صفحات الرأي

الاستعمال الديني للإصلاح/ إبراهيم غرايبة

 

 

جرت مبالغة وتوسعة لاستحضار الدين في العمل السياسي والاجتماعي، سواء لدى المؤسسات الرسمية أو الجماعات السياسية والاجتماعية والدعوية، وسادت تصورات وأفكار تعميمية وتبسيطية عن الدور الديني في الإصلاح والعمل العام والسياسي، سواء كان في الحكم أو المعارضة أو الدعوة والإصلاح. وتحاول هذه المقالة أن تقدم الشروط والبيئة الممكنة للدور الديني في الإصلاح، وتفترض، أيضاً، أن الدور الديني ليس موحداً، وأن الدين لا يعمل تلقائيا، ولكن، يمكن استحضاره وتوظيفه، حسب التصورات والأفكار والاتجاهات المعدة أو المتبعة، فيمكن أن يكون للدين دور في الإصلاح الاجتماعي، كما يمكن، أيضاً، في دعم السياسات الاستبدادية والمحافظة، ويمكن للعاملين في مجال العدالة الاجتماعية أن يستلهموا الدين، كما يمكن أيضا للاتجاهات والأفكار الليبرالية والرأسمالية، وفي الحكم كما المعارضة، ويمكن أن يكون للدور الديني مخاطر وسلبيات كثيرة، كما يمكن أن تكون له إيجابيات وفوائد.

والواقع أن ثمة تجارب كثيرة لنجاح التدين في حماية الأفراد والأسر والمجتمعات من المشكلات الاجتماعية، ومساعدتهم على التقدم والنجاح في الحياة. والحال أن الدين عندما يُطبَّق، يصبح “تدينًا”. والتدين ليس واحدًا، لكنه أنماط متعددة وكثيرة، وربما تكون أنماطه واتجاهاته ومذاهبه بعدد المتدينين؛ بعضها يخدم الإصلاح وبعضها يندرج في الفشل والجريمة.

فإذا كنا نتحدث عن الدور الإصلاحي في الدين، فإن السؤال، ببساطة: ما الإصلاح الذي نعيه، ابتداء، لنجد له الدعم الديني؟ أو لنقل ما التدين الإصلاحي الذي يسعى إليه الإصلاحيون الراغبون في الحصول على تأييد ودعم ديني لبرامجهم، أو لاستقطاب دعم المتدينين؟ أكثر وسائل العمل العام والسياسي شيوعاً وأكثرها خطراً، أيضاً، هي التقرب إلى المتدينين، ومحاولة استقطاب تأييدهم، من غير تقديم برامج واتجاهات إصلاحية واضحة لطلب تأييدهم على أساسها. وهنا، تقع الحكومات والجماعات السياسية والاجتماعية في الازدواجية والتقية، وتفسد الدين والسياسة معاً، وتقع المجتمعات والحركات السياسية والإصلاحية في فخ الفساد والانحراف المدعوم بتأييد ديني، ويصبح الفساد أكثر تماسكا وصلابة، يتحول الفشل والفساد إلى جزء من الدين أو كأنه دين، ويكون المعارضون للفساد أعداء للدين!

التدين الإصلاحي، ببساطة، هو الذي يساعد على النجاح في الحياة، وتحسين حياة الأفراد والمجتمعات، ويزيد مواردهم وتقدمهم العلمي والاقتصادي. وإذا كان المتدينون يعتقدون أن الإسلام يصلح للحياة وإدارة المجتمعات والدول وتنظيمها، فيجب أن يربطوه بالتقدم الذي يزيد موارد الناس، ويمنحهم مكاسب إضافية في الغذاء والتعليم والصحة والسكن والمشاركة والأمن والاستقرار، ويعلمهم كيف يزيدون مواردهم باستمرار، وينشئون موارد أخرى جديدة ومتجددة. وإذا كان الدين منهج حياة، يجب ملاحظة ذلك في أسلوب الحياة، وفي رفاه الناس واستقرارهم وتقدمهم.

