الاستعصاء السوري!.
د.نصر حسن
في شهرها العاشر تدخل ثورة الحرية والكرامة طوراً جديداً غاية في التعقيد والخطورة ومفتوحا على احتمالات متعددة ، أطرافه الأساسية أربعة ، أولها ثورة بدأت واستمرت سلمية مفصحة ًعن خيار مدني ديمقراطي حقيقي ،أصبح من المستحيل تراجعها ، قدمت آلاف الشهداء والمعتقلين والمشردين، قوامها معظم الشعب المضطهد المحروم ،الذي عانى من نظام شمولي أمني من الطراز الشاذ في بنيته ونهجه ووحشيته ، ثورة تدفع ضريبة كبيرة لتحررها من نظام أفرزته خدعة التوازنات الداخلية والإقليمية والدولية ،التي تقع مصلحة الشعب السوري في آخر اهتماماتها من جهة ، ومن أخرى وجود سورية في معطى جيوسياسي متعدد الثوابت والمتغيرات والحسابات المرحلية والإستراتيجية المتعلقة في الاستقرار، وأخيراً بعد طول مخاض بلورت الثورة واجهتها السياسية في المجلس الوطني .
وثانيها ،نظام أمني شمولي فائق الخصوصية ، مغلق بإحكام ، شديد المركزية، متصلب لم يبد أي مرونة تذكر ، لا يقبل أي شريك في السلطة أو القرار ، سطى على الدولة والمجتمع واحتكر عبر نهج منظم من العنف كل موازين القوى المادية بين يديه ( الجيش – الأمن – السلطة – الثروة – القرار ) ، ألغى دور الشعب والمجتمع المدني والتعبيرات السياسية، وحصر سورية في ثنائية ( إما أنا أو الخراب ) عبر دوائر متعددة متداخلة من القمع والفشل والفساد والسمسرة والخطاب الغوغائي الممانع ، وأيضاً عبر شبكة من التحالفات الإقليمية والدولية وفرت له غطاء ًوديمومة للبقاء، استغل دور سورية التاريخي وموقعها الجيوسياسي في خدمة بقائه في السلطة ، لعب على توازنات المنطقة ، وأدخل عليها الطرف الإيراني بشكله المذهبي وكل حساباته الإستراتيجية ومشروعه الإمبراطوري في غياب أي مشروع عربي ، مما زاد في تعقيد الصورة في سورية والشرق العربي .
وثالثها ،وضع عربي رسمي منهك هو الآخر،يرتجف خوفاً على سلطاته المريضة ، تعصف فيه رياح الثورات العربية ، تطيحها الواحدة تلو الأخرى ، حائر في معظمه من نتائج دومينو التغيير الديمقراطي الذي أطاح بثلاث أنظمة عربية إلى الآن والبقية تترنح على الدور ، وجامعة عربية تتجاذبها بقايا النظام العربي القديم ، مسلوبة الإرادة ،غير قادرة على فعل شيء سوى الفرجة على دماء السوريين وأشلائهم وإعطاء النظام القاتل المهلة تلو الأخرى، علَ الأمور تنتهي بأهون الشرين! ،أي تمكن النظام من حسم الأمور والقضاء على الثورة !.
ورابعها ، موقف دولي زكزاكي متردد مرتبك هو الآخر ، تحكمه عوامل شتى ، أولها حساب الربح والخسارة من التدخل ومن التغيير الديمقراطي في سورية ، وثانيها شكل مستقبل سورية بعد التغيير, وثالثها أمن المنطقة واستقرارها الإقليمي الاستراتيجي ، ورابعها ، صدقيتها ورصيدها الأخلاقي ومسؤوليتها في دعم الحريات والتنمية الديمقراطية واحترام شرعة حقوق الإنسان في العالم العربي .
أطراف أربعة مضافاً إليها مخفيات لعبة الأمم تتفاعل اليوم ، وسورية تحترق في دوامة عنف منفلت، يتعمد النظام ممارسته بوقاحة لإجبار الجميع على الرضوخ إلى خياره الانتحاري الوحيد ( إما أنا أو الخراب ) ، الخراب الذي بشَر فيه بشار أسد أكثر من مرة ، بما هو خراب عام متدحرج في كل الاتجاهات ، خراب في دمشق أحد مظاهرة الإستباقية فبركة تفجيرين ((قاعديين)) استقبالاً لوفد الجامعة ، خراب متعدد المستويات في سورية ومحيطها ، ليخلط الحابل بالنابل ويشل وفد الجامعة ويجعله غير قادراً على رؤية وحشيته ونتائج حربه على الشعب الأعزل ، ليحصر الجامعة في دائرته ويمنعها من أداء دورها المتواضع الذي تأخرت فيه شهور، سفك خلالها النظام مئات أرواح السوريين ، خراب يعمل النظام على أن يكون مدخلاً للانهيار الكلي في سورية !.
الخلاصة ، المشهد السوري في حالة استعصاء دموي ،هل يسبق انفراجاً ما ؟!، أم المضي في خيار النظام المجنون ، خيار الانتحار ؟!، ثمة جديداً دخل على المشهد وهو المجلس الوطني بعد انعقاد مؤتمره الأول في تونس ، نقول جديداً لأن المجلس حاول في مؤتمره أن يتجاوز حالة الاستعصاء الخاصة فيه ، ورغم ما تخلل مؤتمره من نواقص وقصور ، لكنه حاول ترتيب أولوياته بما يخص وحدة المعارضة وتثبيت هيكليته وتوضيح خطابه السياسي وتحديد برنامجه وآلية عمله ، ودون الخوض في التفاصيل التنظيمية والحوارات الساخنة وهي كثيرة ، جاء البيان الختامي متضمناً موقفاً واضحاً من أكثر القضايا إشكالية التي تواجه الثورة اليوم ، وهي اعتبار المجلس ممثلاً للثورة وتبني برنامجها وتفصيح مفهوم حماية المدنيين بكل الطرق الممكنة ،وانفتاحه على كافة أطراف المعارضة وترك بابه مفتوحاً لمن يتبنى مواقف الثورة بصراحة ودون مواربة .
وحتى يتمكن المجلس من القيام بدوره في تمثيل الثورة ودعمها ، وتقوية موازين قواها على الأرض تمهيداً للخروج من حالة الاستعصاء الدموية التي تعيشها سورية ، يتوجب على المجلس العمل على تقوية حوامله الداخلية ،والحيلولة دون إجهاض الثورة ، ورفع كفاءة أدائه السياسي ،والعمل على تغيير شروط المعادلة الداخلية ، وذلك بالانتقال السريع إلى حالة المبادرة وعدم السماح للنظام إلى جر سورية إلى ساحته، بل توسيع ساحة الثورة والحفاظ على مبادئها وأهدافها في الحرية ، والعمل على أن تكون ساحة عمل المجلس الرئيسية هي الداخل وإنضاج ظروف داخلية تجعل الخارج يسرع في حسم موقفه المتردد من النظام ،وذلك بتقوية الوحدة الداخلية والتناغم في عمل المعارضة والمحافظة على سلمية الثورة عبر دعمها على كافة الأصعدة ، وتقوية توازن العمل الوطني وترتيب الأولويات والعمل فيها على المستوى الداخلي والخارجي .
كلمة أخيرة بخصوص سلمية الثورة، وما يوصف بأنه اقتتال طائفي! الجميع يعرف أن الثورة بدأت بمطالب سياسية عادلة ومشروعة وهي مستمرة كذلك في شهرها العاشر، لكن النظام المجنون أصم أذنيه عن سماع رأي الشعب وواجهها مباشرة بالعنف المطلق، واستمرت الثورة في خياراتها السلمية رغم كل ذلك الكم المروع من العنف والوحشية ، والعالم كله يتفرج على عصابات همجية تقتل الأبرياء وتذبح الأطفال وتغتصب النساء ،وتدمر المدن والقرى بدون رادع وبدون مواقف موازية من العرب والعالم ، والثورة أبدت قدرة بطولية خارقة في امتصاص ذلك العنف المنفلت حفاظاً على سلميتها وتفوقها الأخلاقي ، وعدم الانزلاق إلى ما يريده النظام ، لكن على الجميع أن يدرك أن صفة “سلمية ” ليست أغنية نرددها مع موسيقى الموت على أشلاء السوريين الذين يتفنن النظام المجرم في ذبحهم وتقطيع أجسامهم وارتكاب المذابح ضد مكونات معينة من الشعب السوري لنشر الفتنة وإشعال الحريق الداخلي ، بل إن سلمية الثورة ببساطة شديدة لها شروط وعوامل لابد منها يتطلب من الحريصين على سلميتها توفيرها على وجه السرعة باتخاذ المواقف العملية المناسبة لردع النظام القاتل ، ودعم الشعب السوري مادياً ومعنوياً وسياسياً ، حتى لا ينطبق على المنادين بسلمية الثورة القول:
(( ألقاهُ في اليمِّ ُثمَ قال لهُ … إيّاكَ إيّاكَ أنْ تبْتلّ بالماءِ ))..!.
إن الخروج من حالة الاستعصاء هو الخيار الذي يفرض على الجميع توفير متطلبات نجاحه ، ومقدمة ذلك إجراءات عملية فورية لحماية المدنيين بكل الوسائل الضرورية لردع النظام ووقفه عند حده ، ودعم الثورة والشعب السوري بكل ما يساعده على استمرار ثورته سلمية حتى تحقيق أهدافها النبيلة .