“الاستثناء السوري بين الحداثة والمقاومة” لكارولين دوناتي:
من الحكم المتسلط مع حافظ الأسد الى الحكم السلطاني الاعتباطي مع بشار الأسد
أيضاً “الاستثناء السوري” والادعاء بالحداثة والمقاومة وحيث استعمل النظام سياسته الخارجية “القومية” العربية حجة لتبرير أوجه الخلل السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا سيما حرمان السكان حرياتهم وحقوقهم وحيث تعيش أغلبية سورية تحت خط الفقر، مقابل فئة قليلة ميسورة ترتع في السلطة والحكم. هذه السياسة التي سادت لعقود ساعدت الحكم على احتواء “خطر” الاسلاميين، ما كان النظام السوري بنيّة أو حتى رغبة بالتغيير لأن بناء استراتيجية تغييرية كانت تقتضي بإيجاد ضمانات فورية للسكان ولعقد اجتماعي جديد لتفادي اندلاع اضطرابات جديدة قد تتخذ شكلاً طائفياً.
كارولين دوناتي صحافية فرنسية متخصصة بالشرق الأوسط وتعمل لعدة صحف وقنوات فرنسية حاولت كشف ألغاز هذا “الاستثناء السوري” لدولة تقدم نفسها حداثية وممانعة ومقاومة في وقت تعيش خللاً اجتماعياً بنوياً وسلطوياً هائلاً.
عملت دوناتي في كتابها الصادر عن رياض الريس للكتب والنشر على تحليل اجتماعي في صيغة التحقيق المباشرة والملاحظات الشخصية الحيادية وبعيدة عن اغراءات النظام وعن سياساته ومؤشراتها الاجتماعية والاقتصادية. وبدل أن تذهب دوناتي على طريقة المحققين الضليعين بالشأن السوري والذين ينقلون معطيات ينجح النظام بتسويقها. تذهب دوناتي مباشرة الى صورة المجتمع السوري بحد ذاته طيلة مراحل مهمة سبقت مراحل الثورة السورية.
منذ العام 2007 ملأت صورة بشار الأسد المباني الرسمية في العاصمة السورية والمباني السكنية مبايعة له من دورة ثانية من العام 2007 انتصر الأسد الابن استعرض قوته وفي العام 2008 وصل بشار الأسد الى باريس وحضر احتفالات العيد الوطني الفرنسي على جادة الشانزليزيه، مظهراً كالعادة قدرة سوريا (الأسد) منذ العام 1963 على مقاومة الظروف الصعبة والاستمرار والتكيف مع ظروف شديدة الصعوبة.
زادت سوريا الشعور بأنها خرجت من عزلتها الديبلوماسية وانها تمكنت من استعادة دورها القيادي في الشرق الاوسط والذي كانت اكتسبته في عهد حافظ الأسد واستطاع الأسد الابن اعادة النظر في العديد من الملفات ولكن بشكل متسلط وكان السؤال هل يمكن ان يستمر “الاستثناء السوري”.
يعالج الفصل الأول من الكتاب على نحو تراكمي نشأة سوريا الحديثة والفصل الثاني “أول عقدين للجمهورية” والفصل الثالث “نظام الأسد” والفصل الرابع (1970 2000) “الصعود على الساحة الاقليمية” والفصل الخامس بشار الاسد والجمهورية الوراثية، والفصل السادس “الانسحاب من لبنان والقراءة الديبلوماسية” والفصل الثامن “الحداثة سبيلاً للاستمرار” والتاسع “نقض العهد الاجتماعي” والفصل العاشر “حركات الهويات السورية” والفصل الحادي عشر “إعادة تنظيم الحياة العامة”.
الباحث هانس غونتر لوبمبير حول انتفاضة المعارضة الاسلامية، انتفاضة المجتمع بعد 10 سنوات على وصول حافظ الاسد الى السلطة، قال إنه “رغم قيادة الاسلاميين المقاومة ضد النظام البعثي، لم يكن لهذا النزاع أية علاقة بالاسلام” فلم يكن الاخوان المسلمون يسعون الى اسقاط النظام البعثي العلوي بحجة انه شن حرباً على الاسلام، بل كانوا يريدون اسقاط نظام وضع حداً للحريات الديموقراطية وخان اهداف القومية العربية في رأيهم، ففي لبنان حارب الاسد “الاخوة الفلسطينيين” وصفى مع ايران الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الوطنية واقترب من الولايات المتحدة بعد حرب اكتوبر، واعطى الاولوية للعلويين في الريف وقمع التنظيمات اليسارية وليست حماة هي التي انتفضت في وجه علمانية البعث بقدر ما كانت انتفاضة كبرى عائلات القطاع الصناعي في المدن التي احتلت مصانع الدولة بزعامة ريفيين، فقد وضع الاخوان المسلمون في عام 1980 ميثاقاً يعكس مصالح البرجوازية السنية الصغيرة والوسطى ويتضمن اعطاء الاولوية للملكية الخاصة والقطاع الخاص.
ارث اقتصادي هش، وهم الخطاب الليبرالي، تردد في عملية الاصلاح، مآسي إصلاح القطاع المصرفي، ازمات النظام الاداري، حداثة في خدمة النظام المخابراتي الامني واقتصاد يقوم على المضاربة وجمهورية المصالح المستمرة وجمهورية قلة من رجال الاعمال، جمهورية العائلة والمقاولين الجدد في حماية السلطة ونقض العهد الاجتماعي ووهم التنمية المتزنة، وغطاء سياسي لعلمانية تخفي مصادر السلطة وتجاهل الهويّات المحلية وتيار جهادي خطر يحتويه النظام ويشغله ويحركه ساعة يشاء وعودة الطائفة الحاكمة إلى الدين العلوي الباطني القديم خلال ازمة عامي 2005 و2006 وفي ازدياد المخاوف من نظام سني في حال سقوط النظام العلوي ووصول السنّة الى السلطة. انها مسألة الاستثناء السوري الغرائبي بين سلطة محلية قبلية اطلق عليها المخرج الراحل عمر اميرالاي اسم “يوميات قرية سورية” وطوائف خارج الدولة حتى لا تتحول رموزاً للمعارضة مع هيكلة نظام تجاري يستغل الهويات لقيام شبكة عائلية قوية ومستبدة تعامل الناس كأسراب دجاج مسيج عليها.
وهنا فصل آخر من كتاب كارولين دوناتي الذي راكم ابحاثه على مادة كان يجري تداولها عامة وصدر الكتاب عن المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية واشنطن وترجمة حديثة لشركة رياض الريس للكتب والنشر بيروت قامت بها بمرونة وسّعه لما العرب.
تقديم واختيارات: يقظان التقي
لقد حكم بشار الأسد سورية لأكثر من عقد من الزمن. ما زالت البلاد إذن حبيسة حكم عائلة الأسد. وقد تم تنصيب “الرئيس بشار” على أنه قائد الاصلاح. غير أن الآمال تبددت بسرعة. لم يفتح بشار الأسد الحياة العامة لتشهد نشأة مجتمع مدني، إذ هو ضرب “ربيع دمشق” بقبضة من حديد وقمع كل الأصوات المعارضة. كما أنه فشل في تطوير حزب البعث الذي يفتقر الى التكنوقراط لإدارة الأوضاع الاقتصادية الجديدة. وما زال بشار الأسد يرفض إعادة النظر في دوره كقائد ليفتح الباب أمام التعددية في سورية.
وعد بشار الأسد بتحديث الادارة والقضاء والتعليم، لكن أي انجاز لم يُحرز في هذه الميادين جميعاً. ولم تُتّخذ أية تدابير سياسية لدعم الاصلاح الاقتصادي الذي أطلق في عام 2000. مرد هذا الفشل هو اصرار التحالف الحاكم على رعاية مصالحه فحسب، إذ هو يخشى من دفع ثمن المنافسة التي يتضمنها تحرير الاقتصاد. ومن ثم فإن الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ في عامي 2004 و2005 هو استمرار لمنطق النظام في العقود السابقة: أي ان هدف بقاء النظام يفوق كل شيء، حتى وإن أدى ذلك الى عزلة سورية، ولا سيما منذ انسحاب جيشها من لبنان.
تعهد بشار الأسد إحراز تقدم في الملفات الداخلية التي تجاهلها والده ليركز على السياسة الخارجية. لكن الواقع ان الابن، على غرار الأب، أغلق الساحة الداخلية بحجة تدهور الظروف الاقليمية، ما أدى الى استمرار أوضاع استثنائية وسمح له باللجوء الى القمع الشرس ضد كل من يرفض الدخول في الإطار الذي يفرضه النظام الحاكم والذي يزداد قبلية عوضاً عن ترسيخ شعور المواطنة.
ويتجلى بعد عقد من حكم بشار الأسد أن ممارسة الحكم باتت شخصية بالدرجة الأولى. أي إن الحكم في عهد حافظ الأسد كان متسلطاً ليصبح اليوم حكماً سلطانياً يتميز باعتباطية الرئاسة السورية.
