الانتحاريون اللبنانيون بين جغرافيا الأحقاد وأناشيدها/ محمد أبي سمرا
هل تحولت العمليات الانتحارية أداة حربية شبه أهلية في بيئات الأحقاد والثارات المتناسلة مديدا في لبنان؟ كيف يمكن وصف هذه البيئات، وما يعيشه أهالي الانتحاريين وعائلاتهم؟ ولماذا انتقلت ظاهرة الداعية السلفي أحمد الأسير من حالة شبه “إكزوتيكية” و”فولكلورية” إلى حالة “جهادية إنتحارية”؟
أمام منزله المحترق على طرف بلدته البيسارية، والمولود فيها من أب فلسطيني وأم شيعية من البلدة نفسها، قال هشام المغير – وهو والد نضال المغير (22 سنة) الذي شارك في العملية الانتحارية لتفجير مقر المستشارية الثقافية الايرانية في بئر حسن – إنه كان مقاتلا في “حزب الله” في حرب تموز 2006. وعلى رغم الكارثة التي حلت به وبعائلته يقول إنه لا يزال ينتمي الى الحزب الشيعي، ربما من باب كتمانه الشقاق الموجع والأليم الذي يتشبث بنفسه وهويته في بلدته.
أسيريون انتحاريون وحرائق
فالبيسارية بلدة ساحلية في منطقة الزهراني، غير بعيدة من صيدا (17 كلم جنوبا) ومن المخيم الفلسطيني فيها، عين الحلوة. سكانها غالبيتهم من الشيعة، تخالطهم أقلية سنية كبرى من الفلسطينيين والسوريين ولبنانيي القرى السبع الحدودية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1948. حين وصلنا الى البلدة ظهيرة السبت في 15 آذار الجاري، لم نجد المغير في منزله، الذي كان عمال سوريون يقتلعون من أرضه البلاط الاسود المحروق، ويعيدون تبليطه، فقالوا إن صاحب المنزل ذهب ليصلي صلاة الظهر في مسجد حي يارين في البيسارية. يارين قرية جنوبية حدودية سنية سمّي الحي الذي يتكاثر فيه سكنهم في البلدة الشيعية باسم قريتهم التي وفدوا منها. وقال العمال البلاطون إن سوريين كثيرين مثلهم يعملون ويقيمون في البلدة منذ 10 سنين، لكنهم بعد تدفق موجات اللاجئين السوريين الى لبنان، أخذوا يلتزمون البيوت التي يقيمون فيها، فلا يخرجون منها بعد الثامنة مساء، التزاماً منهم قرارا بلديا محليا يمنع تجول السوريين ليلاً في البلدة.
الزميل أحمد منتش، مراسل “النهار” في صيدا، ودليلنا في زيارتنا البيسارية، كان قد روى في “نهار” 21 شباط الماضي، وقائع إحراق منزل هشام المغير، فكتب أنه لم يكن قد “مضى وقت طويل على نشر الجيش اللبناني صورة أحد الانتحاريين المفترضين في تفجيري المستشارية الإيرانية في بئر حسن في 20 شباط الماضي، وعلى التأكد من أنها للفلسطيني نضال هشام المغير الذي توجه والده الى أحد المراكز العسكرية لإجراء فحص الحمض النووي، حتى عمد عدد من أبناء البيسارية والجوار الى محاصرة منزل المغير في حال من الغضب والهتاف ضد التكفيريين، فوصفوهم بالصهاينة الجدد، فيما كان أبناء عائلة المغير قد غادروا جميعاً منازلهم وتواروا”. روى منتش أيضاً أن أبناء عائلة حمادة، وهم من قرية يارين المقيمين في البيسارية، غادروا منازلهم وتواروا أيضاً، بعدما تردد في البلدة احتمال أن يكون الانتحاري الآخر المشارك في تفجيري المستشارية من آل حمادة. ذلك أن صورة أحد شبان هذه العائلة ظهرت في قائمة ذيّلت بعبارة “تلامذة الأسير”، وضمت ستة أسماء. وذكر مراسل “النهار” أن أحد انتحاريي التفجيرين السابقين أمام السفارة الإيرانية، هو الفلسطيني موسى محمد الأحمد، المقيم مع عائلته في البيسارية.
إننا، اذاً، حيال ما قد يكون “ظاهرة أسيريّة إنتحارية” في البيسارية التي فرّ عدد من شبانها الفلسطينيين واللبنانيين السنّة بعد “الاقتلاع المسلح” الدامي لهذه الظاهرة من مسجد هلال بن رباح في عبرا، ضاحية صيدا الشرقية، وملاحقة أتباعها ومريديها ومطاردتهم واعتقالهم. قبل وصولنا الى منزل المغير المحترق، رأينا الى جانب الطريق الرئيسية في البيسارية سيارة محترقة أمام منزل لآل الأحمد. أما الحريق في منزل هشام المغير، المحوط بحديقة والمؤلف من طبقتين، فأتى أيضاً على ثلاث سيارات: رانج روفر جديدة الطراز، وسيارتي فان يستعملهما مع ابنه البكر، شقيق الانتحاري، في توزيع الخبز في البيسارية والقرى المجاورة. هذا فيما كان الانتحاري نضال يعمل في حدادة السيارات وطلائها في ورشة في الطبقة الأرضية من المنزل.
عمران بلا نسيج اجتماعي
البيسارية بلدة غير قديمة العهد في سهل زراعي ساحلي، تجمّع فيها خليط سكاني من هويات أهلية وبلدية غير متجانسة. موجات التهجير والنزوح المتعاقبة منذ “النكبة” الفلسطينية (1948)، والأحدث زمناً، من العوامل المشتركة في هذا الخليط. زائر البلدة يلاحظ أنها تفتقر الى نواة سكنية قديمة متماسكة ليتدرّج العمران والسكن انطلاقاً منها وحولها. حتى سكن الأكثرية الشيعية وإقامتها لا يبدو عليهما القِدم وشكل من التنظيم، بل يشيان بأن العمران انتشر كيفما اتفق، على مثال العمران الفوضوي والعشوائي وكتله الكبرى المحدثة على طول الساحل ومرتفعاته القريبة بين الاوزاعي ومدينة صور. المعروف أن جماعات من الفلسطينيين وأهالي القرى السبع وسواهم من “الرحّل”، نشرهم التهجير والنزوح والترحال في هذا السهل بين الزهراني وصور، حيث عملوا في الزراعة لدى كبار ملاّك البساتين، وأنشأوا مع المهاجرين الجنوبيين الشيعة تجمعات سكنية زراعية سرعان ما توسعت فوضوياً على حساب الاراضي الزراعية. هذه التجمعات المتسارعة غير قديمة العهد على الساحل. فالطرق المتفرعة من الشارع الرئيسي في البيسارية، والمؤدية الى نواحيها السكنية المتناثرة، غير مفلوشة بالإسفلت. تناثر البناء الجديد كله، يشي بأن نمط العيش والإقامة بلا نسيج اجتماعي بلدي يقيم شبكة علاقات متوائمة بين السكان. فالبيوت منتشرة وفقاً لعشوائية لا أثر فيها الا لإرادة كل من يرغب في البناء على أرض كانت زراعية، وفقاً لحاجاته وقدراته المادية. لذا تبدو هذه البيوت أشبه بمضارب من الإسمنت والحجر على المنحنيات والتلال والروابي التي غادرت طابعها الزراعي على نحو مفاجئ.
بؤر الشقاق والعداوات
حال الاجتماع وأخلاطه السكنية لا تختلف عن حال البناء والعمران، بل هي وليدتها، وعلى صورتها ومثالها. سكنٌ وظيفي خالص وفي العراء، لا ينشأ عنه اجتماع ولا حياة اجتماعية ولا نسيج اجتماعي، ما خلا مواصلة السكان لهوياتهم المتضاربة ورسمهم حدودها في المكان ودوائر السكن الناشئة كما في الارض المشاع.
وإذا كان شقاق الهويات الإسلامية قد ظل خافتاً وبارداً حتى انبعاث حركة “امل” الشيعية وسيرها في ركاب السياسة السورية الأسدية ضد سياسات “فتح” الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، فإن ذلك الشقاق دخل في منعطف جديد وانبعث قوياً غداة اغتيال رفيق الحريري وما أعقبه من احتقان سني – شيعي، بلغ أشده مع هجوم “حزب الله” على بيروت في 7 آذار 2008. أما في صيدا وجوارها فقد ولّد تعملق الحزب الشيعي وتجبّره، ظاهرة الداعية السلفي أحمد الأسير التي بدأت، حسب وصف حازم صاغية، “إكزوتيكية” و”فولكلورية”، وانتهت دموية في 2013، على خلفية حروب “حزب الله” إلى جانب النظام الأسدي ضد الشعب السوري الثائر.
هكذا بدا للناس غير الشيعة أن سلوك الحزب الشيعي اللبناني وسياساته الحربية لا تظهره إلا في صورة إمارة أو ولاية حربية للطموح الأمبراطوري الإيراني في المشرق. وظهر أيضاً أن مقاومته إسرائيل كانت في خدمة ذلك الطموح، نسجاً على منوال قومجي عروبي، أسدي وصدّامي، يتوسل بالتعبئة لمحاربة إسرائيل بهدف تثبيت سلطانه الاستبدادي الشمولي في الداخل.
الشذرات القليلة التي ذكرها هشام المغير من سيرته، تُظهر ملامح من مصائر الحروب الملبننة المتناسلة وآثارها في الاجتماع وشقوقه: والده فلسطيني تزوج من شيعية في البيسارية. هو ولد ونشأ وتزوج من فلسطينية في البيسارية. في كلامه تختلط اللهجة الجنوبية الشيعية باللهجة الفلسطينية. في زمن صعود المقاومة الفلسطينية، كان مقاتلاً في إحدى منظماتها. نسبه الفلسطيني – الشيعي المختلط، أهّله ليكون في صفوف “حزب الله”، بعد الاحتلال الإسرائيلي وانهيار المنظمات الفلسطينية في 1982. في حرب تموز 2006 كان مقاتلا في الحزب الشيعي المقاوم. إحدى بناته الخمس تزوجت من شيعي في البيسارية. وسط تفاقم الاحتقان الشيعي – السني جذبت دعوة أحمد الأسير، إبنه الأصغر، نضال، الذي أخذ يتردد مع أمثاله من فتيان البيسارية، إلى مسجد هلال بن رباح في عبرا، غداة الثورة السورية. شبان حركة “أمل” و”حزب الله” في البلدة استفزتهم الظاهرة الأسيرية، واجتذابها مريدين من الفتيان السنّة اللبنانيين والفلسطينيين، فأخذوا يتوعدون مريدها بالويل والثبور.
إنجازات الأسد و”حزب الله”
إنه قدر هذه البيئات وشبّانها في بلاد الشِقاق والحروب الأهلية، جيلا بعد جيل، حينما لا يجدون سبيلا إلى تصريف فتوتهم المراهقة إلا في انتسابهم إلى منظمات وأجهزة وحركات دعوية متناسلة ومتنابذة. وإذا كانت هذه المنظمات والحركات الدعوية قد ظلت تكتم عداواتها وتلجمها، وتصرّفها أحياناً في الهوامش وخارج بيئاتها السكنية والأهلية (كأفغانستان والعراق) حتى حرب تموز 2006، فإن سكرات “حزب الله” وحركة “أمل” بانتصاراتهما منذ العام 2000، وتوظيفها في خلق جسم طائفي متجانس ومرصوص من أقصى لبنان إلى أقصاه، أشعرت كل من لا ينتمي الى هذا الجسم بالاختناق والحصار والمهانة والخصاء في البيئات الأهلية والشعبية غير الشيعية.
فعلي بركات الذي تتكاثر على شبكة “يوتيوب” أناشيده الحربية تمجيداً لـ”حزب الله” وإنتصاراته، أنشد لـ”قمصان الحزب السود” الشهيرة غداة الثورة السورية قبل سنوات، قائلا: “نحنا الحزب الغالب/ بنتحدى الموت وما بنهاب/ من إصبع إيدك (حسن نصرالله، طبعا) بيخافوا/ لما بعتمة ليلن (ليلهم) شافوا القمصان السود”. في مقابلة معه مبثوثة على موقع “مختار نيوز”. في شبكة الأنترنت، يعلن المنشد: “بدنا (نريد) القمصان السود تشكل رعب، حتى تكون رادع لأي شخص بيفكر يتطاول على سلاح المقاومة”. هذا، فيما يشكل تكاثر مثل هذه الأناشيد على الشبكة العنكبوتية “عالماً تحتياً”، موازياً للوقائع اليومية، ويصب زيت الأحقاد والرعب والمهانة على جمر الجزر السكنية السنية والفلسطينية المختنقة وسط دوائر السكن الشيعي الكبرى.
