الاستشهاد في الشرق الأوسط… ظاهرة في صيغة المؤنّث أيضًا/ كـارول أنـدره ديسّـورن
NOW ينشر الترجمة الحرفية للمقالة التي صدرت باللغة الفرنسية تحت عنوان : Etre martyr au Moyen-Orient, un phénomène à mettre aussi au féminin للكاتبة Carole André – Dessornes في المجلة الفصلية Moyen-Orient العدد 21، من شهر كانون الثاني الى شهر أذار 2014.
باريس – بحسب الرأي السائد، لا يمكن للمرأة أن تكون استشهادية وإن ارتبط اسمها بهجوم انتحاري، يكون ذلك على حسابها. فهذا النوع من الاستراتيجيات القتالية حكر على الرجال دون سواهم. لكنّ الواقع في الشرق الأوسط أكثر دقّة وتعقيدًا، إذ لا ترتبط هذه الظاهرة حصرًا بدين ما أو بالإسلام بنوع خاص.
منحت الحرب النساء فرصة للتحرّر بحيث انتقلن من دور تقليدي بعيد عن أيّ عمل سياسي إلى دور أكثر نشاطًا بكثير يدفعهنّ حكمًا إلى قلب بيئة معادية يتعيّن عليهنّ مواجهة مخاطرها. خلال الستّينيات والسبعينيات من القرن العشرين، تحمسّن الشابات اللبنانيات والفلسطينيات للنضال السياسي على الرغم من أنّ نسبة النساء ما دون الثلاثين من العمر المنضويات في الأحزاب بقيت ضئيلة نسبيًّا. لذا كان من الطبيعي بالنسبة إلى البعض منهنّ أن يضاعفن التزامهنّ عندما بدأ الصراع الأهلي في لبنان (1975-1990).
شهدت بداية الثمانينيات من القرن العشرين ظهور أشكال جديدة من النضال. فقد شكّلت الحرب بين العراق وإيران بين عامي 1980 و1988 منعطفًا لا يُستهان به في الأنماط القتالية المعتمدة حتّى ذلك الحين، إذ أدخل وعمّم “الباسيج”، وهم متطوّعون مسؤولون عن الأمن الداخلي للجمهورية الإسلامية ومستعدّون للتضحية بأنفسهم على أرض المعركة في الصراع ضدّ العدو.. إستراتيجية الإستشهاد. هكذا، أصبح الشهيد “رمزًا” للثورة الإيرانية. دخل مفهوم التضحية هذا العالم العربي مع العمليات الاستشهادية في لبنان في العام 1982، أي منذ الأيّام الأولى لاحتلال إسرائيل جنوب البلاد. كان حزب الله وراء إدخال هذه الاستراتيجية والتي كانت محصورة فقط بالرجال دون سواهم. أوّل عملية استشهادية نُسبت إلى هذا الحزب الشيعي نفّذها الشاب أحمد قصير البالغ من العمر 18 عامًا ضدّ مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في 11 تشرين الثاني 1982.
شخصية “المرأة المقاومة” في المجهود الحربي اللبناني
في نيسان 1985، دخلت النساء هذا الحيّز الذي كان ممنوعًا عليهنّ في السابق. وخلافًا لكلّ التوقّعات، افتتح لبنان العلماني، من خلال الحزب القومي السوري الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث، هذا الشكل الجديد من أشكال النضال ضدّ جيش نظامي والميليشيا المكمّلة له، أي جيش لبنان الجنوبي حليف قوات الدفاع الإسرائيلية. بقيت هذه الاستراتيجية خيارًا من بين عدد من الخيارات المتاحة. بالفعل، إلى جانب هذه الأقلّية من النساء المستعدّات للاستشهاد، أُجبرت غالبية النساء إلى إدارة الحياة بتفاصيلها اليومية وضمان بقاء العائلة على قيد الحياة وحماية الأطفال، إلخ. في حين انضمّ البعض منهنّ إلى المقاومة عبر المشاركة في التحضيرات اللوجستية ودعم المقاتلين خلف خطوط الجبهة. مع العمليات الإستشهادية، ظهرت المرأة في مكان لم يكن ظهورها متوقّعًا. وقد أدّى ذلك إلى إرباك العدو وتصعيب مهمّة جيش الاحتلال في التعرّف بدقّة على أوجه “المقاومة” الجديدة هذه التي سرعان ما تحوّلت إلى رموز لصراع ذي طابع وطني.