ويأسف مفكر سوري لهذه الأوضاع قائلاً: “تعددت الأطراف والنظام واحد”. صحيح أن سورية بشار قد كررت نفسه أساليب الحكم المتسلط التي شهدتها البلاد في عهد حافظ الأسد. غير أنها تطورت نسبياً. فقد كان على بشار أن يدير شؤون بلاده في سياق اقليمي وعالمي يختلف تماماً عن ذلك الذي عاش فيه والده. إذ يعيش الجيل الجديد في عصر العولمة الذي لا مفر فيه من اقتصاد السوق. لم يعد من الممكن لسورية أن تعيش معزولة داخل حدودها. من ثم بدأت المنظمات غير الحكومية تحل محل المنظمات شبه العسكرية البعثية، كما راحت دروس التسويق وإدارة الأعمال تحل محل دروس التربية الوطنية. وثمة شبكة جمعيات جديدة تدعمها سيدة سورية الأولى، وهي تكرر أشكال المحسوبية والتسلط التي اعتادها حزب البعث. ولقد أصبحت البورجوازية تستفيد من الانفتاح الاقتصادي وتستعرض ثرواتها أمام الجميع.
أما على الساحة الثقافية الثرية فيقوم الفنانون بابتكار انتاج مميز وعلى جودة عالية. لكن أعمالهم لا تواجه النظام القائم بشكل مباشر. وبالتالي فهم يخضعون لسيطرة المنتجين المقربين من النظام.
لم يتغير الكثير بين الأمس واليوم، إذ ان النظام السوري في عهد الأسد الابن لا يقبل بالحوار ولا يريد أن ينتظم المجتمع في إطار يخرج عن سيطرته أو أن يحاول اسماع خطاب مختلف عن خطاب السلطات. يطارد النظام كل ناشط يقاومه ويُجهض كل المشاريع البديلة. إنه القمع في أقوى أشكاله يضرب كل شكل من أشكال الطموح السياسي.
إن ما يحرك بشار الأسد هو رغبة تأمين سلطته. لذا فقد حاول إعادة تشكيل النظام من خلال تحديثه أو خصخصته في بعض الأحيان، ما أدى الى تطور نظام المحسوبية والوصولية. فقد ساهمت هذه العملية في صعود قطاع خاص معظم أطرافه مرتبطون بشكل أو بآخر بالحكم. وتزدهر أعمال هؤلاء وشركائهم الأمنيين عن طريق “رأسمالية الأصدقاء” التي نشأت من خلال لبنان المجاور. يمارس هؤلاء احتكار القلة. هم لا يختلفون عن الجيل السابق، إذ كان جيل حافظ ينهب القطاع العام، بينما يحتكر جيل بشار القطاع الخاص متحكماً في القطاعات الاقتصادية جميعاً.
بذلك تشهد سورية مصير كل من مصر وإندونيسيا اللتين شهدتا صعود أبناء الضباط والكوادر العليا في الأحزاب الحاكمة في استثمارات القطاع الخاص. وكان الهدف من ذلك كله إعطاء غطاء ليبرالي لنظام متسلط.
لكن عملية التحديث هذه شهدت مقاومة حتى في صفوف النظام، إذ يرفض كل من البعث والقطاع العام الذي يتحكم فيه إقصاءهما من العملية الاقتصادية. ولم يكن من الممكن لبشار الأسد أن يتجاهل آلة المحسوبية والسيطرة الاجتماعية التي بناها حزب البعث على مدار العقود. لذا فقد اضطر الى تجنبها من خلال القيام ببعض التعديلات.
[ اقتصاد السوق
لقد خرجت سورية من اقتصاد حكومي موجه لتختار نموذج “اقتصاد السوق الاجتماعي” لإيجاد حل وسط يرضي كلاً من رجال الأعمال ورجال الحزب. غير أن رجال الأعمال ازدادوا ثقة بأنفسهم وأرادوا تغيير هيكل مؤسسات الجمهورية البعثية لتخدم مصالحهم.
هل بإمكان هذه التجاوزات أن تهدد التوافق الذي يسمح للتحالف الحاكم أن يبقى في السلطة؟ جدير بالذكر أن هذا النظام قائم على العلاقات الشخصية، وأن علاقات القوة في مثل هذا النظام تظل اعتباطية ومرتبطة بالظروف الآنية. ينقلب الولاء ويتغير بشكل مستمر، حتى داخل العشيرة أو العائلة الواحدة. فمن شأن الحفاظ المستمر على مصالح عائلة الأسد أن يخلق خلافات واضطرابات داخل الطائفة العلوية.
فضلاً عن ذلك، إن الهاجس الطائفي للسلطة يحتجزها في منطق ضيق الأفق يجعلها تضع العلويين في أهم أجهزة الدولة وتستغل التضامن الطائفي لمواجهة الغالبية السنية. فهي تسعى الى الابقاء على وهم مفاده أن سورية تعيش في تناغم وتوافق تام بين الطوائف. لكن الواقع أن موقفها يزيد من الخصومة الطائفية بين أبناء الشعب السوري.
إن إعادة توزيع الثروات لم تكن عادلة على مدار السنوات العشر الماضية، وتزداد الفجوة اتساعاً، ما يطال السنة بالدرجة الأولى. فرغم أن الدولة مضطرة الى إعطاء ضمانات للغالبية الطائفية من خلال إتاحة تزايد الرموز الإسلامية في الحياة العامة، إلا أن النظام ما زال يستعين بالقمع والضغط ليذكر الغالبية بقواعد اللعبة غير المتزنة. فهو يعتمد على القمع ليكتم الاضطرابات الاجتماعية الناتجة من دخول سورية بشكل مفاجئ في اقتصاد يفتقر الى الضوابط ويقصي جزءاً كبيراً من السكان من تقاسم الموارد.
في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ازدادت مؤشرات فشل النظام، وهي شديدة الخطورة. لم تستفد من الانفتاح الاقتصادي سوى أقلية، بينما يبقى هذا الانفتاح هشاً لأنه قائم على المضاربة ولا يوفر فرص عمل كثيرة لطالبي العمل الذين يتجاوز عددهم 3000,000 سنوياً. بل إن هذا الانفتاح يزيد من الفوارق الاجتماعية. فقد بلغ التضخم مستويات غير مسبوقة، بينما تقضي الدولة على المكتسبات الاجتماعية وتطبق خصخصة شرسة للخدمات الأساسية.
لا توجد استراتيجية تنموية حقيقية في سورية، ما أدى الى زحف سكان الريف المهمشين نحو المدن بأعداد هائلة في هجرة تنقلهم من قراهم الى ضواح يتكدسون فيها الى جانب اللاجئين العراقيين. كثيراً ما تكون خريطة الفقر مرتبطة بالخريطة الطائفية في سورية، إذ نرى أن الدولة قد تخلت عن الأطراف التي يسكنها الأكراد والبدو العاملون، وأن هذه المناطق تشهد انطواء طائفياً كبيراً يزداد من جراء استغلال النظام له. ذلك أن الفقر يقلل من طموحات الشعب ويمنعه من المطالبة بالحرية والاستقلال.
ومع التفكك الاجتماعي ومحاولة الدولة إعادة الانتشار، ظهر عنف غير مسبوق في سورية، من خلال مواجهات بين مجموعات تدافع عن هويات مختلفة وكذلك من خلال ارتفاع عدد الأعمال الاجرامية.
ولقد حاول القادة مواجهة هذه الأزمة من خلال البحث عن التطبيع مع المناخ الاقليمي والعالمي بهدف الحصول على مساعدات اقتصادية، كماأنهم يعرفون أن القمع الذي مارسوه في عقد الثمانينيات قد شكل حاجزاً من الخوف المستدام من الاعتباطية التي ما زالت قائمة.
من ثم لم يعد الشباب الذي ولد في فترة الطفرة السكانية لسنوات الثمانين يشعر بأي شكل من أشكال الأمل، لا سيما منذ دخوله بعنف في عصر العولمة. ان هذا الشباب يشكل أكثر من نصف التسعة عشر مليون سوري الذين جرى إحصاؤهم في عام 2009.
ويغذي هذا اليأس تساولات عن الحلول التي سيجدها الشباب للخروج من أزمته في غياب عملية ديموقراطية وفي غياب بديل عن الوضع القائم ولا سيما أن الهجرة تزداد تعقيداً وصعوبة.
يبقى النظام منغلقاً وتعاني المعارضة من صعوبات كثيرة، ما يزيد الآفاق المستقبلية ظلمة، ولا سيما أن المجتمع السوري قد أظهر دائماً قدرته على المقاومة وعلى مواجهة ضغوط الدولة من خلال قدرته على البقاء وعلى التكيف مع أطر التسلط نفسها.
[تهاوي السلطة الرئاسية
في نظام رئاسي فُصّل ليوائم مؤسسه، أدت وفاة حافظ الأسد الى تهاوي الهياكل المؤسسية، ولا سيما من جراء ضعف شخصية نجله ووريثه بشار. فمع وفاة “القائد الى الأبد” فتحت ثغرة عبرت منها شتى فصائل السلطة، إما بحثاً عن دعم الرئيس الجديد أو سعياً الى الحفاظ على مكتسبات من عهد الرئيس السابق.
