الاقتصاد السوري /من الأزمة إلى الكارثة
د.رفعت عامر
مارس النظام السياسي في سوريا عبر العقود الأربعة الماضية دورا أحال فيها كل قضايا المجتمع والدولة بما فيها الاقتصاد للسياسة ,فلم يأخذ علم الاقتصاد ونظرياته أي دور يذكر في تشخيص الواقع و إيجاد الحلول للمسائل المركبة التي كان يعاني منها الاقتصاد إلا فيما يخدم ديمومة النظام وأهدافه .ولم يكن مسموحا الحديث بالقضايا الوطنية عموما والاقتصادية منها خصوصا ,وعلى الرغم من سماحه في السنوات الأخيرة بالحديث عن مشكلات وتحديات الاقتصاد السوري إلا أن تلك النقاشات والأحاديث لم تصل إلى مستوى دقيق من التوصيف والتشخيص الصحيح وبالتالي لم يتم وضع الحلول والمخارج لها.بالإضافة إلى ذلك واجه الباحثين صعوبات جمة في الوصول إلى الحقائق وأهم هذه الصعوبات هي:
1-عدم توفر قاعدة بيانات وأرقام وإحصائيات دقيقة وان وجدت فهناك صعوبة في الحصول عليها ,والدافع وراء ذلك هو التستر على الفساد المستشري في جسم المؤسسات الحكومية .
2-المناخ العام الذي جرم قول الحق والرؤية النقدية ومنع حرية التعبير والبحث والتفكير الحر
3-غياب السوق بمفهومه المتعارف عليه :كمنظومة متكاملة اقتصادية ,اجتماعية.سياسية ,قانونية ,لحساب منظومة احتكار السلطة والمال من قبل مجموعة في النظام وقريبة منه ,قضت على الريادية وأحلت مفهوم الزبائنية و الولاء على حساب الكفاءة والمعايير الفنية
4-غياب الشفافية وسوء الإدارة الحكومية
الدافع الاقتصادي للثورة السورية
كان التأزم في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في السنوات الأخيرة باديا للعيان، فمعدلات النمو الاقتصادي ضعيفة نسبيا وغير مستقرة، كما أنها غير متناسبة مع معدلات النمو السكاني الكبيرة نسبيا، وتركز النمو في السنوات الأخيرة في قطاعات التجارة والمال والعقارات والخدمات، في حين عانت الزراعة من تراجع مستمر، وكان النمو في الصناعة والتعدين ضعيفا جدا نتيجة التراجع في إنتاج النفط ونضوب عدد من الآبار، وفا قمت السياسات الاقتصادية الليبرالية من أزمة قطاعات الإنتاج، والمشكلات الاجتماعية المرتبطة بالبطالة والفقر ومستويات المعيشة بشكل عام.
بلغ وسطي معدل النمو السنوي للناتج المحلي خلال السنوات ( 2005- 2009) ( حسب المجموعة الإحصائية لعام 2010) نحو 5.6%، وهو للوهلة الأولى معدل مقبول نسبيا، ولكن عدم انتظامه وتفاوته الكبير بين عام وآخر 6.5% عام 2006 مقارنة بعام 2005 و1.2% عام 2008 و 3.2% عام 2009 مقارنة بعام 2008، يوضح أن النمو قد كان هشا وغير مستدام، وقد استند إلى التوسع الكبير الذي تم في قطاع المصارف والتأمين (وسطي معدل نمو سنوي لهذا القطاع يقارب 9% ولقطاع التجارة بما يقارب 15% )، في الوقت الذي لم تزد فيه معدلات نمو الصناعة عن 1.7% سنويا، بل إن الزراعة كانت تتراجع بمعدل وسطي يقارب 0.5% سنويا، لقد كانت هذه النتائج منسجمة مع السياسات المتبعة فانسحاب الدولة من الاستثمار في قطاعات الإنتاج، وعدم حل مشكلات القطاع العام الصناعي وإصلاحه، وترك شأن الاستثمار الإنتاجي للقطاع الخاص الأجنبي والمحلي، تطبيقا لتوصيات المؤسسات المالية الدولية واستباقا لتوقيع اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وعضوية منظمة التجارة العالمية. هذا الخيار جعل الاستثمار في الاقتصاد الوطني أدنى من المعدلات المرغوبة لتحقيق معدلات النمو المطلوبة ( بلغت حصة الاستثمار من الناتج نحو 21% عام 2009 وكانت عام 2008 تقارب 18%) إضافة إلى حجم الاستثمار فقد كان التشوه أكبر في توجه هذه الاستثمارات إلى القطاعات الريعية، المال والتأمين والعقارات والفنادق والتجارة والسياحة، مع إهمال واضح للزراعة والصناعة ( تراجعت حصة الزراعة من الاستثمار من ما يقارب 5% عام 2005 إلى نحو 3% من الاستثمارات عام 2009، وكان التراجع في الاستثمارات الصناعية أقل حدة نصف نقطة مئوية)، إضافة إلى ذلك أهمل الاستثمار في التطوير التكنولوجي والحفاظ على البيئة والموارد، مما جعل النمو وفق المعايير الدولية الحديثة المتضمنة للأثر البيئي سالبا في معظم السنوات، كما جعل إنتاجية مجمل عوامل الإنتاج تتقدم ببطء شديد غير متناسب مع الإمكانات البشرية المتاحة. أعطى هذا النمط من الاستثمار الانطباع بنمو الناتج المحلي، ولكنه أسهم وبشكل كبير بزيادة الطلب على الأراضي والعقارات التي ارتفعت أسعارها بشكل كبير، وهذا ما فتح شهية بعض المتنفذين أو المستفيدين من النظام للاستيلاء على الأراضي، أو شراءها أحيانا، الأمر الذي استفز أصحاب تلك الأراضي وهم عموما من صغار الملاك، فكانت الانتفاضة مناسبة لانخراطهم فيها تعبيرا عن رفضهم للظلم الذي لحق بهم.
ترافقت سنوات الجفاف في السنوات الأخيرة، بسياسات التحرير والفاء الدعم لتقليص عجز الموازنة العامة، حسب توصيات صندوق النقد الدولي، فألغي الدعم عن الطاقة والمازوت خاصة، واستتبع بإلغاء الدعم للأسمدة الكيميائية، وكان الدعم للمبيدات والمستلزمات الأخرى قد ألغي في فترة سابقة، ارتفعت التكاليف على المنتجين فجأة، ودون أن تتوفر لهم إمكانية التمويل أو الاقتراض السهل، بعض المنتجين أهمل زراعته بالكامل والبعض الآخر زرع جزءا وترك الباقي. الزراعة في سورية ذات خصوصية، نتيجة أن معظم الملكيات هي صغيرة ومتوسطة وعدد محدود من الحيازات الكبيرة نسبيا، ويتزايد تفتت الحيازات مع الزمن بفعل الإرث، كما إن نحو 28.5% من الأراضي القابلة للزراعة مروية، والباقي تزرع بعلا ( الجدول رقم 6/4 المجموعة الإحصائية لعام 2010) ، ما يزيد عن 50% من الأراضي المروية تروى من مياه الآبار، وهي في معظمها غير مرخصة، و المرخص بحاجة إلى تجديد كل عام وذلك للأخذ بالاعتبار منسوب المياه الجوفية وبالتالي تجديد الترخيص أو إيقافه حسب الظروف، وهذا ما أتاح إمكانية ابتزاز المزارعين وفرض أتاوات عليهم من قبل المتنفذين في المحافظات ( جهات أمنية وحزبية وأعضاء مجلس محافظة بما فيهم المحافظ أحيانا)، مما أفقر هؤلاء المزارعين واستثار نقمتهم. شكلت هذه الممارسات والسياسات أسبابا مباشرة لتصاعد النقمة في الريف، ولكن الأزمة في الواقع أكثر عمقا واستمرارية، فتقاطع إحداثيات خارطة الفقر وتدني المستوى التعليمي، والبطالة والافتقار إلى الخدمات والمرافق العامة بما فيها مياه الشرب والصرف الصحي، وغياب