الانتحار بين الأدب والحياة/ سوسن جميل حسن
انتحار المبدع أم انتحار بطله؟
كثيرة هي انتحارات المبدعين، ولقد كتب عنها العديد، سواء بشكل إفرادي أم بشكل جمعي، كما كتب الكاتب والروائي الإسباني أنريكي فيلا ماتاس سردية عن اثنتي عشرة شخصية مشهورة، اختارت مغادرة الحياة طواعية في كتابه “انتحارات نموذجية”. في عمل يقع بين الرواية والتوثيق، أراد ماتاس فقط أن يكتب عن لحظاتهم الأخيرة، أن يتتبع خيط الحرية هذا في أعمالهم، بدون أحكام وبدون استنتاجات. والأسماء كثيرة ليس مجال عدها أو إحصائها هنا، لكن هل أثارت تلك القصص مهما بلغت أحيانًا من ملحمية إن كان في عيش أصحابها أو إبداعهم أو طريقة انتحارهم مثلما أثارت شخصية الشاب فيرتر للكاتب الألماني غوته؟ فقد سجلت حالات انتحار كثيرة في عدة مناطق أوروبية بعد صدور الرواية، وكان المنتحرون يرتدون لباس الشاب فيرتر نفسه عندما انتحر في الرواية “معطف أزرق وسروال أصفر”. فشكلت هذه الظاهرة مشكلة اجتماعية دفعت ببعض البلدان إلى منع الرواية مثل النرويج والنمسا والدنمارك وبعض المدن الألمانية مما اضطر غوته إلى أن يكتب تحذيرًا على غلاف الطبعة الثانية يقول “كن رجلاً، لا تتبع خطواتي”. بل بعد عرض أحد المسلسلات لوحظ ازدياد عدد حوادث الانتحار بعد الشهرة التي نالتها إحدى حوادث الانتحار، أدى إلى ظهور ظاهرة جديدة عرفت باسم “تأثير فيرتر” أثارت ضجة شعبية في ألمانيا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2009، فقد وصلت نسبة الانتحار في الإحصائيات إلى أعلى مستوى لها بعد حادثة انتحار حارس المرمى روبرت إنكه، حيث سجلت في الأسابيع الأربعة بعد الحادثة 130 حادثة انتحار، ومعظم المنتحرين كانوا رجالًا، فهل ينذر هذا المسلسل بموجة انتحار جديدة؟
حتى لو كان الشاب فيرتر الذي عانى من آلام العشق والحب الميئوس منه، بسبب أن الفتاة التي أحبها كانت خطيبة صديقه وهي لا تريد إنهاء علاقتها به، فما كان من الشاب فيرتر غير إنهاء حياته نهاية تراجيدية، لو كان هو ظل الكاتب، فإن البطولة كانت للشخصية الروائية التي رسمت أو استنبطت ربما من واقع غير منظور حالة تمجد وتخلد سلوكًا بشريًا من هذا النوع. كما العديد من الشخصيات الأدبية الخالدة التي نهل منها علم النفس فوسمت بعض الأنواع من الاضطرابات الشخصية، هكذا كانت شخصية الشاب فيرتر.
الانتحار، أو إنهاء الحياة بقتل النفس، أو بتعريفاته المختلفة بحسب ثقافة كل بلد ومنظومته القيمية وأعرافه ودينه الشعبي، هو إجراء شخصي بقرار يتخذه المنتحر، لكن هل هو قرار شجاع أم حالة يأس وهروب؟ هو ظاهرة عالمية وتاريخية، وبحسب تقارير لمنظمة الصحة العالمية فإن أكثر من ثلثي حالات الانتحار تسجل في المجتمعات الفقيرة أو لدى الشرائح متوسطة الدخل. وإذا كانت الإحصائيات تقدر عدد المنتحرين كل عام بحوالي المليون منتحر، فإن من يحاولون الانتحار يفوق عددهم هذا بعشرة إلى عشرين مرة. وهذه الأرقام قد لا تكون شفافة بما يكفي لتعطي صورة قريبة من الواقع، فكم من حالات الانتحار تحدث في مجتمعات أو دول لا يكترث العالم بها وبمعاناة شعوبها، ألا يوفر الواقع السوري أو اليمني أو الليبي أو العراقي أو الصومالي أو.. أو.. ما يكفي من الأسباب الموجبة للانتحار سواء بشكل شخصي أم عام؟
فالموت هو أكثر ما شغل الوجدان البشري منذ أن أدرك الإنسان ذاته وعرف أن الموت حقيقة لا بد منها فيها ما فيها من الألغاز وما يدفع للقلق والرهبة؟ ألم يكن أكثر القضايا الفلسفية والوجودية التي أربكت هذا الكائن؟ وهو، أي الموت، الوجه الآخر للحياة، بل يشكلان مزدوجة هما قطباها، فإذا استحالت الحياة إلى شيء غير جدير بالنهوض من أجله، كما قال زفاخرمان الكاتب الهولندي الأكثر شعبية، ألا يكون استعجال الموت أرحم من انتظاره؟
في روسيا، ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وقعت أحداث كبرى وتحولات سياسية وثورية طاولت الحياة بكل جوانبها، فازدادت ظاهرة الانتحار، وإذا كان التاريخ لا يذكر بشكل إفرادي سوى حالات الانتحار التي قام بها مشاهير، فلا بد أن مقابل انتحار أولئك المشاهير كانت هناك حالات كثيرة من الانتحارات التي لا يأبه بها كثيرًا الرأي العام لأن أفرادها أشخاص عاديون من العامة أو ربما من الشرائح المنسية في المجتمع. أما أوروبا وما عانته منذ الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية العالمية الثانية فقد أدت إلى انزياحات كبرى على صعيد الثقافة والإبداع، وعلى صعيد المعاناة الفردية أيضًا، وليس أكثر من حالات الانتحار بعد استسلام ألمانيا وتوقيعها معاهدة الاستسلام، ابتداء من انتحار الفوهرر إلى العديد من رموز النازية المنهزمة حينها. أما في العاصمة برلين، فقد زادت نسبة الانتحار في السنة الأولى بعد انتهاء الحرب بنسبة خمس مرات مقارنة بالسنوات التي سبقتها. وكان الدمار الذي خلفته الحرب على مستوى أوروبا كفيلاً بأن يشعر كاتب مثل ستيفان تسفايغ بحجم الخسارة التي منيت بها الحياة بشكل عام في أوروبا فكان نتيجتها انهيار عالم الأمس الذي سعى إلى توثيقه كذاكرة شخصية وذاكرة عامة قبل أن يقدم على الانتحار مع زوجته في البرازيل.
الانتحار في السياق السوري
شهدت سوريا بعد أزمتها ارتفاع معدلات الانتحار عن مستوياتها ما قبل الربيع العربي، خاصةً بين اللاجئين السوريين حول العالم. قد وقعت خلال السنوات الأخيرة عدة حالات انتحار بين السوريين في لبنان، ففي عام 2013 انتحر شاب سوري بالطريقة ذاتها عبر رمي نفسه من إحدى الصخور في منطقة “الروشة”، وفي نيسان 2014 أقدمت سيدة سورية في الخمسين من العمر على الانتحار بطريقة مماثلة عبر قفزها من نافذة منزلها في مدينة صيدا، بينما شهد عام 2015 انتحار سوري يافع في السادسة عشرة من العمر عبر شنق نفسه في منطقة “النبعة”، وفي تركيا سجلت عدة حالات كما في السويد وألمانيا وغيرها. لا يمكن الاستفاضة بشرح كل حالة بمفردها، لكن لا يمكن إغفال القواسم المشتركة بين كل تلك الحالات بغض النظر عن ملابساتها ودوافعها المباشرة أو القصص التي تروى عنها، لا يمكن اعتبار إخفاق شاب سوري أو مراهق في علاقة حب هو السبب الوحيد حتى لو كان هو الظاهر، أو عجز المعيل عن إطعام أطفاله، أو المرأة عن رفض عروض زواج تهين كرامتها إن لم تكن عروض بيع لكيانها، فالسوري تتوزع حياته الوجدانية على مستويات عدة كلها تدفع به إلى العدمية القاتلة، هو مقطوع عن ماضيه، بل منزوع منه بلا رحمة مثل نبتة تخلعت جذورها، هُجّر من بيته ومن بلدته، تشتتت أسرته بين ضحية حرب ومعاق ونازح ولاجئ ومقيم تحت رحمة أطراف وسلطات تدير الحرب غير آبهة به وبجروحه.