اللافت بنوع خاص هو استعداد المرأة لتقبّل موتها في سبيل إتمام مهمّة ما. من الواضح أنّ الصراعات المحلّية فريدة من نوعها، فما حصل في لبنان لا يُقارن بما جرى في فلسطين أو العراق. لكن النساء هنّ الأكثر تضرّرًا بالتغييرات التي تأتي بها الصراعات التي تمتد على الأمد الطويل. جاء دخول النساء الحيّز المخصّص للرجال حتّى ذلك الحين لينقض المعايير المجتمعية. من المؤكّد أنّ أية حالة صراع تزعزع استقرار مجتمع ما لا محالة وقد تولّد تصرّفات غير اعتيادية تتخطّى عددًا من المحرّمات.
تتعدّد عناصر الالتزام بتعدّد أطر الصراع بالنسبة للاستشهاديات علمًا بأنّ هذه الظاهرة تطوّرت، بالنسبة إلى غالبيّتهنّ، في ظلّ جوّ من النضال الغير المتكافئ. وقد غدت المرأة مرسال مجتمع بأسره، أضحت تلك المستعدّة لتطبيق التضحية على نفسها وعلى الغير أيضًا، ذلك الذي يصنّف في خانة “أولئك الذين يمكن التضحية بهم.” تتحدّى المرأة هنا أحد المحرّمات فتوفّر تغطية إعلامية أوسع “للقضية” التي تحمل لواءها.
التزام سياسي علماني أكثر منه ديني
يعارض حزب الله بقيادة حسن نصر الله تولّي المرأة مثل هذه العمليات إذ مهمتها ضمان استمرارية النسل وتربية الأطفال ولا يجب في أيّ حال من الأحوال تشجيعها على المشاركة في المعارك بهذه الطريقة. المرأة التي تموت شهيدة بالنسبة لحزب الله هي تلك التي تقضي عند التعرّض للقصف أو أثناء أداء واجبها مثلا في مجال الرعاية الصحّية. فالمرأة وظيفتها مساندة رجال عشيرتها وليس الاستشهاد. ما من امرأة من أتباع حزب الله شاركت مباشرة في أيّ عملية انتحارية. أبدت خطيبة بلال فحص، وهو استشهادي في صفوف حركة أمل الشيعية قضى في العام 1984، رغبة في الانضمام إليه في الجنّة عبر تنفيذ عملية استشهادية هي أيضًا لكنّ طلبها لم يلقَ آذانًا صاغية، ولا حتّى من حزب الله الذي اتّصلت به إثر رفض حركة أمل طلبها.
غير أنّ الأحزاب اليسارية اللبنانية لطالما نادت بالمساواة بين الجنسين، بما في ذلك بالنسبة للنضال المسلّح. فالمرأة، قبل أيّ شيء، هي مقاتلة. خلال مرحلة الحرب الأهلية وفترة الاحتلال، كانت تلك الاستشهاديات منضويات، بطريقة أو بأخرى، في أحد هذه الأحزاب أو كانت على الأقلّ مقرّبة منها. غير أنّ التزامهنّ لم يسمح لهنّ ببلوغ مواقع المسؤولية تقديرًا لتضحياتهنّ. عادت كلمة “استشهادي” لتكتسب طابعًا علمانيًّا وتضفي بعدًا مقدّسًا على العمل المسلّح، ممّا ضمن انضمام عدد أكبر من الأعضاء الى هذه الأحزاب من بين جمهور لم يكن بالضرورة يشاطرها مبادئ العمل نفسها.
صحيح أنّ السياسة والدين يتماهيان في النهاية في الأراضي الفلسطينية، بخاصّة في حالة الجهاد الإسلامي وحركة حماس اللذين ظهرا في نهاية السبعينيات بالنسبة للأولى وفي العام 1987 بالنسبة للثانية. لكن في ظلّ الاحتلال أو الأوضاع الأشبه بالاحتلال، يمكن للإيديولوجيات – سواء كانت دينية الهوى أو علمانية – أن تحثّ على التضحية بالذات إذا ما ترافق ذلك مع تحرير أرض مغتصبة. فيصبح الجسد بذلك رمزًا للنضال.
