطرت على الخطاب العربي، الرسمي والثقافي في العقود الماضية والتي أصاب التردد حيالها كل محاولات التغيير والتقدم بالشلل ثمّ الموت.
ربما ساهمت الثورات والأعمال الفكرية التي رافقتها بتحسين معرفتنا بآليات السلطة في الدول العربية، خصوصاً التي هبّت عليها رياح إسقاط أنظمة الطغاة العسكريين والسلاليّين. صرنا أكثر ادراكاً للحدود، بالأحرى لانعدام الحدود، التي يبلغها أي نظام عربي في قمع معارضيه إذا شعر بقرب سقوطه. وكذلك تكونت صورة واضحة لدينا لآليات عمل “الدولة العميقة” والتحالفات التي تستطيع نسجها لتخوض الثورة المضادة، وصولاً إلى افراغ أي تحرك ثوري من مضمونه وإلحاقه بسهولة بمنظومة الإرهاب الديني. وبتنا أكثر وعياً للحجم الذي تحتله أجهزة العنف المادي والرمزي، الجيش والأمن والإعلام والاقتصاد، في السلطات الظاهرة والمخفية أولاً، وفي التحكم في آراء الجماهير وقلب نظرة الناس إلى مصالحهم وتعريف هذه المصالح وكيفية تحقيقها، ثانياً. يضاف إلى ذلك أن أسلحة الثورات المضادة أظهرت فاعليتها القصوى ليس من خلال القسر والإكراه فحسب، بل أيضاً من خلال إثبات خواء برامج الثورات وضحالة الذين تقدموا مشهد التغيير، ما أعاد الانتخابات ذات النتائج المعروفة سلفاً، والتي لا تقل نسبة الناجحين فيها عن 99 في المئة، إلى الواجهة كأداة ناجعة في استنبات شرعية حكم وحاكم لا برنامج ولا أفق ولا رؤية لديهما غير انعدام بدائلهما.
تحسّن مستوى الادراك هذا، الذي صقلته التجارب الفاشل أكثرها، لا يرقى إلى البت في اشكالات كبرى واجهت الوعي العربي. لم نقل كلمة جديدة في الإسلام السياسي الذي استولى على أكثر الثورات العربية ودمرها من الداخل، وهو ما سهّل على الأنظمة اتهام الثورات بالإرهاب و”تحويل النبوءة إلى واقع” على سبيل المثال. غياب القول لا يتجلى في نقد تنظيمات الإسلام السياسي ونهجها وسلوكها، ففي هذا وحوله سال حبر كثير. المقصود هو أن الإسلام ذاته لم يواجَه برفض جذري للبوسه لباس ايديولوجيا سياسية تملك الحقيقة المطلقة والنهائية وتقدم نفسها على أنها “هي الحل” لكل المشكلات. احتكار القول “بالحل” لم يقابله اتهام صريح بأن هذا الموقف هو لبّ المشكلة وهو ينطوي من دون ريب على العداء لكل أشكال الديموقراطية والعدالة والعقلانية بذريعة تعارض هذه مع النص المقدس الذي ينسب الإسلام السياسي نفسه اليه ويستمد منه شرعيته في إسباغ الحلال والحرام على الممارسة السياسية.
وانتهت “المزايدة الايمانية” التي افتتحها الأنظمة العربية في السبعينات في سبيل تعرية الإسلاميين السياسيين من أدوات هيمنتهم على الحيز العام والتصدي لهم، إلى تدمير كل أوجه الانفتاح والتعدد والتمايز والعقلانية في المجتمعات العربية وإلى تجويف قوى الاعتراض ودفعها إلى الالتحاق بالإسلاميين الذين شكلت مظلوميتهم من جهة وتمتعهم بقدر من الاحتضان الشعبي من جهة ثانية، ستاراً ضرورياً لأي حركة معارضة للحكومات القائمة.
المثال الثاني هو العلاقة مع الغرب. مشكلة الغرب لا يمكن تجاهلها بالنسبة إلى من يستورد ليس السلع الصناعية والثقافية من هناك، ويزعم بعد ذلك مواجهته. فالغرب قد تغلغل في بلادنا وفي وعينا ولا وعينا إلى درجة لم تعد معها مقولات التصدي له غير صدى دعوات إلى تعميق غرقنا في ذواتنا، غرقتنا في عزلتنا التي زادت كثيراً عن مئة عام، ومحاولة لإدامة آثار الاستعمار الغربي المشكو منه من دون الاستفادة من الفرص التي تقدمها الحضارة العالمية الحالية، الغربية في صميمها، للخروج من مآزق التخلف المهيمن. لقد أجبنا على اشكالية العلاقة مع الغرب بسلوك شبيه بسلوك المصاب باضطراب الثنائية القطبية: إما انبطاح وزحف أمام كل ما يأتي به هذا الغرب سواء في السياسة او الثقافة أو الاجتماع، او رفض جذري له واستسهال الفرار من أمام تحديات العالم المعاصر إلى ماض ٍذهبيٍ مقدس، متخيل ووهمي.
المثال الثالث ليس إلا القضية الفلسطينية. وقعت هذه المأساة بين حدي الفوات السياسي العربي وسيادة النموذج القروسطي في كيفية التعامل مع العالم، وبين قسوة مشروع مشتق من أزمة الحداثة الأوروبية وقصورها عن صوغ تسوية داخلية لمشكلة الأقليات ومنها اليهود الأوروبيين. بين هذين الحدين ضاعت فلسطين ولم يجد العرب غير نماذج “مستوردة” لاستعادة حقوقهم، مثل حرب التحرير والكفاح المسلح أو التوجه إلى الحكومات والأحزاب والرأي العام للحصول على تأييدهم من دون التفكير في المقابل الذي سيطلبه هؤلاء منهم. كان العرب يلعبون في ملعب الغرب وضده في آن. وفي الوقت الذي تشاركت فيه المقاومة المسلحة والمفاوضات السلمية الفشل الذريع، سواء بسواء، لم يبق غير خطاب المكابرة والتخوين في جعبة حملة القضية. وانتقل هذا الموقف إلى مؤيدي الثورات العربية الذين لم يجدوا عملياً ما يقولون في المسألة الفلسطينية غير الانحياز إما إلى دعاة المقاومة الأزلية معدومة الأفق على غرار النموذج “الحماسي” في غزّة، أو المفاوضات الهزلية التي يتمسك بها المقيمون في مقرّ المقاطعة في رام الله.
وهذا المثال الثالث، على غرار سابقيه، مجرد إشارة بسيطة إلى الحجم الهائل للمشكلات التي تراكمت بعد الثورات العربية ولم يتقدم دعاة التغيير العرب باقتراحات للخروج منها. أو، للإنصاف، قوبل عدد من الأعمال والكتابات بتجاهل كامل من قبل من كان في وسعهم إضفاء الحياة على الكلمات.
درج