ألفى نفسه بعد أن فرّ من الموت أمام موت آخر، موت في دروب اللجوء ومخاطرها، موت في البلدان التي وصل إليها، معلق في فضاء لزج يعاني التمييز حتى في أفضل بلدان اللجوء، ضائع في العيش بين ثقافتين، عليه أن يبدأ بتهجي أبجدية الحياة مثل طفل في أولى مراحله التعليمية، السوري مدفوع إلى الغربة والاغتراب، الغربة عن الذات بالدرجة الأولى، إلى الانزلاق في مستنقع اليأس والعدم، يفقد المعاني ويصارع في اكتساب معان جديدة. ذاكرته متعبة وذاكرة المكان مدمرة، حتى الحنين اضطرب لديه، أحلامه لم تعد كما الأحلام، التفكير في مستقبله اختلف عما خطط له، سقف طموحه انخفض، هويته دخلت في الارتياب، لم يعد السوري واثقًا من شيء، حتى انتماؤه اضطرب، والإحساس بفقدان الوطن هزّ أركانه.
كلها مقدمات تفسر اليأس الرهيب والإحساس بلا جدوى الحياة التي لا يستطيع بعضهم احتمالها، فيسعى إلى اختزال الطريق بينه وبين الموت المتربص به في نهاية نفق الحياة.
شرارة البوعزيزي
عندما أحرق محمد بو عزيزي نفسه، لم يكن يريد أن يسجل بطولة ويصبح رمزًا، ولم يكن يضمر في خلده أن يكون الشرارة التي ستشعل الهشيم العربي. بل في لحظة تاريخية ما توافرت كل الشروط الملائمة ليكون انتحاره حالة تراجيدية يعجز عنها خيال الأدب، لحظة هي برغم تجسيدها المادي الصارخ كانت معنى بؤريًا صبت فيه كل المعاني بسياقاتها التاريخية، بو عزيزي كان صورة مجسدة للكرامة الإنسانية بحمولتها الفائقة من الجروح، الفقر، الحاجة، فقدان الطموح، الحلم، الأمل، فقدان حتى فرصة العيش، وعندما أراد الدفاع عن حقه في العيش تأتي الصفعة القاتلة لما تبقى من كرامة، ليست فقط صفعة السلطة، بل صفعة امرأة في مجتمع بطريركي.
ليس حريقه فقط ما أشعل الضمائر واستثار النفوس الجماعية، بل الصفعة المركزة القصدية الكثيفة الدلالة، صفعة السلطة التي تحتقر الشعب.
وتبقى صورة محمد بو عزيزي، الشاب التونسي ماثلة في وجدان الشعوب المقهورة وملهمة للعديد من الذين انتحروا على طريقته، لما حملت من معان صادمة هزت وعي تلك الشعوب المنغلقة على كم هائل من الآلام التي تفوق آلام الشاب فيرتر، إنها آلام الكرامة المستباحة والأرواح المنهكة، كان انتحاره صادمًا لوعي الشعوب كي تصحو وتصنع حياتها ومصيرها، وليس كانتحار فيرتر، أو كقصة روميو وجولييت. لكن المرحلة بعد بو عزيزي لها أسبابها ودوافعها التي تدفع بالشباب السوري إلى الانتحار بصمت، لا أحد يكترث بموتهم كيفما جاء، ليس الموت السوري أكثر من خبر في زحمة الأخبار، إلا بعض الضجيج الذي تمور به صفحات التواصل فيما لو كان المنتحر مبدعًا سوريًا، أو شخصية عامة، مثل انتحار الراقص حسن رابح في بيروت، ضجيج لا يلبث أن يخبو مثلما يخبو بصيص سراج في اشتعاله الأخير.
الانتحار – البطولة!
وإذا كان بعض المبدعين انتحروا انتحارًا مجازيًا عن طريق أبطالهم، كما انتحار غريغور سامسا في “التحول” لكافكا الذي باعترافه كان يتهرب من الانتحار الواقعي: “لقد عانيت طوال حياتي وأنا أتهرب من الانتحار”، فكم هناك في المقابل من الانتحارات المجازية في الحالة السورية؟ كم من المثقفين انتحروا من دون أن يدركوا، أو ربما أدركوا لكنهم اختاروا الموت المجاني على مذبح السياسة؟ عندما يموت مثقف أو مبدع في وجدان شعبه نتيجة موقف أليس انتحارًا؟ وعندما يتنكر لأفكاره وما راكم من منتج ثقافي ويقف على الضفة المقابلة بعكس أطروحاته، أليس انتحارًا؟ عندما ينحاز إلى طاغية أو إلى عقيدة إقصائية، وعندما يخيّب آمال وأحلام شعب مقهور وهو يرى موته في أعينهم، أليس انتحارًا أيضًا؟ هذا النمط من المثقفين لم ينتحر كما ستيفان تسفايغ، ولا كما انتحر خليل حاوي بعد أن رأى جنازير الدبابات الإسرائيلية تسحق شوارع بيروت، لم ينتحروا مثل ميشيما أو على طريقة الساموراي، رأوا موتهم في عيون المقهورين ولم يفهموا انتحارهم.
يبقى هناك نوع من الانتحار يلزمه دراسة مستفيضة وجهود دارسين من اختصاصات عديدة متضافرة، إنها دراسة شخصية الانتحاري الذي يقتل نفسه من أجل أن يقتل الآمنين فهل هو مقتنع بعالم آخر هو الجنة مكافأة على عمله البطولي؟ وهل هذا النمط الانتحاري هو إحياء واقتداء ببطل تاريخي ربما خلدته أدبيات مرحلة ما من تاريخنا أم إن الأمر أعقد وأخطر من ذلك بكثير؟ هذا الانتحار أعقد من غيره، إنه مرتبط بسياقات تاريخية ثقافية دينية، كما لا يمكن فصله أو اقتطاعه من سياق راهن لحالة الشباب السوري في العقود الماضية، الشباب الذي كانت سنوات الظلم والقهر ومسخ الشخصية الفردية وشل الإرادة وتسخير الطاقات بحسب برامج تخدم النظام السياسي بالدرجة الأولى. الشباب السوري الذي لم يفتح أمامه طريق إلى الحداثة إلاّ من فوق، من سلطة غيّبت مبادرته وقضت على فاعليته، فراحت الفجوة تزداد اتساعًا في أعماقه التي عمّرها الخواء الروحي الذي فتحت له أبواب الملاذات الدينية على مرأى من السلطة الحاكمة، بل بتشجيعها أحيانًا. جيل ورث الهزائم واستمر في عيشه بروح الهزيمة. هذا النمط من الانتحاريين لن يخلدهم الأدب، بل سيذكرهم التاريخ، فهل سيشكلون درسًا من دروسه؟
ضفة ثالثة