في 9 نيسان 1985، كانت سناء محيدلي التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 16 عامًا أوّل امرأة تقوم بعملية انتحارية في لبنان، حيث قادت سيارة من طراز بيجو 504 محمّلة بمئتي كيلوغرام من مادّة الـTNT وفجّرتها بموكب عسكري إسرائيلي على طريق جزّين في جنوب البلاد، فأردت جنديين إسرائيليين فيما أصيب جنديّان آخران بجروح، فجسّدت بذلك وجهًا جديدًا من أوجه النضال القومي. ولّدت سناء الذهول ودعوات أخرى في الوقت نفسه. بالفعل، لم تكن سناء محيدلي، الملقّبة بـ”عروس الجنوب”، أوّل استشهادية لبنانية فحسب، بل كانت أيضًا أوّل امرأة على الإطلاق تلتزم هذا النوع من المهمّات. كان لهذه العملية وقع مدوٍّ وصل صداه إلى فلسطين. ودّعت سناء أهلها وشعبها في شريط فيديو عدّدت فيه أسماء الرجال الشهداء الأوائل وفسّرت قرارها القائم على “تحرير أرضها” وأكّدت أنّها مستعدّة للتضحية بنفسها في سبيل وطنها، متوجّهةً إلى عائلتها بالقول: “أنا أقوم بواجبي حبًّا لشعبي ولبلدي.” كانت سناء محيدلي شيعية لكنّها كانت تعمل أوّلاً في إطار حزب علماني، ألا وهو الحزب القومي السوري الاجتماعي، ولم تكن تعمل باسم الله إطلاقًا. بالتالي، برز القومية والنضال بهدف إرغام الجيش الإسرائيلي على الانسحاب كعنصر أساسي من استراتيجية “المقاومة” هذه ضدّ عدوّ معروف الهوية. ثمّ تلت سناء لولا عبّود، الملقّبة بـ”لؤلؤة البقاع”، وهي مناضلة شيوعية أورثوذكسية من مواليد القرعون نفّذت الهجوم الانتحاري الثاني في 21 نيسان 1985.
خلال الحرب، نفّذت تسع نساء عمليات خطّط لها وتبنّاها بالكامل الحزب القومي السوري الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث في لبنان. الدين ليس هنا بالعامل الحاسم إطلاقًا. بصرف النظر عن إيمانهنّ، كانت أولئك النساء قبل كلّ شيء مناضلات ملتزمات العمل ضدّ الاحتلال، ولم تكن هذه المهمّات مرتبطة بأيّ طريقة كانت بالأصولية الإسلامية. فقد أعطيت وصايا الاستشهاديات مكانة مركزية لرغبتهنّ في تحرير وطنهنّ وعائلاتهنّ من الطغيان. كان ذلك محيّرًا على أكثر من صعيد وخلق نوعًا من الإرباك لدى الجنود الإسرائيليين وحكومتهم.
تجدر الإشارة إلى أنّ الجبهة الوطنية للمقاومة اللبنانية كانت أوّل حركة كبرى أنشأت في أيلول 1982 ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. صحيح أنّ حزب الله كان قد أبصر النور قبل بضعة أشهر، وتحديدًا في حزيران، لكنّه لم تكن له الغلبة إلاّ ابتداءً من العام 1985. يفسّر ذلك، وإن جزئيًّا فقط، لماذا سمحت الأحزاب العلمانية للنساء بالمشاركة في العمليات الاستشهادية وذلك لكي تحتفظ هذه الأحزاب بمكان لها في الصراع. فقد ولّد دخول النساء على الخطّ تغطية إعلامية مؤكّدة للحركات العلمانية التي كانت تفقد من مكانتها.
