الامبريالية لم تفلح بالتشويش على قناة ‘الدنيا’ والبوطي سبق الناس للمطالبة بالاصلاح… لكن بهدوء!
خطيب بدلة
(القصة في سورية بسيطة ومعقدة)… هكذا يقول المسؤولون السوريون الذين جاؤوا على سفينة النبي نوح، قبل بضعة آلاف من السنوات، ونزلوا على هذه الأرض، وعاشوا فيها دهوراً، حتى انتهت الحرب العالمية الأولى باتفاقية المرحومين المغفور لهما الحاج محمد سايكس، وأبو عبدو بيكو.
ورُسِّمَت حدود سورية الحالية، ففتحوا أعينهم، وعركوها، فلم يجدوا أقنية تلفزيونية أرضية، ولا فضائية، فما كان منهم إلا أن أرسلوا خطاباتهم إلى الصحف القليلة الموجودة في مصر الشقيقة التي دخلت إليها أولُ مطبعة استعمارية على البغال العسكرية الخاصة بالحاج عبد الجبار بونابرت، قالوا لهم فيها: نحن الحكام السوريين، الصامدين في وجه الإمبريالية.. عفواً، لم تكن الإمبريالية معروفة يومئذ.. الأصح أنهم قالوا لهم: نحن الحكام السوريين الصامدين في وجه المخططات، والمؤامرات الاستعمارية التي تُبَيِّتُها لنا دوائرُ الحلفاء الأوروبيين.. نحب أن نُعلم حضراتكم بأن هذه المؤامرات تريد نهب خيرات بلادنا المعطاءة، واقتلاعنا من عمق التراب الوطني.. وهي لن تزيدنا إلا صموداً ومنعة.. إلخ.
.. وفي الخمسينيات- يا شباب- صار عندنا إذاعة (راديو)، وكان هذا من حسن حظ (الثورات) الشعبية التي بدأت تترى على الأرض السورية، ثورات على الرجعية، ثورات على الاستعمار، ثورات على الإمبريالية التي حولها المرحومُ ستالين و(زلمُه)، بخطاباتهم النارية المعادية لها، إلى حقيقة واقعة، وكلها ثورات تستمر حتى النصر، وحتى آخر نقطة دم في عروق الثائرين.. والبلاغ رقم واحد لكل واحدة من تلك الثورات التي سماها المغرضون (انقلابات).. كان يَدْحَضُ، عبر الإذاعة الوطنية، مشروعيةَ الحكم الذي كان قبله، الخائن، المناور، المرتبط، العميل، الذي يريد تسليم البلاد لقمة سائغة للاستعمار، والصهيونية (التي أصبحت هي الأخرى، في تلك الأيام، حقيقة واقعة)، ويَعِدُ الشعب السوري بالخبز، والحرية، والصمود، والتحرير (المقصود تحرير فلسطين التي ضاعت- يا حسرتي عليها- من كثرة الثورات).. ويضيفُ بأن المجلس الثوري الأعلى، لأجل ترسيخ نظام الحرية الموعود هذا، سيضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بمقدرات الشعب، وماضي الشعب، وحاضر الشعب، ومستقبل الشعب!
والانقلاب، عفواً، أقصدُ ‘الثورة’.. كان ينجح، فيخرج المواطنون السوريون إلى الشوارع، بعد أن يجدلوا المناديل الخاصة بالدبكة في بيوتهم، يدبكون، ويهتفون، ويُسَقِّطون النظامَ البائد، العميل، العفن، ويُعَيِّشون النظام الثوروي، الطليعي، التقدمي الجديد.. دواليك حتى إن المؤرخ بشير فنصة وصف لسان الشعب السوري في تلك الأيام بعبارة تقول: (القادم نعطيه رَقْصة، والذاهب نعطيه بَعْصة)!
وسورية التالية
قد تبدو المقدمة التي قرأتموها أعلاه بعيدة عن طبيعة زاويتنا ‘الفضائية’ هذه، ولكنني، مستفيداً من حالة (التكويع) الموصوفة في تلك المقدمة، أستطيع أن أوصلكم، بعد تكويعتين، أو ثلاث، إلى الزبدة.. وهي أن الشعب السوري الذي جَرَّب الانقلابات، وشنف آذانه بأصوات المارشات العسكرية، والبيانات التي تحمل الرقم (1)، هو نفسه الذي جَرَّبَ، في الخمسينيات، الصحافة الحرة، والتعددية الحزبية، والحكم المدني البرلماني الذي يعمل فيه، لأجل الوطن، كلٌّ من فارس الخوري المسيحي، وشكري القوتلي السني، ومحسن الأمين الشيعي، وعدد لا بأس به من الشخصيات الدرزية والاسماعيلية، من العرب، والأكراد، والأرمن والشركس.. ولكن.. فجأة، ومن دون سابق إنذار، أخذت الرياح القومية، رياحُ الوحدة العربية تهب على البلاد، وأخذ الناس يتسابقون لطلب الوحدة مع الأخت الشقيقة الكبرى مصر، للسبب نفسه، الخاص بمقاومة المؤامرات الاستعمارية والصهيونية.. إلخ.
ويجيء نظامُ الوحدة (اللي ما يغلبها غلاب) مشترطاً إلغاء الأحزاب، وإلغاء التفكير، وإلغاء التعددية، ويبدأ ببناء السجون والمعتقلات، والتنكيل بكل من يمتلك رأياً، أو خطاباً مغايراً لخطاب الجموع الغفيرة الهاتفة (من المحيط الهادرِ.. إلى الخليج الثائرِ.. لبيك عبدَ الناصرِ)، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، واستبدلت الآراء التي كانت متباينة في الشارع السوري، بالهتافات الموحدة، وبدلاً من مديح العمل، والبناء، والتطور، والعلم، أخذ الناس يمدحون القائد التاريخي، الملهم، الفذ، جمال عبد الناصر، ثم أجروا نقلة نوعية إلى الأمام، إذ توقفوا عن مديح مناقبه، وسجاياه، وأخلاقياته النادرة، وأصبحوا يمدحون لونَ بشرته! بدليل أن الشعب السوري، بعد الانفصال، خرج إلى الشارع وهو ينادي: بدنا الوحدة باكرْ باكرْ.. مع هالأسمر عبد الناصر!
وأما قانون الطوارئ
واستنتج الحكام الذين تعاقبوا على هذه البلاد المناضلة، بالتجربة، والممارسة، وتراكم الخبرات، أن السبيل الوحيد لدحر الأعداء وإفشال مخططاتهم الدنيئة، لا يكون إلا باتحاد، وتضافر، وتناغم ثلاثة معطيات رئيسية ينبغي أن تكون موجودةً على الأرض، أولها قانون الطوارئ الذي يُحَوِّل كل ذي صاحب رأي، أو حق، أو مطلب، إلى مناوئ، متآمر، يشكلُ خطراً على أمن البلاد، وينبغي انهاؤه، أو إخفاؤه، أو إبادته، وثانيها إيجاد مؤسسات أمنية قمعية قوية، تعمل على تطبيق قانون الطوارئ، فتملأ البلاد بالسجون والمعتقلات، والأقبية، والخوف، والأنين، وثالثها وجود إعلام (جماهيري- شعبي- قومي) يواكب ما يفعله رجال الأمن بالناس، ويسوغه، ويحلله، ويجعله مطلباً جماهيرياً لا غنى للبلاد عنه.. فكانت المحطات الأرضية التي تبث، في الليل والنهار شعارات الصمود إياها، وتتحدث عن المؤامرات والغزوات الثقافية إياها.. إلخ.
والفضائيات
وجاءت الفضائيات، في أواخر القرن العشرين، لتترجم عبارة عادل إمام الشهيرة (الحكاية كبرتْ أوي يا رجالة).. إلى واقع ملموس، باهر، لا يأتيه الباطل من أي مكان.. وبدأت كل واحدة من القنوات الفضائية العربية تلهث من أجل إثبات أن النظام الذي تمثله هو الأفضل، والأنسب، والأكثر وطنية، وحكمة، وشجاعة، وتصدياً للعدو الصهيوني..
وسورية، موضوع حديثنا،.. التي لم يكن فيها سوى قناة أرضية شاحبة تبث أربع ساعات في اليوم، صارت لها قناة فضائية تبث أربعاً وعشرين ساعة، وأخرى للدراما، وثالثة للأخبار، ورابعة تعليمية، وفي تصريح للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي قال إن السيد الرئيس بشار الأسد وعده بإنشاء فضائية دينية.. وانبسط يا عمي البوطي.. لن تحتاج في المستقبل أن تنتظر من يستضيفك على فضائيته، لتقول للناس الذين قُتل أبناؤهم في الشوارع، ما قلتَه على الفضائية السورية قبل أيام، بأنك سبقتهم في المطالبة بالإصلاح.. ولكنك طالبت بهدوء، ومن دون أن تخرج إلى الشارع!
والدنيا خير
وفي خضم الأحداث التي تشهدها الأرض السورية اليوم.. تم اكتشاف جهات، أغلب الظن أنها مدفوعة من قبل بندر بن سلطان، والبيت الأبيض الذي رصد مليارين من الدولارات لإسقاط النظام في سورية – على حد تعبير المناضل ناصر قنديل الذي استضافته الفضائية السورية، وحلف يميناً معظماً أنه يعرف تفاصيل تلك المؤامرة – قامت تلك الجهات المشبوهة بالتشويش على قناة الأورينت، التي تهتم بتغطية الأحداث السورية، وقناة ‘بردى’ المعارضة، ولكن تلك الجهات، لم تتمكن من التشويش على قناة (الدنيا) التي لا تمتلكها الدولة، ومع ذلك تتسابق مع الفضائيات الحكومية اليوم لرصد المُسَيَّرات الجماهيرية (العفوية) ونقلها على الهواء مباشرة، وترديد كليشيهات الإعلام السوري الذي أسسه الوزير الأسبق أحمد اسكندر أحمد التي ما تزال معمولاً بها، من أن عصابات مسلحة، لا يدري أحد من أين جاءت، ولا كيف دخلت إلى بلد الأمن والأمان سورية، وشرعت تطلق النار على المتظاهرين المحتجين، الذين قالت عنهم الدكتورة بثينة شعبان، في مؤتمرها الصحافي الذي بثته الفضائيات السورية وغيرها، إنهم أناس لهم مطالب مشروعة، وقال فاروق الشرع إنهم أناس لهم مطالب مشروعة، ولكن، ومع ذلك، ترى الجميع يرددون اليوم، بأن المظاهرات السلمية يستغلها المتآمرون، والمندسون، والمخربون، والعصابات التي يدعمها سعد الحريري، وبندر بن سلطان، ويقولون، تصريحاً، أو تلميحاً، بأن الشعب السوري غبي، بدليل أنه ينفذ تلك المؤامرات، ويُقتل من أجلها، من دون أن يعيها، فهو غر، مغرر به!..
أحد الخبثاء المغرضين قال: قناة الدنيا مثل المتظاهرين.. إذا كانوا محتجين يطالبون بالحرية تقتلهم العصابات.. وإذا كانوا مؤيدين لا أحد يمسهم!.. ومن ثم فإن الإمبريالية، بكل جبروتها وثقلها، لم تفلح في التشويش.. على قناة (الدنيا)!
قاص وكاتب من سورية
القدس العربي