في البيسارية وأمثالها من التجمعات السكنية، وجد بعض الفتيان والشبان السنّة في ظاهرة الأسير صوتهم ومتنفسهم، فأخذوا يحجّون الى مسجده في عبرا كمريدين وأنصار للخلاص من يتمهم الاجتماعي والأهلي والشخصي، وللرد على سكرات المجد والقوة الفائضة التي يصليهم بها “حزب الله” وجمهوره المستنفر على مثال حربي مرصوص. في هذا السياق يبدو “الخطاب الديني السلفي” لأحمد الأسير استعارة شكلية للتحصن والرد على الخطاب الحربي المرصوص الذي حوّل “المقاومة” عقيدة حربية شيعية دائمة. بين عشية وضحاها انتقلت هذه “المقاومة” لقتال الشعب السوري الثائر على الاستبداد الأسدي. وفي عملية الانتقال هذه انتظر “حزب الله” النظام الأسدي كي ينجز قتل عشرات الألوف من شبان سوريا الثائرين سلمياً، أو تشريدهم أو اعتقالهم، وتحويل ثورتهم ثورة إسلامية طائفية جهادية مدمرة. إذذاك أعلن الحزب الشيعي اللبناني حربه على “التفكيريين” في سوريا ولبنان. كأن ما أنجزه النظام الأسدي في سوريا، يعدنا “حزب الله” بأن ينجز مثله في لبنان.
هكذا لم تُترك الظاهرة الأسيرية على حالها “الإكزوتيكية” و”الفولكلورية”، بل عُبّدت لها الطريق كي تتحول ظاهرة “جهادية” حربية، قتالية وانتحارية.
في بلدته البيسارية، وفيما هو يعمل في ورشته لحدادة السيارات أمام منزله، أخذ شبان شيعة يداومون على إهانة نضال المغير والاعتداء عليه، بعدما أطلق لحيته الأسيرية، قائلين له إنه تبع الداعية الجديد كي يقوم بعملية انتحارية. وإذ فعلها نضال، بعد اقتلاع ظاهرة الأسير اقتلاعاً دموياً، وفراره مع سواه من مريدي الداعية، أحرق الشبان إياهم منزل أهله.
في هذه الأثناء كان المنشد علي بركات يحدّد أناشيده. فإلى ما سمّاه “لطمية المد العلوي تفجر”، أنشد “أحسم نصرك في يبرود/ يا “حزب الله” برجالك جود”. أناشيد الحرب هذه تستسقي مثلها، فظهر على الشبكة العنكبوتية نشيد جهادي حربي أشد عنفاً وشناعة: “إحنا اللي (نحن الذين) بالدم نجود/ والتمكين من الله آت/ حلمك نصرك بيبرود/ أوهامك يا حزب اللات/ أحفر قبرك في يبرود. يا ضاحية الذل انتظري/ أشلاء وبدون رؤوس/ صبي الدمع ثم اعتبري/ من يبرود ومن رنكوس”.
إدمان الحرب
إننا، إذاً، على حافة المذبحة، إن لم نكن قد بدأنا التوغل فيها. كأن العمل “الجهادي القاعدي” (نسبة إلى القاعدة)، في طريقه إلى مغادرة سريته المهاجرة المعتمة، ليتوطن ويصبح عملاً أهلياً يعتمد الإرهاب الانتحاري أداة حربية متفشية.
حسام عيتاني في تعليق له في صحيفة “الحياة”، 18 آذار الجاري، نقل عن الكاتب الأميركي كريس هيدجز قوله إن إدمان الحرب لا يختلف عن إدمان المخدرات. وها “مجتمعات بأسرها تقع في قبضة إدمان الحرب. تأسرها أساطير البطولة والتضحيات المبذولة من أجل الجماعة وخرافاتها وقائدها. (…) كل من اللبنانيين لديه واجب مقدس و”زينبه” التي لا يريد أن تسبى مرتين. وكلٌّ يبحث عمّن يمدّه بالسلاح والمال لينضم إلى حلقة مدمني الحرب”.
العمليات الانتحارية الأخيرة في بعض المناطق اللبنانية تضعنا على شفير “حالة عراقية” في لبنان. المسافة الفاصلة بين سرية العمليات الانتحارية واعتمادها سلاحاً حربياً اهلياً، لم تعد كبيرة. الشبان الذين سألناهم في البيسارية ليرشدونا الى منزل آل المغير، قالوا مستغربين مستنكرين إننا نسأل عن “البيئة الحاضنة للتكفير والارهاب”، التي تعيش بينهم.
الأحقاد وثاراتها لم تعد ملجومة ولا مكتومة. إنها تتفشى من سوريا الى العراق الى لبنان، وتتفشى أغانيها وأناشيدها راسمة حدوداً جغرافية للجماعات من أقصى لبنان الى اقصاه: “يا تكفيري مهما طال/ ما تفكر أنو الشمال/ بيحمي وجودك أو عرسال”، أنشد علي بركات.
هل من أملٍ في تدارك المقتلة؟ش
النهار