صفحات العالم

الانتخابات البعثية: بشّار الأسد يفرز السوريين إلى عٍرقين


وسام سعادة

1 – شيء من التاريخ:

24 تمّوز 1943. روما. ينعقد “المجلس الأعلى للفاشيّة”، أعلى هيئة في الحزب القائد للمجتمع والدولة. الوضع متقهقر على الجبهات ومناخات احتراب أهليّ في الداخل. المجلس يصوّت بأكثريته على منح كامل السلطات للملك فيكتور عمانوئيل الثاني، وبالتالي على تنحية “الدوتشيه” بنيتو موسوليني. من بين الذين صوّتوا على التنحية، كاليازو تشيانو، وزير الخارجية السابق للنظام وصهر “الدوتشيه” نفسه. يجري اعتقال موسوليني بعد ساعات. لكن التاريخ لا يلبث أن يقوم نصف حركة إلى الوراء: في 12 أيلول 1943، تنجح مجموعة كوماندوس ألمانية في تحرير موسوليني، ليحلّ على رأس كيان عميل يُعلَن في شمال البلاد. ففي ميلانو والمناطق الخاضعة للإحتلال الألمانيّ، قرّر موسوليني والملخصون له أنّ سبب فشلهم الداخليّ لم يكن تحالفاتهم مع ألمانيا النازية، بل مساومتهم مع الملكية والبرلمانية والكنيسة والبرجوازية واليهود والقوى التقليدية، فكان ردّهم إعلان “الجمهوريّة الإجتماعية الإيطالية”، وحلّ “الحزب القوميّ الفاشيّ” وتأسيس حزب جديد، “الحزب الفاشي الجمهوريّ”، الذي ابتغى العودة إلى الفاشية الأولى، الفاشية قبل أن ينخرها الفساد بسبب القبول بالمساومات.

2 – شيء من الحاضر:

لا إمكانية للمقارنة بين “المجلس الأعلى للفاشية” والقيادة القطريّة لحزب “البعث”، أو قيادة الجبهة الوطنية، أو قيادة الأركان، أو أي هيئة أخرى في سوريا. ليس هناك لا في العائلة الحاكمة، ولا في العصبية المتغلّبة، ولا في الجسم الأساسيّ للنظام الفئويّ البعثيّ من يمكنه أن يذكّرنا بصهر موسوليني، كاليازو تشيانو، وشجاعته التي دفع ثمنها حياته لاحقاً.

مع ذلك، فإنّ تقويم بشّار الأسد لما هو جارٍ في سوريا منذ آذار 2011 وإلى اليوم، هو نفسه تقويم بنيتو موسوليني بعد أن فكّ قيده وقاد التجربة التعيسة لـ”الجمهوريّة الإجتماعية” في شمال البلاد. كلاهما يعتبر أنّ التحالفات الإستراتيجية، مع ألمانيا النازية أو مع إيران الباسدرانية، كانت عين الصواب. كلاهما يعتبر أنّ الفشل الداخليّ كان بسبب كثرة المساومات. هذا يحلّ الحزب القومي الفاشيّ ليبني حزباً فاشياً جمهوريّاً يعود إلى الطهارة الفاشية الأولى، وذاك يريد من خلال مجزرة “بابا عمرو” أن يعود إلى الطهارة البعثية الأولى.. أيّام مجزرتي مسجد خالد (حمص، 1964) وجامع السلطان (حماة، 1964).

الإختلاف شاسع بطبيعة الحال بين النموذجين الإيطاليّ لعام 1943 والسوريّ لعام 2012، ولا يقبل الإسقاطات، لكنه يدفع بإتجاه المقارنات والتأمّل. في الحالة الإيطالية، اعتقل موسوليني ثمّ فكّ الكوماندوس الألمانيّ قيده. في الحالة السوريّة، هناك كوماندوس إيرانيّ يعمل بكامل طاقته لحماية النخاع الشوكيّ للنظام، ويفيده بما أصبح يتباهى به كمدرسة قمع الثورة المضادة لتلك الظلامية، أي “الثورة الخضراء” التحرّرية للشعب الإيرانيّ المقهور.

مع ذلك، وراء كل الإختلافات البديهية والشاسعة، هناك نقطة تشابه أساسية: موسوليني ينجح بعد عملية تحريره من الأسر في الإنفصال بشمال البلاد، وتأسيس “الجمهوريّة الإجتماعية الإيطالية”، أو “جمهورية سالو”. بشّار الأسد لا ينتظر أسره ولا تحريره ليفعل الشيء نفسه: هو يمضي في تأسيس “جمهورية سالو” التي تخصّه، ويبني كامل سياساته الميدانية على هذا الأساس. الأشكال الهزلية المرضية التي يجترحها أيضاً، إلغاء “البعث” القديم، الدستور الجديد، الإستفتاء، الإنتخابات التشريعية، هي لوضع اللمسات الإنتقالية بإتجاه إعلان “جمهوريّة سالو”.

3 – في موقع الإنتخابات التشريعية السوريّة الأخيرة من الإعراب:

هذه الإنتخابات، وبخلاف كل ما يقوله المنتفضون على النظام، هي حدث مهم. فهي تكشف ما يريده النظام: العمل لفرز السوريين إلى مجتمعين، أحدهما يصلح للدخول في “جمهورية سالو”، وهم الذين يشاركون في الإنتخابات، ويرمز لهم النظام على أنّهم معشر الـ”7195 مرشحاً ومرشحة منهم 2632 يحملون شهادات جامعية”، أما القسم الآخر فيرفض “المشاركة”، وترفضه “المشاركة”.

هنا نصل إلى المرحلة الثالثة من النظريّة “البشّارية”. في المرحلة الأولى، كانت هذه “النظرية” تقول انّ السيطرة على المجتمع السوريّ ممكنة بغلّة دمويّة تنتزع منه بين عشرين إلى خمسين نفراً يومياً. في المرحلة الثانية، صارت هذه النظرية تقول إنّ السيطرة على المجتمع السوريّ ممكنة بعملية حسم مركزيّ في حمص. تبيّن لاحقاً، أنّ “ما بعد الحسم” صار وضعاً أكثر تعقيداً بكثير، فصار الحلّ عند بشّار الأسد، فرز السوريين. الإنتخابات التشريعية محطّة أساسية للفرز. ليس فقط فرزهم بعثيين وغير بعثيين، أو أقلويين وغير أقلويين، لكن فرزهم تماماً إلى مجتمعين و”إنسانين”، ولازمة هذا المشروع وعد منافق بأنّ المجتمع الذي سيسحق الآخر، أي مجتمع الشبيحة، سيمنح لنفسه ديموقراطيّة داخلية من الآن فصاعداً، أي باستعارة نموذج المجتمعات الإستيطانية، التي تبني ديموقراطية داخلية داخل جدرانها، وتعامل الآخرين كبشر من فئة ثانية أو ثالثة، أو كغير بشر.

باختصار شديد، بشّار الأسد في المرحلة الثالثة من نظريّته، قرّر فرز السوريين ليس فقط “عقائدياً” أو “طائفياً”، بل بمعنى من المعاني قرّر أن يصنع فيهم فرزاً جديداً بين عِرقَين يولدان بنتيجة حمّام الدم المتواصل: عرق بشّاري، هو عرق المشاركين في الإنتخابات التشريعية الأخيرة، عِرق السادة والشبيحة، الذي سيمنح لنفسه دستوراً وديموقراطية داخلية ويعود إلى الطهارة البعثية الأولى، في مقابل عرق الإرهابيين والسلفيين والتنسيقيات.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى