الاستعمار بوصفه استهلاكاً للصور/محمد الأسعد
مرّ بي تعبير “استعمار المخيّلة” لأول مرة على هيئة عنوان مقالة للتشكيلي والمصور ستيف سابيلا (1975)، ابن القدس المقيم في ألمانيا، يصف فيها حالة من الإحباط والهزيمة في العالم العربي، وكيف بدا له آنذاك أن الناس وقعوا في مصيدة، وأُخضعوا لشكل جديد من أشكال سلطة استعمارية لا تسعى إلى احتلال “المكان” والناس مادياً بقدر ما تستهدف غزو مخيلتهم وتقود إلى تشكيل نظام دولي جديد. أو بكلمة مختصرة، ما كنا نشهده، كما يقول، هو غزو واستعمار المخيلة، ويصيب هذا النوع من الاستعمار الناس بشلل مادي وفكري في منتهى القسوة. فهو يقيّد النمو ويلغي كل فكرة عن الحرية الشخصية.
ويبدو أنني كنتُ مهيّأً لالتقاط دلالة هذا التعبير ومدلوله من تجربة بصرية كنت أمرّ بها خلال قراءتي لهذه المقالة؛ أعني تجربة إعادة قراءة رسوم الفنان ناجي العلي، ابن قرية الشجرة في الجليل الفلسطيني، في ضوء تشكّل صورة “الفلسطيني الجديد”، الفلسطيني السعيد بوظيفة السقّاء والحطّاب التي منحه إياها المستعمر الصهيوني. كانت رسوم ناجي الكاريكاتورية تحرّر المخيلة من استعمار مماثل لما تحدّث عنه سابيلا.
قبل ذلك، كان كتاب “الرأي العام”، للأميركي والتر لبمان (1889 – 1974)، يفتح الطريق أمامي لتدبّر الكيفية التي تسيطر فيها الصور المغروسة في رؤوسنا على سلوكنا وردود أفعالنا. ولنضف إلى هذا السياق نفي أن تكون عقولنا مرآة تعكس تمثيلات لواقع تتفاوت دقتها بين كمال ونصف كمال وانعدام كمال بالمطلق، كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي (1931 – 2007)، والتأكيد على أن الصور وليدة مخيلة وذاكرة ووقائع، وليست “تمثيلاً” لما هو في الخارج، قلّ أو نقص أو جاء فائضاً.
بتقاطع كل هذه المصادر، وعند نقطة منها، يبرز ما سمّاه الفرنسي جان بودريّار (1929 – 2007)، واقعاً زائفاً يحلّ محل الواقع العميق ويمحوه، ويصبح “شبه” واقع نحياه ونراه يتوسّط بيننا وبين العالم من حولنا. ويلخّص هذا قوله “إن المجتمع الاستهلاكي القائم حالياً هو مجتمع يستهلك صوراً.. يعيش أفراده في قاعة مرايا منشأها اجتماعي من دون أي نقطة مرجعية خارجية. الواقعي لم يعد ما اعتاد أن يكونه”.
وتقفز إلى الذهن هنا مقولة “لا شيء خارج النص” في معرض تشديد جاك دريدا (1930 – 2004)، على أن لا مدلول خارج النص، من واقع قائم، يمكن أن يفسّر إشارات النص. إنه لعبة لغوية مراجعها داخلية، دلالات ومدلولات. في كل هذه المصادر المتقاطعة يتخذ استعمار المخيلة عدة وجوه بحسب زاوية النظر؛ هو عند سابيلا قيد نفسي وفكري تفرضه صور تتشكل؛ صور هي ليست انعكاسات لواقع بقدر ما هي إنشاءات تساهم في تشكيل عالمنا.
اللغة والصورة، كما يقول، تشتركان في نظام دلالي، أو سيمانتيكي كما يشاع، وليس لهذا النظام صلة مباشرة بما يدعى “العالم الواقعي”. هذا العصر يتميّز بصور تشكِّل حياتنا، وتسيطر على إدراكنا للحياة. وهو عند بودريّار تشكُّل عالم “أشباه” سمته فقدان الدلالة والمدلول اللذين يعمل كلاهما كصلتي وصل بالمعنى. في عالم الأشباه، حين لا يكون لدينا شيء نستطيع المقارنة به أو الإشارة إليه، يمكن القول عندئذ إن كل المراجع يمكن تخيّلها فقط.
ويتضح المقصود باستعمار المخيلة بجلاء أكثر لدى لبمان، صاحب مصطلح “القوالب الذهنية”، في قوله إننا أسرى الصور المغروسة في عقولنا. وقد أحسن منذ مطلع كتابه حين اقتطف من كتاب “الجمهورية” لأفلاطون صورة سجناء الكهف لتفسير نوع الصور الوهمية عن العالم الخارجي التي تتحكّم بسلوكنا.
فسجناء الكهف، حسب أفلاطون، لا يرون إلا ما هو أمامهم لأن أيديهم ورقابهم مقيّدة، وتمنعهم السلاسل من إدارة رؤوسهم. وما هو أمامهم يرسمه ضوء نار وراءهم؛ أي أنهم لا يرون إلا ظلالهم أو ظلال بعضهم بعضاً التي يلقيها ضوء النار أمامهم. المغزى هنا أنهم يتحدثون ويسمون الأشياء التي أمامهم فعلاً، وهم واثقون تماماً بالصور التي في رؤوسهم.
ويمضي لبمان إلى مزيد من الإيضاح؛ في كل ردود الأفعال التي يبديها سجناء كهف مثل هذا على العالم من حولهم، يبرز عنصر مشترك؛ إن “شبه بيئة”، أو “عالم أشباه” بتعبير بودريار، يتوسط بينهم وبين عالمهم الواقعي الغائب. من هنا يأتي سلوكهم كردّ على شبه البيئة هذا. ولكن، لأن رد الفعل يكون سلوكاً، فالتبعات تفعل فعلها ليس في شبه البيئة بل في العالم الواقعي.
بالعودة إلى سابيلا، نجده يتحدث عن كيف أنه قضى الشطر الأعظم من حياته في القدس المحتلة، حيث عملت المستعمِرة المسمّاة “إسرائيل” على تأكيد نفوذها على الأرض، وعانى من استعمار المخيلة إلى درجة أنه احتاج إلى اقتلاع نفسه من المكان ليعيد السيطرة على مخيلته، أي ليتحرر من القيود النفسية والفكرية. الصورة بالنسبة إليه هي موضع الصراع، صورة تُبنى بإرادة نُظُمٍ وحركات هي ذاتها التي عمل كاريكاتير ناجي العلي على تحرير العربي من سطوتها، وعلى تشجيع تشكيل مخيلة جديدة. ولكن هذه ليست مهمة سهلة، فالطريق، حسب سابيلا، ممتلئ بعقبات بصرية وصدام مع الصور المتشكلة حديثاً.
وفي ضوء أن عالماً مزدحماً بالصور التي يجهد أصحابها في إحلالها محل أي مرجعية ملموسة، يتوسع “أرشيفه” الخيالي باستمرار، ويؤثر على إدراكنا للحياة؛ نتساءل عن مكان هذه المراجع وكيفية العثور عليها. وحين تتوسط الصور الخيالية بيننا وبين العالم، علينا أن ننقّب في هذه الصور لنفهم مَن نحن ومن أين جئنا. وسيكون فهم كيف يعمل “الواقع الجديد” حاسماً.
على أن التنقيب في ظل شروط استلاب شبه كامل، سيكون خوض معركة حقيقية بأساليب شتى؛ بالصور المضادة، بالسخرية، بتحرير المشاهد والمدن والناس بصرياً. وأذكر عند هذه النقطة أن الكتاب الوحيد من الكتب المحرّمة في عالم أمين مكتبة قروسطية نحت شخصيته أمبرتو إيكو (1932)، في روايته “اسم الوردة”، هو كتاب الكوميديا. لماذا؟ لأن كاتبه فلسفَ الضحك والسخرية، وأنزل الشيطان منزلة المهرّج الأبله، ولأنه حرّر الناس من الخوف، وهذا هو الوصف الذي يليق بتصفية استعمار المخيلة.
العربي الجديد