وعلى عكس حافظ الأسد الذي كان يخشاه الجميع، اتضح أن بشار يحب الاختلاط بالشعب ويسعى الى إظهار صورة حاكم شاب وعصري ومتواضع في آن واحد. غير أن هذه الصورة التي أعطته شيئاً من الشعبية لدى السوريين لم تساعده على تكريس سلطاته في أوساط صنع القرار. فبعد توليه الحكم بثلاث سنوات/ كان البعض لا يزال يسميه “الدكتور بشار” أو “عمّو بشار”. ومن أجل تعويض هذا الافتقار الى السلطة وضعت صورته الى جانب صورة والده في كل مكاتب الادارة والمصالح العمومية في دمشق وحتى في المناطق النائية من البلاد.
أما معاونو حافظ الأسد السابقون، فظلوا ممسكين بزمام الأمور واعتبروا شرعية بشار مستقاة من كونه يشكل همزة وصل تسمح باستمرار النظام السابق لمساعدتهم في الحفاظ على هيمنتهم. وقد لخص أحد الديبلوماسيين في دمشق هذا الوضع قائلاً: “لا يحظى بشار بالاجماع، لكنه يشكل ضماناً للاستقرار؛ لذا يوجد توافق على شخصه.
وكان ينتظر من بشار أن يحافظ على مكتسبات النظام السابق. ويؤكد أحد الخبراء أنه “سعى الى ارضاء الجميع والى التوفيق بين مصالح متناقضة”.
ووفقاً لفولكر بيرتس، بعد ثلاث سنوات في الرئاسة، لم يكن بشار الأسد ممسكاً بكل السلطات على غرار أبيه، “لكنه كان على رأس صناع القرار”.
ولكن هل كان بشار بالفعل أول صناع القرار في هذه الفترة؟ العديد من المؤشرات تجعلنا نشكك في هذه الفرضية؛ إذ أكد الرئيس عدة مرات أنه ليس وحده من يصنع القرار في سورية.
صحيح ان المقربين منه تدخلوا كثيراً في العملية السياسية بعد أن ساعدوه على الوصول الى الحكم، وهو ما أكده بشار بنفسه في عام 2005 عندما قال ان التفرد بصنع القرار يؤدي الى حدوث اخطاء، وإن من الضروري استشارة آخرين، سواء كان القرار مهماً أو لا.
في السنوات الأولى من ممارسة بشار للحكم، عادت سورية الى ما كانت قد عرفته من سلطة متعددة الأطراف أدت الى وقوع خلافات قبل وصول الاسد الأب الى السلطة. وتقول إليزابيت بيكار انه “بعد الحكم المتسلط لحافظ الأسد والذي كان يفرض الاجماع على كل الأطراف، جاء نوع جديد من الحكم، مبني على علاقات القوة. ومنذ ذلك الحين أصبحت سياسة الدولة انعكاساً لتوازنات هشة، أي انها كانت تعكس الاضطرابات عوضاً عن تبديدها”.
وكان سكوت الرئيس وتردده في فترات الأزمة مؤشراً على هذه الاضطرابات الناتجة من تعدد الأطراف الممارسين للسلطة في غياب تحكيم الرئيس الشاب. هذه الفترات كانت يتخللها أحياناً اتخاذ أحد ممثلي النظام مواقف حازمة قبل أن يعود ممثلون آخرون لنفيها. على سبيل المثال، قال السفير سامي الخيمي عند اندلاع حرب تموز 2006 في لبنان ان سورية “قادرة على التأثير على حزب الله”، وذلك قبل أن يعود مصدر رسمي آخر لينفي هذا الحديث بعدها بيوم واحد. لم يعد الخطاب الرئاسي كاملاً منزلاً. وسمحت بعض الشخصيات البعثية لنفسها بتصحيح حديث الرئيس أو مقاطعته. وكان بشار الأسد يحاول أداء دور الحكم، لكن تحكيمه هذا كان يخضع للكثير من التعليقات والانتقادات.
أعطى كل ذلك انطباعاً بتهاوي السلطة الرئاسية في السنوات الأولى، الأمر الذي عززته حرية التعبير النسبية في سورية بشار الأسد، اذ كانت المعلومات تنتقل بشكل أسهل بكثير مما كانت عليه في عهد حافظ، ما كان يثير الشائعات حول الخلافات داخل السلطة وفي قلب عشيرة الأسد. من ثم زاد بشار من مداخلاته وخطبه الرسمية، وكأنه يسعى الى تأكيد سلطته وإلمامه بشتى شؤون الدولة وإمساكه بزمام الأمور.
وكان بشار الأسد يستند الى خطاب شعبوي، ويلقن دروساً في حسن السير والسلوك لنظرائه العرب لإعطاء صورة حاكم شاب وصريح، يجرؤ على قول ما لا يجرؤ عليه أي حاكم عربي آخر، ولو أدى ذلك الى اغضاب المجتمع الدولي. كانت المواجهة أو ما يسميه الأسد “الحزم والتحدي” الوسيلة الوحيدة لإعطاء الرئيس السوري الشرعية أمام مواطنيه وأمام الشعوب العربية، الي ما زالت تحمل شيئاً من حلم القومية العربية ومشاعر الضغينة تجاه العرب.
وكانت خطب بشار الأسد تُشعر المثقفين بالأسف الشديد؛ إذ كانوا يرون فيها افتقاره الى الكفاءة وقراراته الاعتباطية، وكانوا يعتبرون الأسد شخصاً غير مسؤول، في مواجهة خطورة الأزمات التي كانت تمر بها البلاد والمنطقة بأسرها. هذه الخطب كانت ترمي الى اعادة اللحمة الى شعب قلق من غياب قيادة حقيقية على رأس الدولة بينما كانت سورية تخضع لضغوط دولية كبيرة. لم يكن حديث الأسد التلقائي ديبلوماسياً بأي شكل من الأشكال. وكثيراً ما كان يعدله أو يصححه في حواراته مع الاعلام الغربي، ما كان يسلط الضوء على تناقض الخطاب الرئاسي وعلى تردد الرئيس. ولم تكن خيارات الأسد الاستراتيجية تحظى بالاجماع في بلاده. وانتظر بشار الأسد حتى عام 2007 لتكلل محاولاته بالنجاح بعد المواجهة بينه وبين المجتمع الدولي التي افضت الى فرض نفسه على محيطه بشكل نهائي، غير أن الخلافات الشخصية والعشائرية والطائفية لم تتوقف.
[خلاف في القيادة السورية
لم تكن القرارات تُصنع في إطار المؤسسات الحاكمة، بل من خلال مجموعة تحكمها علاقات شخصية؛ لذا أصبح من نافلة القول إن السلطة في سورية الأسد هي سلطة “قبلية” بالدرجة الأولى وإن الخلافات داخل دائرة السلطة لا علاقة لها بأيديولوجيا بعينها أو بمنطق سياسي بحت.
في مرحلة أولى من حكم بشار الأسد، كان لدى كل من شقيقته بشرى وزوجها آصف شوكت نفوذ كبير. وكان للجنرال شوكت شخصية قوية وطموح بلا حدود، وقد نجح في صعود سلّم السلطة بفضل زواجه. وقد شهدت علاقة بشرى وزوجها بشقيقها ماهر خلافات كبيرة؛ اذ كان ماهر يعارض زواجهما، حتى إنه أصاب صهره بالرصاص خلال مواجهة في عام 1999.
في عام 2009 لم يعد لآصف شوكت النفوذ نفسه، الأمرالذي يعني أنه خسر في المواجهة مع شقيق الرئيس. وهو كذلك مؤشر على نجاح بشار في بسط سيطرته على العائلة. هذا وكثيراً ما يروي الشعب السوري النكات حول قوة شخصية ماهر الأسد بالمقارنة بأخيه قبل أن ينجح بشار في تجاوز هذه المرحلة وفي فرض نفسه.
علاوة على ذلك،كان على بشارالأسد أن يأخذ في الاعتبار الطموحات الاقتصادية لعائلة مخلوف، ولا سيما خاله محمد ونجله رامي، اللذين يعتليان امبراطورية مالية وشبكة من الشركاء الأوفياء (أنظر الفصل الثامن: “جمهورية الأصدقاء”).
في عهد حافظ الأسد كان محمد مخلوف يسيطر على ادارة الموارد النفطية وغيرها من القطاعات الاقتصادية التي بنى عليها رأسمال العائلة. وتسلم رامي الشعلة من أبيه ليسيطر على ربع قطاع التكنولوجيا وغيره من القطاعات ذات الربحية العالية. وتزداد اليوم الشائعات والتوقعات المتعلقة بممتلكاته، بينما يصعب تقدير ثروته بشكل محدد.
وعلى عكس حافظ الأسد الذي نجح في مواجهة شقيقه رفعت، كان من الصعب على بشار في بداية حكمه أن يتصرف بصفته زعيم هذه الشبكة العائلية. وكذلك بدا من الصعب عليه الفصل بين مصالح العائلة ومصالح الدولة، ما جعل البعض يقول على سبيل المثال ان “بشار هو الرئيس، ورامي مخلوف هو الملك”، كدليل قاطع على نفوذ ابن خال الرئيس. لكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك. ويؤكد ديبلوماسي أنه رغم “أخذ بشار مصالح ابن خاله في الاعتبار، ومعه خاله وزوجته، فإنه مستفيد أيضاً من أعمالهم ومن مشاريعهم”. كما أن رامي من جانبه مضطر أيضاً الى أخذ مصالح الرئيس المالية في الاعتبار. وقد اختار بشار الأسد أن يفرض اقتصاد السوق في سورية رغم رفض بعض الأطراف ذلك ليصب هذا الخيار في مصلحة العائلة التي تبحث عن المزيد من الموارد ومن الحلفاء.