“لن يساعدنا التدين تلقائيا في نظافة المدن والشوارع والأرصفة والأسواق، أو مواجهة الضوضاء والتلوث البصري والصوتي”

يمكن عرض المسألة ببساطة، كما يلي: ثمة مجموعة موارد وأولويات وقيم ومؤشرات؛ نتفق جميعا على ضرورة تحقيقها وحمايتها وإدامتها، متعلقة بالمدن والأمكنة التي نعيش فيها، والأعمال والمصالح التي تقوم عليها حياتنا ومواردنا، وهي متصلة بالخدمات الأساسية وأسلوب الحياة والتقدم المهني، وحقوق ومكتسبات العمل والضمان الاجتماعي والرعاية والسلامة، … وتتشكل النخب والعلاقات ومنظومات العمل والقيادات والمؤسسات المنظمة للموارد والمرافق والخدمات، عبر هذه المصالح (الأمكنة والأعمال)، وليس على أساس من الدين أو القرابة، بدون رفض أو تخلٍّ عن الدين أو القرابة. وعلى هذا الأساس، يتجمع الناس في المدن والبلدات، على النحو الذي يطور الأمكنة، ويجعلها إقامة تبعث على الرّضا والاستقرار، ويطور الأعمال على النحو الذي يحسِّن الحياة.

ما نحتاج إليه أن نشكل وعينا لما نحب أن تكون عليه حياتنا، وما نحب أن نكون عليه، ثم نراجع وعينا هذا باستمرار، بما يؤدي إلى التطور وتحسين الحياة. ولا نحتاج لأجل ذلك سوى إلى أن نستمع لأنفسنا بدأب وصبر، لننشئ صوتا مسموعا، نسمعه، نحن المجتمعات والأفراد والأسر والحكومة والشركات، ويلحّ علينا جميعا حتى يتحول إلى واقعٍ معيش.

لا يزال ثمة لبس ودمج في التصورات والمطالب والأفكار بين دور الحكومة والمجتمع والقطاع الخاص. ونحتاج إلى إجماع أو أغلبية شعبية واجتماعية كبيرة حول تصور لتوزيع المسؤوليات والولايات والتعاون والشراكة والتكامل بين الحكومة والمجتمعات والأسواق. ولا يزال، أيضاً، ثمة لبس واختلاف في الموقف من دور الدين والقرابة والطائفة في الحياة الاجتماعية. وأيضاً، ثمة لبس ودمج بين التقدمين الاجتماعي والسياسي.

ونحتاج، أيضاً، إلى ملاحظة حدود العلاقة والمشاركة بين المنظومتين، الاجتماعية والسياسية، وألا نحمل السياسة المشكلات الاجتماعية. كذلك علينا ألا نحمل الحكومة مسؤوليات المجتمع، وألا نعلق على التشريعات والقوانين كل آمالنا؛ ولن يساعدنا التدين تلقائيا في نظافة المدن والشوارع والأرصفة والأسواق، أو مواجهة الضوضاء والتلوث البصري والصوتي.

وهنا، يكون التدين والبرامج والأفكار المستمدة من الدين ليست سوى منتج حضاري واجتماعي، يعكس وعينا ومستوانا الاقتصادي والاجتماعي، ولن يمنحنا جديدا… نحن من يمنح الجماعات والاتجاهات الدينية أفكارها وبرامجها! وليس العكس

وفي هذا السياق؛ سياق استحضار الدين وتطبيقه وتوظيفه، يمكن أن نلاحظ أن رجال الأعمال والمسوقين يفهمون احتياجات الناس أكثر من التنمويين. لذلك، نرى سلعا ومنتجات تجارية رائجة أكثر مما نرى منتجات تنموية. هناك في الاستثمارات، القائمة على الدين، مدارس وعيادات ومستشفيات وبنوك وشركات تأمين وسياحة، ورسائل وأدعية دينية تقدمها شركات الاتصالات. ولا أعني، في هذا السياق، أنها خطأ، لكن المثال يوضح كيف يخدم الدين توقعاتنا واحتياجاتنا، وكيف أنه يفعل ذلك ضمن وعينا، وليس تلقائيا.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى