الانتفاضة السوريّة: بين عنف النظام وتكالب الخارج
محمد ديبو
لعلّ أهمّ الأسئلة التي تطرح نفسَها الآن على الساحة السوريّة هي: هل ستحافظ الانتفاضةُ على سلميّتها؟ وهل ثمة إمكانيّةٌ للتظاهر السلميّ حين يصبح من يذهب إلى التظاهر كمن يصعد إلى حتفه باسمًا، بلغة محمود درويش؟ وهناك أيضًا أسئلة فرعيّة تتعلّق بالبحث عن عجز الانتفاضة عن الحسم، وعن دور القوى الفاعلة داخليًّا وخارجيًّا، سلبًا أو إيجابًا.
في وصف الحالة الراهنة
تقف سوريا اليوم على حافة الهاوية أو في “النقطة الحرجة،” متوازنةً بفعل قوًى تتصارع داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا. ويأتي “توازنُ الهاوية” أ) داخليًّا، من سلطةٍ مطلقةِ العنف، تواجه شارعًا مصرًّا على تظاهره وسلميّته واستعدادِه للمضيّ حتى النهاية، ولكنْ مع عجز أيٍّ منهما عن الحسم لصالحه؛ ب) وإقليميًّا، من صراع إيرانيّ وتركيّ/سعوديّ على مَن يفوز بحصّة اللاعب الأقوى في المنطقة، ضمن حلفين دوليّين متناقضين، يتمثّل أحدُهما في حلف روسيا ـ الصين ـ الهند، ويتمثّل الآخرُ في حلف أميركا ـ الناتو، وكلٌّ منهما يسعى إلى تحقيق مصالحه بعيدًا عن أحلام الشعب السوريّ وتوقِه إلى الحريّة. فلو كان أيٌّ منهما تهمّه حريّةُ شعبنا لما تفرّج طوال ثمانية أشهر على هذا الدم النبيل يراق على شاشات العهر العالميّة بعد أن دعم الطرفان نظامَ الاستبداد طوال عقود، ولما بقي الشعبُ الفلسطينيّ يُقتل منذ خمسة عقودٍ ونيّف من دون أن يهتزّ رمشُ الضمير العالميّ.
ويزيد من تعقيد الحالة السوريّة ضعفُ المعارضة السوريّة التقليديّة، وتأخّرُها عن مسار الانتفاضة كثيرًا، وتخلّفها عن ممارسة السياسة إلاّ في وصفها محض تسجيلٍ للمواقف. وبدلاً من أن تسعى إلى تجذير الانتفاضة، وتوسيعِ أفقها، وممارسةِ منطقِ الكرّ والفرّ مع النظام لإنهاكه (علمًا أنّ هذا الأخير يجيد لعبة السياسة والقتل معًا!)، نجدها حتى اللحظة تتصارع في مؤتمراتها المتعاليةِ على الشارع أو الهابطةِ عليه بالمظلّة. لقد أثبتت المعارضة، حتى اللحظة، عدمَ ثقتها بقدرة الشارع على الحسم: فاتجهتْ معارضةُ الداخل، منذ بداية الانتفاضة، إلى التفاوض مع النظام مطالبةً بتفكيك بنيته الأمنيّة للانتقال إلى الديمقراطيّة، في حين اتّجهتْ معارضةُ الخارج إلى الاستعانة بالأجنبيّ تحت مسمَّياتٍ كثيرةٍ أبرزُها “الحماية الدوليّة.” ولعلّ التشرذم بين مكوّنات “المجلس الوطنيّ” لجهة تفسير موضوع الحماية الدوليّة، والفرزَ الذي بات واضحًا بين معارضة الداخل والخارج، أصبحا يشكّلان أكبر عاملٍ يهدّد الانتفاضة: فثمة شارعٌ يموت في نبلٍ عزّ مثيلُه، ولكنْ لا قوةَ سياسيّةً تعرف كيف تجعل من ذلك نصرًا من دون أن تستجلبَ الأجنبيّ، ولا كيف تحقِّق شعاراتِ الانتفاضة المتمثّلةَ في الحريّة والكرامة وعدالة توزيع الثروة. ولعلّ ما كتبه متظاهرو بلدة كفر نبّل على إحدى اليافطات يشي بيأس الشارع من معارضته ومن كلّ شيء: “يسقط النظام والمعارضة، تسقط الأمّة العربيّة والإسلاميّة، يسقط مجلسُ الأمن، يسقط العالم، يسقط كلّ شي.” وهذا اليأس، إنْ تمدّد على كامل جسد الانتفاضة، قد يقود إلى حمل السلاح. وهذا ما يريده النظامُ أو أطراف فيه، فهل تدرك المعارضةُ حجمَ كوارثها على الشارع؟
الحماية الدوليّة: حيرة أخلاقيّة ووطنيّة
يقف المرءُ المتفكّرُ في سيرورة الانتفاضة السوريّة أمام حيرةٍ أخلاقيّةٍ ووطنيّة. فمن جهة، هناك شعبٌ يتعرّض للقتل والسجن والذلّ بأبشع صوره، ومن حقّه أن يبحث عن الحماية. هنا يتفوّق الجانبُ الأخلاقيُّ على ما عداه، إذ مَنْ يلوم إنسانًا يستنجد لرفع السكّين عن رقبته؟ ومن يستطيع أن ينظّر عليه بالقول: “عيب عليك أن تطالب بحمايتك”؟ ثمة سفسطةٌ هنا لا معنى لها، خصوصًا أنّ من يشرب الأقداح ليس كمن يَعدّها!