تعتبر هذه العمليات وليدة التفاعل بين المجموعة والفرد، والمرأة المرشّحة للقيام بعملية استشهادية ينطبق عليها هذا المنطق أيضًا. أعضاء المجموعة مستعدّون لبذل أنفسهم في سبيل المجموعة باسم قضية نبيلة. لكن ليست كلّ امرأة انخرطت في النضال قد اختارت الموت طوعًا. كانت بعض النساء مدركات تمامًا أنّهنّ قد يفارقنَ الحياة أثناء أدائهنّ لمهمّة ما لكنّهنّ لم يكنّ يبحثنَ عن الموت عمدًا. تلك كانت حال سهى بشارة التي نشأت في كنف عائلة من المناضلين الشيوعيين وكانت نسيبة لولا عبّود، وقد تلقّت أمرًا في العام 1988 باغتيال أنطوان لحد (المولود في العام 1927) والذي كان آنذاك قائد جيش لبنان الجنوبي. أُصيب لحد بجروح وأمضت سهى عشر سنوات في السجن.
الانتحار أو كيفية المقاومة في فلسطين
باتت العملية الاستشهادية مع مرور الوقت تقنية نضال قابلة للنقل في مختلف مناطق المعارك الغير متماثلة. أمّا في الشرق الأدنى، فقد ظهرت الاستشهاديات في الأراضي الفلسطينية في العام 2002 حيث كان الرجال يتولّون عادة هذه المهمّات منذ العام 1994 حتّى ذلك التاريخ. كان للهجمات النسائية هذه التي نفّذتها في البدء كتائب شهداء الأقصىى، وهي ميليشيا مرتبطة بحركة فتح التي كان الرئيس ياسر عرفات (1929-2004) يترأّسها، تأثير نفسي على “العدوّ” فشجّعت المنظّمات الإسلامية على أن تحذو حذوها.
كانت وفاء إدريس أوّل استشهادية من فلسطين تسير على هذا الدرب في النضال ضدّ إسرائيل في 27 كانون الثاني 2002 حيث فجّرت قنبلة في الوسط التجاري في القدس، فقتلت عجوزًا له من العمر 81 عامًا فيما أصيب العشرات بجروح. كانت وفاء إدريس متطوّعة تقود سيارة إسعاف للهلال الأحمر. تبنّت حركة فتح من خلال كتائب شهداء الأقصى، العملية وتحوّلت الشابّة البالغة من العمر 25 عامًا إلى رمز بالنسبة إلى الفلسطينيين، وحتّى بالنسبة الى الذين لا يوافقون على نشاط من هذا النوع. نحن هنا امام تماهي بين ألم وفاء وألم شعب بأسره. هذا وتوجّهت نساء أخريات إلى كتائب شهداء الأقصى، وهي المنظّمة الوحيدة التي استقبلتهنّ.
بهدف منع ميليشيا فتح من العودة إلى الساحة، بدأت الأجنحة المسلّحة للحركات الإسلامية، أمثال كتائب عزّ الدين القسّام (حماس) وسرايا القدس (حركة الجهاد الإسلامي)، تقبل بالنساء في العمليات الاستشهادية. جسّدت هبة الدراغمة هذا التحوّل في 19 أيّار 2003 في العفولة في شمال إسرائيل حيث نفّذت هجومًا تبنّته حركة الجهاد الإسلامي وأودى بحياة ثلاثة مدنيين. بات منذ ذلك الحين من الصعب التمييز بين العمليات ذات الطابع القومي التي تنفّذها حركات علمانية وتلك التي تتبنّاها التيارات الدينية المتشدّدة. يصحّ ذلك بنوع خاص كون حركة فتح كانت ترفض التخلّي عن الخطاب الديني لكي لا تستثني أحدًا وتتمكّن من توعية أكبر عدد ممكن من الأشخاص. لكنّ التنافس بين مختلف الحركات الفلسطينية لم ينفكّ يتزايد.
هكذا، تدخّل العامل الديني في الصراع الوطني في فلسطين وولّد “دعوات” عدّة. من شأن الشعور ببلوغ حائط مسدود والافتقار إلى أيّ حلّ قابل للحياة أن يحفّز إجلال الشهداء الذي يمنح نوعًا من “البتولية الروحية” الضائعة في بيئة باتت خانقة وظروف اقتصادية واجتماعية متردّية لا تساعد إلاّ على تفاقم شعور بالعار والغضب.