وكانت أنيسة مخلوف، زوجة حافظ الأسد، تتدخل بصفة مستمرة لحل الخلافات العائلية. كما ظلت تحظى بلقب “سيدة سورية الأولى” في السنوات الأولى من حكم بشار. وعلى العكس، فضلت أسماء الأخرس، زوجة الرئيس المنحدرة من إحدى كبرى العائلات السنية في حمص، أن تبقى أعمالها على هامش السلطة (أنظر الفصل التاسع). وهي تصف نفسها كشريكة لزوجها في كل شيء، غير أن طموحاتها اصطدمت بالسلوك العدائي لعائلة زوجها، إذ كانت عائلة الأسد تخشى من أن يؤدي هذا الزواج الى فقدان جزء من سيطرتها على بشار. كما كانت العائلة تسعى الى التقليل من نفوذ البورجوازية السنية، إذ كان لأسماء ووالدها فواز علاقات وطيدة بوسط رجال الاعمال، لذا خضعت شركات اسماء الأسد لمراقبة أجهزة المخابرات وتم التقليل من هامش تحركاتها. ونجحت زوجة الرئيس في نهاية الأمر في التفوق بفرض نفسها بعد انسحاب بشرى الاسد من جراء فقدان زوجها لنفوذه. ولا يمكن القول بأن انتصار اسماء كان نهائياً؛ إذ ان الطبيعة الشخصية لممارسة السلطة جعلت علاقات القوة غير ثابتة او قائمة ومرتبطة بتقلبات عدة.
في ما يتعلق بقيادة الشؤون الاقتصادية، عيّن رئيس الوزراء ناجي العطري وهو من اقرباء والدة أسماء الأسد في أيلول/ سبتمبر وكلف حماية مصالح عائلة الرئيس. غير ان الكلمة الاخيرة كانت دائماً للرئيس، لا لحزب البعث كما ظهر من الخطاب الرسمي (انظر الفصل الثامن)، وهذا ما نراه ايضاً في ما يتعلق بالسياسة الخارجية التي سبق ان كانت حكراً على حافظ الأسد.
وليس مستشارو بشار بصناع القرار، فلم يكن اقترابهم من الرئيس مصدراً كافياً لممارستهم سلطة حقيقية. كما ان الكفاءات لا تعني الكثير في هذا السياق. على غرار حافظ الأسد، كان بامكان بشار التخلص من مستشاريه بين ليلة وضحاها كما حدث ذلك مع نبراس فاضل الذي كان مكلفاً اصلاح الادارة السورية والتعاون مع فرنسا حتى عام 2004. وكلما نجح بشار الاسد في بسط سلطته على شؤون الدولة، قل استماعه الى هؤلاء المستشارين وزادت اعتباطية القرارات الرئاسية. وفي داخل اوساط السلطة تفوق الولاء الشخصي على اي مشروع سياسي أو اقتصادي او حتى على المصلحة الوطنية، اذ لم يعد الحكام الجدد سياسيين بمعنى الكلمة. وكما يقول احد المسؤولين الامنيين في حقبة حافظ الأسد: “لم يعش هؤلاء اي حرب وليست لديهم ايديولوجيا ولا أي نوع من الأخلاق”.
وأصبح الوسط الحاكم الجديد يعيش على الجشع وحب المكسب بالدرجة الاولى. ومع تفوق المصالح الخاصة في عائلة الأسد، ازدادت الخلافات في دوائر السلطة وفي النظام السوري. وقد حدث ذلك عندما عُزلت البلاد على الساحة الدولية، فوفقاً للمنطق القبلي كان كل مَن يعارض خيارات العائلة معرضاً لفقدان كل شيء بين ليلة وضحاها. وكان النظام متسلطاً لا يحب المنافسة، لذا فعندما انتقد وزير الداخلية الجنرال غازي كنعان سياسة الاسد في لبنان، اعتبر الرئيس انه لم يعد يكنّ له الاحترام والولاء، ما ادى الى فقدانه منصبه السياسي، وربما كان ذلك ايضاً السبب في اغتياله.
كذلك برزت معارضة عبدالحليم خدام الذي كان من أركان نظام حافظ الأسد، وكانت لديه علاقات في لبنان تتعارض مع مصالح بشار الاسد. وجرى تهميشه قبل أن ينضم الى صفوف المعارضة في كانون الأول/ديسمبر 2005. ومع انتحار غازي كنعان المزعوم ونفي عبد الحليم خدام الى باريس، ابعد قطبان رئيسيان من المعارضة.
وكما حدث في الماضي، عمل النظام على التخلص من كل من يعترض طريقه، وأرسل عدة مؤشرات لردع كل من يحذو حذو المعارضين. ولكن على عكس النظام العراقي السابق، على سبيل المثال، لم يلجأ نظام الأسد الى القتل والاغتيال بصفة منتظمة للتخلص من خصومه. فكان هناك اتفاق ضمني مع بعض من تمرسوا في السياسة، على غرار اللواء مصطفى طلاس ورئيس الوزراء السابق مصطفى ميرو ورئيس مجلس الشعب سابقاً عبدالقادر قدورة، على ان ينسحبوا وينتقلوا الى وسط الاعمال من دون ان يظهروا أية طموحات سياسية، وفي حال عدم احترام هذه القاعدة، كان النظام يتخذ تدابيره لمعاقبة هؤلاء من خلال وقف انشطتهم الربحية على سبيل المثال. فجرت اقالة بهجت سليمان من منصبه في ادارة الأمن الداخلي عام 2005 ليؤدوا بدءاً من عام 2006 دور الوسيط بين السلطات وبين رجال الاعمال. وقد عيّن عام 2009 سفيراً لسوريا في الاردن.
في هذا السياق أضعفت العصبية التي كان حافظ الأسد يسعى الى ابقائها وتعزيزها. وأصبح الغضب جلياً بين أبناء الطائفة العلوية، اذ نقضت الرئاسة عهدها مع هؤلاء مع تفاقم الازمة السورية على الساحة الدولية. وشكك العلويون المقربون من السلطة في قدرة بشار الاسد على حمايتهم وانتقدوه لدفاعه عن مصلحة عائلته على حساب مصلحة الطائفة، ولا سيما ان عائلة الاسد كانت تنفرد بمختلف الموارد الاقتصادية. ويقول احد المراقبين من الطائفة العلوية ان “الأسد الأب كان قادراً على اخماد الخلافات التي طالما نشبت بين مختلف العشائر العلوية، وكان يحمي العلويين من خلال شرائهم بالمال”. وكانت زيارات بشار الاسد لقرية القرداحة، مسقط رأس والده، نادرة جداً. ويقول احد المفكرين العلويين: “ليس بشار الاسد ابناً من أبناء القرداحة على غرار أبيه، بل هو من ابناء دمشق”. وفي القرداحة لم يعد زعماء العشائر والمشايخ يعترفون بدور بشار الاسد، كذلك في المناطق العلوية ازدادت الانتقادات الموجهة الى النظام من جراء تحيزه لوسط الاعمال، ويقول طبيب من اللاذقية ان “السلطات أصبحت تحمي أبناء الحكام الذين يربحون في شهر واحد ما كان آباؤنا يربحونه في أربع سنوات”.
وقد ظهر احتمال حدوث مواجهات بين العلويين عند وفاة غازي كنعان.
وإن لم يتحرك سكان الجبل العلوي، فذلك لأنهم كانوا يخشون رداً انتقامياً من النظام. فهذا ما حدث بعد إقالة اللواء علي دوبا وقبلها في عام 1972 عند القضاء على العقيد عمران الذي كان أحد المنافسين المحتملين لحافظ الأسد (انظر الفصل الثالث). وبعد “انتحار” غازي كنعان بدأت حملة إقالات وإحالات على التقاعد لبعض الضباط المشتبه في اقترابهم منه، كذلك وجه إنذار الى الكوادر الذين تجرأوا على انتقاد سياسة بشار الاسد على الصعيد الداخلي أو الخارجي. وفي حزيران/ يونيو 2005 اختتم بشار الاسد مؤتمر الحزب بخطاب لم يبث على عكس السنوات السابقة. وخلال الانتخابات التشريعية لنيسان/ ابريل 2007 فرض كامل الأسد، أحد أقرباء حافظ الاسد ورئيس غرفة التجارة والصناعة باللاذقية، ثلاثة نواب مستقلين من هذه المدينة، في ما اعتبر تحدياً للحزب الذي كان لديه مرشحون آخرون.
غير ان التضامن العائلي ليس بالأمر البديهي، اذ يبقى الولاء الشخصي أمراً قابلاً للتغير والتقلب. ولكن بصفة عامة تجاوز التضامن العائلي أزمة المواجهة بين سورية وبين المجتمع الدولي. وظلت عائلة الاسد متماسكة. ويبقى السؤال مطروحاً عن تطور هذا التضامن العائلي بعد ازدياد تسلط النظام وتركز السلطات بين يدي بشار الاسد منذ عام 2009.
خلاصة القول في هذا الشأن ان نظام حافظ الأسد كان متسلطاً فحسب، بينما أصبح نظام بشار الأسد اشبه بسلطنة تقوم على اعتباطية الحكم الرئاسي.
المستقبل