ولكنْ من جهةٍ أخرى، ثمة حيرةٌ وطنيّة، تتمثّل في أنّ الدول التي ستنفّذ الحمايةَ الدوليّة ذاتُ مصالحَ تُناقض مصالحَ سورية الوطنيّة الديمقراطيّة العلمانيّة الممانعة ــ وهذا ليس خاصًّا بمحورٍ دون آخر. وكلُّنا يدرك أنّ الأمم المتحدة، حتى في ذروة إنسانيّتها، لم تكن يومًا إلاّ أداةً لتحقيق مصالح دولٍ بعينها تتقاسم ثرواتِ الشعوب (وثوراتِها) إنْ لم توجد قوًى وطنيّةٌ قادرةٌ على لجم هذا الغول القادم. أما الدول التي تقف إلى جانب الانتفاضة بالتحديد، فهي دولٌ طالما دعمتْ إسرائيل ووفّرتْ لها شروطَ البقاء، وهي التي احتلّت العراقَ ونهبتْ ثرواتِه وتركتْه في مهبّ المجهول (نستثني هنا تركيا التي لها مصالحُ أخرى، على رأسها أن تصبح دولةً عظمى بعد عشر سنواتٍ كما صرح أوغلو)، وهي التي كانت تريد رأسَ المقاومة الوحيدة التي أذلّت إسرائيل، وهي التي لا تريد من كلّ هذا الصراع في سورية سوى تأمين مصالحها ومصالح إسرائيل معها وفق تعويم النموذج الإخوانيّ في المنطقة، بشراكةٍ أمريكيّة ـ تركيّة ـ قطريّة. ولعلّ ما كتبه المفكّر الليبيّ محمد عبد المطلب الهوني، في رسالةٍ موجّهةٍ إلى أمير قطر، تشي بما يخطّطه الغربُ للمنطقة:
“فأنتم يا سموّ الأمير تدعمون فئةً من الشعب الليبيّ على غيرها من مكوّناته. واخترتم المتشدّدين من الإسلاميين، وكان اصطفاؤكم لهم ضدّ رغبة الأكثريّة الساحقة من شعبنا الذي يرفض التطرّف. وكان المؤمَّل منكم أن تقفوا مع الوطن، لا مع فئة منه أيًّا كانت” (موقع الأوان عن موقع إيلاف، 5/10/2011).
نعم، كيف يمْكن دولاً تدعم الانتفاضة حاليًّا، وكانت قد دعمتْ نظامَ الاستبداد عقودًا طويلة، أن تنصر الشعبَ السوريّ الذي يقف حائرًا بين نظامٍ يقتله وخارجٍ قادمٍ لاقتلاع الوطن من جغرافيّته وقضاياه النبيلة وعلى رأسها فلسطين؟ والسؤال الأصعب: كيف تمْكن الاستفادةُ حقًّا من التحوّل في مواقف هذه الدول تجاه النظام، من دون الوقوع في أحابيلها؟
القوى الوطنيّة واستغلال الفراغ
عبر كلّ التحوّلات التي جرت في العالم، كان هناك على الدوام فراغٌ يتشكّل بين قوًى تتصارع في لحظات الأزمة. وكانت القوى الوطنيّة الساعية إلى نيل حريّتها تستغلّ هذا الفراغ للمناورة وانتزاعِ حقوقها.