قبل الانتفاضة الثانية (2000-2008)، كان من الممكن تقريبًا رسم لمحة عن الاستشهادي الذي غالبًا ما كان شابًّا نشأ في أحد مخيّمات اللاجئين ويسعى إلى أن يعترف أحد به. غالبًا ما يكون هذا الشاب عاطلاً عن العمل ولا إمكانية لديه ببناء أيّ مشروع، إن على الصعيد المهني أو على الصعيد الخاص. منذ العام 2000 لا بل منذ العام 2002، وهو العام الذي بدأت المرأة تشارك فيه في هذا النوع من النشاطات، تعدّدت أشكال هذه اللمحة واختلفت أعمار الاستشهاديين وفئاتهم الاجتماعية والمهنية، وإن كان لا يزال عدد كبير منهم بين الثامنة عشرة والثلاثين من العمر. لكن يبقى قاسم مشترك بينهم، وهو أنّ عددًا من الساعيات إلى الاستشهاد نشأن في مخيّمات للاجئين وإن كنّ لا ينحدرنَ من عائلات محرومة.
ظاهرة إضافية تحظى بتغطية إعلامية
المرأة قادرة على الالتزام وعلى العنف تمامًا مثل الرجال لكن يجب مماثلة هذا النمط من النضال النسائي الذي يميل على الأمد الطويل إلى أن يتعثّر أسرع من مثيله عند الرجال.
خلال احتلال جنوب لبنان من قِبل الجيش الإسرائيلي (1982-2000)، نُفّذت نحو خمسين عملية انتحارية كان للحزب القومي السوري الاجتماعي فيها أكبر حصّة من النساء الاستشهاديات (ستّ من أصل تسع نساء) مقابل اثنتين للحزب الشيوعي اللبناني وواحدة لحزب البعث. يقال إنّ عددًا من الاستشهاديات نفّذنَ هجمات أخرى لكنّ هذه الحركات لم تتبنّ أيّ منها وتبقى هناك شكوك كبرى بشأن مشاركة النساء طوعًا فيها. هكذا، فإنّ هذه النسبة تبقى ضئيلة نسبيًّا مقارنةً بالهجمات التي نفّذها الرجال. يصحّ ذلك بالنسبة إلى فلسطين والمناطق المعنية بدخول المرأة إلى الساحة. لا تختار النساء جميعهنّ هذه الطريق إذ إنّ الاستشهاد ليس بالخيار الوحيد.
يضاف إلى ذلك تطوّر التقنيات المستخدمة من المركبات والأمتعة المحمّلة بمادّة الـTNT في لبنان إلى الأحزمة الناسفة التي يضعها منفّذ الهجوم تحت ثيابه، فتتمكّن منفّذة العملية أحيانًا من التظاهر بأنّها حامل. ينطوي التأكيد أنّ لهذه الهجمات جذور دينية على شيء من التقليص من أهمّيتها، وهو اعتقاد خاطئ في بعض الأحيان. أصبح حزب الله، بنظر الجيش الإسرائيلي والغرب، حامل لواء الهجمات الانتحارية لكنّ تنفيذ النساء للهجمات الاستشهادية ليس في الأساس سوى وليد استراتيجية “مقاومة” أدخلتها الأحزاب العلمانية.
تتّسم هذه الظاهرة في الشرق الأدنى بالتقليد بمعنى التماهي بحيث انتقلت إلى حزب العمّال الكردستاني في تركيا والى جبهة نمور تحرير “إيمال تامول” في سريلانكا و”الأرامل السود” في الشيشان. وفي العراق، نمت هذه الظاهرة بوتيرة لا مثيل لها بعد العام 2003، وبخاصّة ضمن تنظيم القاعدة. هنا، تتّبع المرأة منطقًا مختلفًا في إطار صراع أكثر شمولاً، بحيث تتخلّى عن المطالبة بهوية وطنية وتضحّي بنفسها في سبيل “أمّة” خيالية في صراع ضدّ “الكفّار” و”المنافقين”. تخضع النساء لضغوطات مستمرّة، ممّا يخلق جوًّا شديد الهشاشة وحساسية مرهفة. لذلك، قد يتفهّم المرء كيف أنّ المرأة التي تجد نفسها منعزلة إثر خسارة أحد أحبّائها تصبح ضحية سهلة للحركات الأصولية المنعدمة الضمير التي ترى في مثل هذه النساء فرصة إضافية للانقضاض على العدو.