المشروعات التنموية والإنتاجية، يشمل معظم مناطق الريف السوري تقريبا، وكان ذلك دليلا واضحا على فشل عملية التنمية والخلل في توازناتها، وقد كان ذلك يجد متنفسه في الهجرة إلى المراكز الحضرية والمدن الكبرى خلال السبعينات وحتى التسعينات من القرن الماضي، إلا أن ضعف النمو وعدم قدرة تلك المدن على استيعاب المزيد من الوافدين إليها، قد جعل من جهة مناطق السكن العشوائي على أطراف تلك المدن متخمة بفئات شابة طامحة لحياة أفضل وفرصة عمل كريم، وهم رصيد كامن جاهز للاستخدام في كافة الاتجاهات ( تم استخدام بعضهم كشبيحة في قمع التظاهرات)، و من جهة أخرى هناك في الريف مخزون بشري معطل ويائس، سدت في وجهه آفاق الهجرة إلى مناطق أخرى في البلاد وأصبحت الهجرة الخارجية بالنسبة له أكثر صعوبة وتعقيدا، ولدت جملة هذه العوامل احتقانا وشعورا بالظلم في كافة المناطق المهمشة والتي كان الريف الجزء الأهم منها.
لم تكن الأزمة في سورية مفاجئة وبنت الساعة، فهي كانت متصاعدة وأعطت العديد من المؤشرات الواضحة منذ بداية الألفية الجديدة، زيادة معدلات البطالة والفقر، فالزيادات السكانية الكبيرة خلال العقود الماضية ( معدل نمو سكاني يزيد عن 3.3% سنويا حتى أواسط التسعينات من القرن الماضي)، وبدء تراجع تلك المعدلات منذ ذلك التاريخ وحتى 2010، قد أدى إلى تغيرات ديموغرافية هامة أصبح بموجبها، نسبة الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر37.9% من السكان عام 2009، بعد أن كانت نسبتهم 44.8% من السكان عام 1998 ، وهو تراجع كبير نسبيا خلال ما يزيد عن العقد من الزمن، وأصبحت نسبة السكان في القوة البشرية ( 15- 65 عاما) تشكل 58.3% من السكان ذلك العام عوضا عن 52.3% من السكان عام 1998. ترافقت تلك التحولات بتحسن المستوى التعليمي وخاصة لدى الفئات العمرية 15-25 عاما ( أعلنت العديد من المناطق خلو هذه الشريحة العمرية من الأمية)، بلغ وسطي الزيادات السكانية في التسعينات من القرن الماضي 467 ألف نسمة سنويا، بدأ يدخل معظمهم أواخر العقد الحالي في عداد القوة البشرية المرشحة لسوق العمل، ولكن معدل النمو الاقتصادي والتوسع في قوة العمل يعجز عن استيعاب هذه الأعداد، توجه قسم كبير منهم إلى القطاع غير المنظم، وقسم آخر أصبح عاطلا عن العمل ( مسح سوق العمل يقدر البطالة ب-8.5% عام 2010، والتقديرات بحسابات أخرى تتجاوز 14%)، وحسب معطيات المكتب المركزي للإحصاء غادر أكثر من 900 ألف سوري من الذكور والإناث البلاد خلال السنوات الخمس الماضية ولم يعودوا، وبتقدير وسطي سنوي 200 ألف مهاجر سنويا. بدأت تبرز منذ بداية القرن الجديد أزمة تنموية حادة: مجتمع يتطور باتجاه النضج الديموغرافي، مجتمع أكثر تعليما ومعرفة، وبنى مؤسسية وإنتاجية راكدة ومتخلفة، تدار بعقلية العصابة ( تحت شعار الحزب القائد)، أي بمعنى الإقصاء والاستبعاد أو الاستزلام والتبعية، الأمر الذي فاقم من ظاهرة الفساد والظلم، الذي أصبح غير محتمل من قبل الأجيال الجديدة المتفتحة على عالم الفضائيات والأنترنت، والتي امتلكت وعيا بحقوقها استثار ما يختزنه المجتمع من شعور بالقهر والاضطهاد.
يشعر السوريون عندما ينظرون حولهم بخيبة أمل كبيرة، وهم الذين كانوا يتمتعون بمستوى حضاري ومعيشي مزدهر مقارنة مع الدول المجاورة العربية وغير العربية، أصبح ترتيبهم في مستوى التنمية البشرية 111من 169 دولة، بل وأصبحوا بمرتبة متدنية مقارنة مع الدول العربية الأخرى ويليهم في السلم فقط اليمن وموريتانيا والسودان، بل إن حصة الفرد من الناتج المحلي في الأردن تعادل تقريبا 1.5 مرة من حصة الفرد في سورية، وتعادل في لبنان أكثر من الضعف و في تركيا اربعة أمثال الدخل في سورية ( تقرير التنمية البشرية 2010، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، وسورية في مواردها أكثر غنى وتنوعا من تلك الدول، والمقارنة في مستويات التعليم والإنجازات الأخرى تزيد السوريين إحباطا، لماذا نتراجع ونصبح أكثر فقرا في حين يتقدم الآخرون ويغتنون؟ تساؤل لم تجب عنه الإدارة العامة والإدارة الاقتصادية في البلاد، بل ذهبت أبعد في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، بتوسيع انفتاحها على الخارج و الدخول في اتفاقيات مناطق تجارة حرة عربية وتركية وغيرها كانت سورية الخاسر التجاري فيها وخاصة مع تركيا، أغلقت جراء ذلك العديد من المشروعات الصغيرة، وتحول قسم من الصناعيين إلى تجار، وبدأت تبرز للعيان لاتنافسية الاقتصاد السوري، والمخاطر المنتظرة على قطاعات الإنتاج مع زيادة وتوسع الانفتاح والدخول في شراكات. تحمل المواطنون من الفئات الوسطى والفقيرة، أعباء الفشل الاقتصادي وانحياز السياسات الاقتصادية لصالح الأكثر غنى، فعجز الموازنة العامة والقصور في الموارد تمت معالجته بتقليص الدعم إلى الحدود الدنيا، وتقليص الإنفاق على الصحة والتعليم، وتحويل القطاع الصحي العام إلى وحدات اقتصادية في ظل غياب نظام للضمان الصحي، وتحويل العاملين في الدولة كيفيا إلى نظام التأمين الصحي ( لدى الشركات التأمينية المحدثة مؤخرا)، كل ذلك رفع من تكلفة العلاج والرعاية الصحية بالنسبة للمواطنين، في الوقت الذي تخفض الضرائب المباشرة على الأرباح والدخول الرأسمالية إلى حدود دنيا هي الأخفض في دول الجوار العربي، مع نسبة عالية من التهرب الضريبي لم تستطع الحكومة إيجاد حل له أو تقليصه خلال السنوات الخمس الماضية، لقد أصبح الخلل في توزيع الدخل الوطني كبيرا جدا، وتمركزت الدخول ورؤوس الأموال في أيدي فئة صغيرة محدودة، تقدر حصة الأجور من الناتج المحلي بما لايزيد عن 33% عام 2008-2009 وقد كانت هذه النسبة عام 2004 تقارب 40.5% ، أي أن الأرباح والريوع تستولي على أكثر من 67% من الناتج، في حين أن هذه النسبة لاتتجاوز 50% في أكثر الدول الرأسمالية ليبرالية ، حسب مسح أخير لدخل ونفقات الأسرة في سورية قام به المكتب المركزي للإحصاء ( 2009- 2010) كان وسطي انفاق الأسرة يقارب 31 ألف ليرة سورية شهريا، منها ما يزيد عن 14 ألف ل.س على الغذاء وتبين من المسح أن ما يقارب 63% من الأسر تنفق ما دون هذا الوسطي، ولكن المفارقة هي أن هذا الوسطي للإنفاق لايتناسب مع وسطي الأجور، حيث يتبين من مسوحات سوق العمل لعام 2009 ، أن ما يقارب 48% من قوة العمل تتقاضى أجورا أدنى من 9000 ل.س. شهريا وأن من يتقاضون أكثر من 9000ل.س يشكلون البقية وهي 52% ولكن لايظهر بين هؤلاء نسبة لمن يتقاضون 30ألف ل.س فأكثر شهريا، رغم عدم شمولية هذه البيانات إلا أنها ذات دلالة كافية فهي تشمل ما يقارب 61% من قوة العمل. تؤشر هذه المعطيات إلى أوضاع معيشية صعبة تعاني منها شرائح اجتماعية واسعة، ومنهم بشكل خاص العاملون بأجر، والشباب الداخلون حديثا إلى سوق العمل، ويفاقم من هذه الأوضاع التهميش المتزايد للمرأة واضطرارها للانسحاب من سوق العمل رغم أنها أفضل تعليما وتأهيلا من أي وقت مضى. ورغم المعارضة والاحتجاجات على السياسات الاقتصادية من قبل العديد من الاقتصاديين السوريين، وبعض المجموعات المحلية التي رفعت مطالب في هذا الاتجاه لهرم السلطة، فإن الاستخفاف واللامبالاة بتلك المطالب قد ولد شعورا عميقا بانسداد الأفق أمام الفئات الشابة خاصة، وتحولت معاناتها إلى غضب ورفض لحاضر ومستقبل منظور لايوفر لها الحد الأدنى من مستوى العيش الكريم واللائق، وربطت في وعيها ومن خلال تجربتها بين بنية النظام وآلية حكمه القمعية وفساده، وما تعانيه من صعوبات معيشية.
أكد المتظاهرون في أكثر من مكان وأكثر من مرة، أن سورية المستقبل التي ينشدونها هي دولة مدنية ديمقراطية، وقلما تم التطرق إلى العدالة في النظام الاقتصادي والاجتماعي المنشود، وقد يكون هذا التجاهل حكمة وممارسة ديمقراطية، تتيح الفرصة لكافة الأطياف أن تتفق على النظام الاقتصادي المرغوب بعد تغيير النظام الحالي، في أجواء من النقاش الحر والديمقراطي، مع ذلك يمكن التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه الإجماع الوطني مستقبلا، والذي يمكن استنتاجه من المشكلات ونقاط الضعف الحالية، إذ أن سورية تحتاج إلى التنمية، والتنمية بمفهومها الموسع هي توسيع خيارات الناس وتمكينهم، ويتضح من خلال التجارب أن عدالة توزيع الدخل الوطني ضرورة لاستدامة عملية التنمية واستمرارية التطور، كما أن تحرير الأسواق والانفتاح على الخارج يجب أن يرتبط بمتطلبات التنمية وليس انعكاسا لمتطلبات الخارج، ضمن هذا الإطار العام يمكن للسياسات الاقتصادية أن تكون أكثر أو أقل مركزية، ولكنها ستكون قابلة للتصويب من خلال التدخل الشعبي عبر وسائله الديمقراطية ومؤسساته الفاعلة. هذا استباق لما ستؤول إليه الأمور ولكن حسب رأي المنتفضين أي نظام آخر سيكون أكثر عدالة وإنصافا، وسيمنح المجتمع فرصا أكبر للإبداع والتطور.
لقد زاود النظام بالشعارات ووضع نفسه والدولة في مواجهة الاستعمار والمخططات كما ادعى وأطلق على البلد مصطلح الممانعة ليتم تبرير أية سلوك وإخفاق في تحقيق التنمية وتبرير حالة الاستبداد . مارست السلطة لغة مزدوجة ,القول نقيض الفعل والفعل نقيض القول ودفعت سوريا ثمنا غاليا لهذه الازدواجية بين وجه عسكري امني سياسي يرفع الشعارات الثورية ووجه اقتصادي اجتماعي يقطع أوصال الدولة والشعب والمواطن ,وعندما يتم التعارض بين الوجهين كانت تسارع السلطة إلى حل التناقض على حساب الشعب من خلال سياسات اقتصادية جديدة كانت تحمي الكبار وتسرق الصغار .
تبنت السلطة على مدار ثلاثة عقود اقتصاد التخطيط الاشتراكي من حيث التسمية ولكن في الواقع انما كان هو اقتصاد رأسمالية الدولة,وفي العقد الأخير تم الانتقال إلى ما يسمى اقتصاد السوق الاجتماعي تجاوبا مع التحولات الذي شهدها العالم بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وهيمنة الفكر الليبرالي الجديد وتوسع الرأسمالية المعولمة على كل بقاع الأرض ,وتحت هذه التسمية تم نهب جديد لثروات الشعب السوري بظهور طغمة مالية سلطوية(اندماج رأس المال الخاص مع قيادات في الجيش والأمن وصانع القرار السياسي),خارجة على القانون ولا مبالية بثروات الدولة .عدد محدود مما يسمى رجال أعمال والمسئولين وضباط الأمن والجيش لاتتجاوز نسبتها 5%من سكان سوريا حصلت على 60%من الناتج القومي , مما زاد في عدد الشرائح الاجتماعية المهشمة وتمت عملية هدم للطبقة الوسطى وصل بسوريا إلى أسوأ نظام في توزيع الدخل عالميا مما خلق غبن وتجاهل وشعور بالغربة عن الوطن والدولة بعد أن أصبحت السلطة فوق الدولة والإنسان ,فأصبح الجميع في خدمة السلطة.
إن ممارسات السلطة بحق الإنسان ومؤسسات الدولة وعملية التهميش الممنهج والتميز والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي على مدار أربعة عقود شكل أرضا خصبة لثورة الحرية والكرامة السورية .
تساءل الدكتور عارف دليله في احد ندوات الثلاثاء الاقتصادية,هل في سوريا إدارة اقتصادية ؟ ؟هل نستطيع الحديث في سوريا عن اقتصاد وطني؟
فكانا الرد على تساؤلاته :
في سوريا اقتصا دان:اقتصاد لا يعرف الأزمة والركود في ازدهار دائم في وفرة دائمة لا بل في حالات الأزمة والركود يزداد اكتنازا. واقتصاد القلة الساحقة إذ ازدهر اقتصادها أم مال إلى الركود , فهي في حالة فقر متزايد فأوضاعها لاعلاقة لها بالوضع الاقتصادي العام ,وإنما تتحدد أوضاعها بسياسات رسمية تطبق على مدى عقود بشكل منظم ومحكم
0وان كانت تلك السياسات قد وزعت فتات على عامة الناس من خلال أشكال مختلفة ,فهذه السياسات تحولت بشكل جزئي في السنوات الخمس الأخيرة نحو تحطيم مقومات الاقتصاد الوطني وأفقرت المجتمع وهجرت قواه الحية وصادرت مستقبل الأجيال القادمة.
وفي سوريا أصبح الوضع النموذجي المعتاد للمواطن أن يكون أما حاكما أو محكوما .أما أن يكون لا حاكما ولا محكوما فهذه وضعية غير مفهومة لا من قبل الحاكمين ولا من قبل المحكومين ,أن تكون حاكما عند أي مستوى كان ,من مستوى الشرطي …الخ .يعني أن تكون طليقا من الضوابط تجاه المجتمع وتجاه القانون ,تقول للمحكومين ما تشاء وتفعل في مصالحهم ماتشاء دون أن تسألهم أو ترجع إليهم في شيء في روما العبودية قبل 2000 عام كانوا أسياد العبيد يختارون لإدارة مزارعهم الأكثر خبرة في الزراعة والأكثر قبولا من قبل العبيد ,أما في سوريا في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين فلم يعد شرط الكفاءة وشرط القبول من العبيد ضروريين في من يتمطون لإدارة مزارع العبيد وأسياد العبيد الجدد الذين ليس لهم علاقة بالاقتصاد الوطني ,بل لهم علاقة باقتصادهم الخاص وليس الإنتاجية من بين شواغرهم لان مصادر ثرواتهم لا تتوقف على وضعية الاقتصاد وعلى مستوى الإنتاجية والربحية ,بل في الأزمات والكوارث يمكن إن تكون مداخلهم أكثر منها في الرواج والازدهار.
لقد بقيت سوريا لعقود طويلة محكومة بين منظومة الحاكم والمحكوم ,إما أن تكون لسوريا منظومة مستقلة أي معارضة فهذا يجعلك في نظر الحاكمين خائنا وفي نظر المحكومين شاذا ولهذا كانت سوريا تعيش خارج العصر .لهذا أتت الحركات الاحتجاجية الحالية للخروج من حالة الاختناق لتلك المنظومات التي حبس فيها النظام الشعب السوري وأغلق عليه منافذ الحلول ,في عصر أصبحت فيه وهم الحرية مجرد الوهم وليست الحرية بحد ذاتها أفضل من أية نظام استبدادي ,فتصور حال السوريين الفاقدين للحرية والكرامة وأصبح حال 40% من سكانها يرزحون تحت خطر الفقر.
إن الاختناق الطويل والمزمن لقوى الشعب ساهمت في تدمير الاقتصاد السوري ,إن السياسات الممنهجة والمتبعة أخلت بأهم قوانيين الاقتصاد وركائزه وأهدافه وهو الاستثمار الأمثل للموارد النادرة والمحدودة نسبيا للوصول إلى أعلى الفوائد وبأقل التكاليف ,ومن ثم توزيع عادل نسبيا للثروة.
لقد توقف الاستثمار الحقيقي الإنتاجي منذ أكثر من 20 عاما وان نصيب الفرد من الناتج القومي في سوريا اليوم اقل منه في عام 1980 ,في بلد يمتلك مقومات بشرية ومادية كبيرة نسبيا . ولم يستوعب الحاكمين إن النهوض بالاقتصاد الوطني ليست بالمراسيم ,بل بالشعب المحرر من القيود بالديمقراطية وبالإعلام الحر المفتوح وحرية التنظيم والرأي .
لقد كانت مشكلة الاقتصاد في سوريا هي سياسية بالدرجة الأولى ولم يتم الاعتراف بها حتى تاريخه وعلى الرغم من التضحيات الجسام الذي قدمه الشعب السوري في ثورة الحرية والكرامة ليستعيد وعيه وروحه وقواه ومعنوياته.
مآل الاقتصاد السوري ؟
كنت في موضوع سابق قد كتبت عن الفساد وعلاقته بإعادة إنتاج النظام في سوريا ,وان الاقتصاد السوري يعاني من أزمة هيكلية بنيوية ستؤدي إلى تدني في نسب النمو ونصيب الفرد من الناتج القومي وتدني الإنتاجية وزيادة في حجم العاطلين عن العمل ,وان انتشار الفساد وحدته عطل عمل المؤسسات العامة والخاصة وعلى تدفق الاستثمار المحلي والعالمي وان تزايد وتيرة الضغط الحكومي من خلال عمليات الجباية /لتغطية العجز في الموازنة العامة للدولة /زاد من حجم الاحتقان لدي المواطنين وقطع الطريق على صلة التواصل بين الحكومة والمواطنين ودفعهم إلى التهرب من دفع الضرائب وعدم احترام القوانين والمراسم التي كانت تصدر بشكل دائم ,وكنا نتوقع انهيار اقتصاديا في السنوات العشر القادمة.
إلا إن انطلاق حركة الاحتجاجات منذ آذار الماضي أثرت بشكل متسارع على أداء الاقتصاد السوري الذي كان يعاني بالأصل من مظاهر الركود التضخمي .وهذه بعض الأرقام والمؤشرات التي تعكس حالة التدهور التي باستمرارها ستؤدي خلال الأشهر الثلاثة القادمة إلى كارثة اقتصادية:
تحويل القسم المتعلق بالإنفاق الاستثماري في الموازنة العامة للدولة إلى الإنفاق الجاري مما سينعكس على الاستثمار الحكومي والأخص في البنية التحتية واثر ذلك على فرص العمل للشباب الذين هم في اشد الحاجة إليها ستظهر نتائجها في المستقبل المنظور.سحب المستثمرون العرب والأجانب أرصدتهم من البنوك السورية تخوفا من الأوضاع السيئة الراهنة والمحتملة لأداء الاقتصاد السوري .مع توقف عقود الاستثمار المبرمة مع الجهات السورية
انخفاض نسبة صادرات المنتجات السورية بنسبة اكثر من 50%بسبب الحصار المفروض على بعض الشركات السورية إضافة إلى ارتفاع تكاليف أنتاج بعضها الأخر بسبب انقطاع التيار الكهربائي المتواصل وارتفاع أسعار المستوردات الداخلة في أنتاج هذه المواد المعدة للتصدير ,في ظل الطلب المتنامي على السلع العسكرية ,سيخلق عجز في الميزان التجاري الذي سيدفع البنك المركزي إلى توفيرها من احتياطي البنك المركزي الذي هبط من 22 مليار دولار الى 10 مليار على احسن تقدير الذي يكفي فقط 9 اشهر اخره لإمداد الحملة الامنية والعسكرية والموالين من الشبيحة و على دعم الليرة السورية التي تشكل دعما للتجار الموالين .وهو يسعى إلى الاستدانة من الخارج , من إيران التي تعاني هي بالأصل من أزمة اقتصادية او العراق او روسيا والصين.
لقد دعما النظام التجار على حساب الصناعيين (حيث الليرة القوية تعني مستوردات اقل تكلفة للتجار وتصديرا أكثر تكلفة للصناعيين ) مما ساهم في تدمير الصناعة الوطنية وعلى حساب الاحتياطي من العملات الصعبة .
ان الطلب المستعر على العملات الصعبة وخاصة الدولار الأميركي بسبب من حالة التخوف من إفلاس المصارف والتضخم الذي أصاب الاقتصاد وهروب رؤوس الأموال نحو الخارج مع حالة الهلع التي رافقت فقدان المواد الأساسية (المازوت والغاز ….وغيرها)وسعي المستهلك لتخزين اكبر كمية ممكنة من المواد الغذائية شكل ضغط بالطلب على العملات الصعبة ,فادى ذلك إلى ارتفاع قيمتها بالنسبة لليرة السورية ,فكان الاستمرار بدعم الليرة بضخ العملات الصعبة مكلفا جدا و استمراره سيؤدي إلى فقدان الاحتياطي .وكل ذلك ترافق مع توقف تصدير النفط السوري إلى الأسواق الأوربية وبنتيجته خسارة النظام الحاكم حوالي ثلث الايرادات من العملات الصعبة ,إضافة إلى النقص الحاد في الموازنة العامة للدولة من إيراداتها الضرائبية بعد تخلي أغلبية الشعب السوري عن دفع الضرائب المتربة.هذا وغيره دفع الليرة السورية إلى الانخفاض بحوالي 51%من قيمتها ونتوقع في الأشهر الثلاثة القادمة وصول سعر صرف الليرة السورية إلى 150 ليرة مقابل الدولار الواحد حيث من المرجح أن لاتعمل الحكومة إلى دعم الليرة فهي بحاجة الى تلك الأموال للنفقات العسكرية والأمنية المتوقعة.بل من المتوقع أن يتم التمويل عن العجز في الموازنة بإصدار كميات جديدة من الأوراق النقدية الغير مغطاة بالذهب أو العملات الصعبة ولا مدروسة بالمعايير الفنية المربوطة بنسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي وهذا سيقود إلى .
كارثة اقتصادية محتمة مع استمرار نفس النهج العسكري والأمني ,ستكون الدولة غير قادرة على دفع حتى أجور موظفيها التي تآكلت بالأصل بسبب ارتفاع الأسعار وهذا سيقود إلى
زيادة في أعداد المتظاهرين والمعارضين للنظام مما يعنى توسع مناطق الاحتجاج وبالتالي توقف قطاعات اقتصادية عن النشاط الإنتاجي وهكذا دواليك ضمن حلقة مفرغة لن يكون الخروج منها إلا بزوال النظام.
…. باحث وأستاذ جامعي