في بداية القرن العشرين، حاول الشريف حسين استغلالَ الفراغ المتشكّل بين أوروبا الناهضة والرجلِ العثمانيّ المريض. ولأنه لم يدركْ لعبةَ الأمم آنذاك، فقد خرج العالمُ العربيّ من استعمارٍ إلى استعمار آخر. وفي عهد الاستقلالات العربيّة، كانت الحداثة المبتورة التي جاء بها الاستعمارُ قد ولّدتْ هامشًا حرًّا في الداخل مكّن القوى الوطنيّة من بناء كوادرها في الداخل؛ وحين جاءت الحربُ العالميّة الثانية استغلّت تلك القوى الفراغَ الناشئ بين القوى الاستعماريّة المتصارعة، فنالت استقلالها، لتعودَ وتقعَ في شر استبدادٍ مكين. وفي أوروبا، تمكّن جنينُ التنوير من النموّ في الفراغ الحاصل بين السلطتين الدينيّة والملكيّة: فوُلدت الجمهوريّةُ التي أقصت الاستبدادَ الملكيّ، ووُلدت العلمانيّةُ التي أقصت الاستبدادَ الدينيّ.
السؤال الآن: هل في مقدور القوى الوطنيّة السوريّة استغلالَ الفراغ الحاصل بين القوى العالميّة لكسر الاستبداد، من دون الوقوع في فخّ الدول الكبرى؟ الإجابة تتطلّب من القوى الوطنيّة أن تكون موحّدةً، وأن تمثّل الشارع حقًّا.
أسئلة المعارضة
على المعارضين أن يدركوا أنّ أيًّا من مؤتمراتهم لا يحقّ له القولُ إنه يمثّل الانتفاضة. فإنْ أرادوا تمثيل الانتفاضة، فعليهم أن يتوحّدوا أولاً في إطارٍ جامع، على أن يكون الأساسُ هو ما عبّرتْ عنه تجربة “إعلان دمشق”: أنّ معارضة الداخل هي العاملُ الحاسمُ في تشكيل المعارضة، على أن تلتحق بها معارضةُ الخارج وتتبع لها.
وعلى المعارضة (في حال توحّدها) أن تبحث في آليّات تجذير الانتفاضة وتقويتها على أرض الواقع بالتعاون مع قيادات الشارع، لا في البيانات والفيسبوك وشاشات الفضائيّات والمؤتمرات.
وعلى المعارضة أن تعمل على منع ذهاب الانتفاضة باتجاه السلاح أو الحرب الأهليّة التي باتت تشكل خطرًا حقيقيًّا بعد فشل النظام في إشعال الحرب الطائفيّة. وهذا يتطلّب من المعارضة ابتداعَ أساليبَ جديدةٍ لمقاومة النظام، تحافظ على سلميّة الانتفاضة، وتعمل على توسيع رقعتها ما أمكن، والاستفادةِ من ضغط الخارج على السلطة، من دون دعوة هذا الخارج إلى التدخّل في الشؤون الداخليّة، مع تحديد الحماية المطلوبة ـ شكلاً وطبيعةً وأوصافًا وبالتفاصيل ـ إنْ كانت ثمة صيغةٌ تحقّق ذلك فعلاً. بل يطرح بعضُ المعارضين البحثَ في أشكال حماياتٍ أخرى بعيدًا عن صفة “الدوليّة” (فليكن مفهوم “الحماية حاف” كما يقول المعارض لؤيْ حسين) عبر البحث في آليّات تطبيقها داخليًّا وبقوًى حيّة.
كما يجب على المعارضة تقديمُ وثيقةٍ وطنيّةٍ جامعةٍ إلى السوريين بكافّة أطيافهم، تجيب عن أسئلةٍ كثيرةٍ باتت تُطرح، وأجوبتُها معلّقة في الفراغ: ماذا تعني الدولة المدنيّة؟ ولماذا غابت مفردةُ “العَلمانيّة” من خطاب المعارضة فجأةً؟ وهل في مقدور المواطَنة، التي تُعتبر أساسَ الديمقراطيّة، أن تتحقّق من دون اقترانها بالعَلمانية؟ وهل لتغييب العلمانية علاقةٌ بتعويم الإخوان المسلمين وفق ما يريده الغرب؟ وإذا صحّ ذلك، فلماذا هذا التنازلُ أمام الإسلاميين، على ما اشتكى من ذلك أكثرُ من معارضٍ كان على اطّلاع على “طبخات” المؤتمرات الخارجيّة؟ وهل من مصلحةِ سورية فعلاً أن تكون فيها أحزابٌ طائفيّة دينيّة؟ أليس الإخوان حزبًا طائفيًّا بامتياز؟ وهل يعني هذا، في المقابل، حريّةَ تشكيل أحزابٍ علويّة ومسيحيّة ودرزيّة؟
ثم إذا كان من حقّ المعارضة محاسبةُ النظام ورموزه الفاسدة، فلماذا لا يحاسبون أيضًا الإخوانَ المسلمين على “طائفيّتهم،” وعلى وضع يدهم بيد الجزّار رفعت الأسد، وبيد رمز النظام الفاسد والمجهِضِ الحقيقيِّ لربيع دمشق عام 2000 عبد الحليم خدّام؟ ألم تحوّلْ قياداتٌ إخوانيّةٌ الصراعَ في ثمانينيّات القرن الماضي من صراع سلطويّ إلى صراع مجتمعيّ طائفيّ؟ لماذا يعطى الإخوانُ صكَّ براءة على بياض في دولة القوانين المقبلة، خصوصًا مع رفض صدر الدين البيانوني، المراقبِ العامّ السابق للإخوان، تحمّلَ أيّ مسؤوليّة عن وقائع عنفٍ كثيرةٍ كانت جماعتُه جزءًا منها، وفق ما ذكره حازم الأمين (الحياة، 23/10/2011)؟ فلتُفتح الملفّاتُ جميعُها، وليحاكم الجميعُ إذن!
وهنا على المعارضة الوطنيّة أن تدرك أنّ موضوع الإسلاميين بات يثير الكثيرَ من التساؤلات، وخصوصًا بعد الغزل المعلن بينهم وبين الغرب: فالغنوشي طمأن الغربَ وأرضاه؛ وإخوانُ مصر لم يعلنوا أنهم سيلغون كامب ديفيد رغم أنّ الشعب المصريّ بأكثريّته يودّ ذلك. ورئيسُ المجلس الوطنيّ الانتقاليّ الليبيّ، مصطفى عبد الجليل، حدّد في احتفال “تحرير البلاد” أنّ ليبيا جمهوريّة إسلاميّة وأنّ أيّ قانون يعارض الشريعة (مثل قانون تحديد عدد الزوجات) سيتمّ تعطيلُه، متجاهلاً أنّ ذلك ما يحدّده صندوقُ الانتخاب لا هو. يضاف إلى ذلك إلحاحٌ تركيّ ـ أمريكيّ ـ قطريّ على النظام السوريّ كي يوافق على إشراك الإخوان في السلطة؛ وتتولّى محطّةُ الجزيرة القطريّة مهمّة تبيان أنّ الانتفاضة السوريّة ذاتُ ثقل سنّيّ إسلاميّ، في تجاهلٍ تامٍّ لحقائق الواقع!
وعلى المعارضة أن تحدّد رؤيتها من قضايا إقليميّة، تتعلّق بفلسطين والمقاومة وإيران وتركيا وروسيا والغرب، ولاسيّما أنّ الصراع الإقليميّ والدوليّ على سوريا عاملٌ حاسم من عوامل انتصار الانتفاضة أو موتها.
أسئلة كثيرة لا يمكن الوقوفُ في منتصف إجاباتها لأنّ ثمة داخلاً سوريًّا قد يتحرّك وقد لا يتحرّك على وقع هذه الإجابات. ومن دون تحرّكه لن تُحسم الأمورُ وطنيًّا، بل قد تُحسم خارجيًّا! على أننا نؤكّد أنّ وحدة المعارضة وضرورة أن تطرح ما سبق أن اقترحناه لا يعنيان أنّ الأمور ستُحلّ بين ليلة وضحاها. إنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد خطوةٍ في الاتجاه الصحيح، بعيدًا عن بيع الشارع أوهامًا، كالقول إنّ اعتراف الغرب بالمعارضة ممثلاً شرعيًّا أو صدور قرار بالحماية الدولية سيوقفان القتل مباشرة وستنتصر الانتفاضة! فالحال أنّ الانتفاضة السوريّة تواجه مناخًا صعبًا ومعقّدًا جدًّا يتمثّل في قوة النظام العسكريّة، وفي ارتباطاته بملفّات إقليميّة قد تفجّر المنطقة.
يقول البعض إنّ وحدة المعارضة أصعبُ من إسقاط النظام. إنْ صحّ ذلك، وبقيت المعارضة غيرَ قادرة على التوحّد في الوقت الذي يُقتل فيه المتظاهرون، فسيصبح شعارُ قرية كفر نبل (“يسقط النظام، تسقط المعارضة…”) شعارَ المرحلة القادمة!
دمشق
*كاتب سوريّ.
الآداب