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ المناضلين الناشطين من الرجال ذوي الانتماء المتفاوت لتنظيم القاعدة ليسوا، في معظمهم، من العراقيين. لكنّ ذلك لا ينطبق على النساء اللواتي هنّ بمعظمهنّ من العراقيات في ما خلا بعض الاستثناءات، كحال البلجيكية مورييل دوغوك (Muriel Degauque) التي قضت في هجوم انتحاري نفّذته في بعقوبة في 9 تشرين الثاني 2005. من الصعب، لا بل من المستحيل، على امرأة أن تغادر بلدها إلى بلد آخر من دون وصيّ شرعي. يضاف إلى ذلك كون النساء أقلّ عرضة للانخراط في التزام عابر للوطن، بل تعنيهنّ أكثر القضايا المتعلّقة ببلدهنّ. يقدّر عدد النساء اللواتي شاركنَ بمهمّات انتحارية في العراق بين أيّار 2005 وآب 2008 بحوالي خمسين امرأة. لكنّ هذا العدد انخفض بين أيّار 2005 وكانون الأوّل 2007 إلى أربع عشرة امرأة فقط من أصل 665 هجمة انتحارية وفقًا لمركز الأبحاث عن الإرهاب. وفقًا للجيش الأميركي، بلغ هذا العدد 32 امرأة في العام 2008 مقابل ثماني نساء في العام 2007. تتبدّل الأرقام بتبدّل المصادر علمًا بأنّ بعض الحالات الفريدة ظهرت في الجزائر وأفغانستان وباكستان. لكنّ هذه مجرّد ظاهرة إضافية تنميها وسائل الإعلام التي تصوّرها وكأنّها “عدوى” تنتقل من مكان إلى آخر. هذا ولا يمكن لعامل واحد أن يفسّر خيار بعض النساء الاستشهاد. فإلى جانب محاربة المحتلّ، يمكن أن نرى عند البعض منهنّ أملاً في آخرة أفضل من الحياة في عالمنا هذا.
ما مكان المرأة في الصراع السوري؟
تبرز أفكار عدّة في هذا المجال، منها أوّلاً أنّ العنف لا جندر له. فالنساء يعتقدنَ، تمامًا كالرجال، أنّهنّ يستطعنَ المساهمة في تحرير بلدٍ أو أرضٍ ما. لا يصحّ هنا تعميم هذا الواقع لكن للمرأة إحساسًا مرتفعًا بضرورة بقاء المجموعة على قيد الحياة. فهي تقدّم دمها تضحيةً لضمان شرف أمّة بأسرها على أن تكون تضحيتها هذه ضمانة للمستقبل. الحرب عادة هي الأكثر تأثيرًا على النسيج الاجتماعي. فمعاناة أو تعنيف المرأة على الصعيد الشخصي أو الجماعي لا تستطيع هذه الآخيرة مقاومته إلاّ باعتماد العنف بدورها أو بالهروب منه أو بالتشكيك به. وليست العمليات الاستشهادية سوى وسيلة من بين وسائل أخرى في هذا المجال.
يبقى السؤال الأساسي حول وضع المرأة في المستنقع السوري، وهنا أيضًا يبرز الواقع الصارم: كلّما طالت الأزمة، كلّما زادت الحظوظ بأن تشارك فيها المرأة مباشرة، وهو ما يحصل الآن على الجبهة. فقد أنشأ الجيش السوري الحرّ أوّل وحدة نسائية فيه في 25 كانون الثاني 2012 سمّيت تيمّنًا بخولى بنت الأزور، وهي شاعرة ومحاربة عاشت خلال القرن السابع. كما نجد في شمال شرق سوريا كتائب كردية مؤلّفة من النساء اللواتي يتولّينَ الدفاع الذاتي. تطالب النساء بحقّهنّ بالتسلّح والدفاع عن مجتمعهنّ لكن ما من امرأة نفّذت أيّ هجوم انتحاري في سوريا لتاريخ كانون الأوّل 2013، وهو أمر مختلف عن الرجال. يبقى السؤال ما إذا كانت النساء ستشاركنَ في مهمّات انتحارية ومتى سيكون ذلك. في الإطار السوري، اختارت المرأة أشكالاً أخرى من النضال أو المقاومة بعيدًا عن الاستشهاد. من هنا من المرجّح أنّ مشاركة السوريات في هجمات إنتحارية إنما سيكون أمر عرضي.
(ترجمة جينيفر بري)
\موقع لبنان ناو