صفحات سورية

الانتفاضة السوريّة بين معارضتين


طارق عزيزة

شهور أربعة مضت من عمر انتفاضة الشعب السوري والنظام ما يزال مصرّاً على تجاهل الواقع منتهجاً سياسة التصعيد المستمرّ لللاّ حل الأمني، والتحريض الطائفي على الأرض كما جرى مؤخّراً في حمص، والترويج في إعلامه لمزاعم الإصلاح والحوار، و”الاحتفالات” المؤيّدة، وصولاً إلى تكريس عبادة الفرد!

في المقابل نجد أنّه على الرغم من القمع الوحشيّ الذي حصد آلاف الضحايا بين قتيل وجريح، ورغم المداهمات وحملات الاعتقال المستمرّة التي طالت الآلاف في طول البلاد وعرضها، ناهيك عن حصار المدن والبلدات وتقطيع أوصالها بالحواجز العسكريّة والدبّابات، إلا أنّ المظاهرات تتسع باطّراد ملحوظ، ويزداد زخمها يوماً بعد آخر، سواء من حيث أعداد المتظاهرين، أو لجهة انضمام مناطق جديدة إلى قائمة المناطق المنتفضة.

بالتوازي مع حركة الشارع المتصاعدة، كثُرت مؤخّراً المبادرات واللقاءات والمؤتمرات السياسيّة التي أطلقتها مختلف قوى وشخصيات المعارضة السوريّة في الداخل والخارج، ولم يخل أيّ منها من جدل يسبقها ثمّ يعقب انتهاءها.

الملفت أنّها جميعها أكدت أنّها “لا تمثّل الشعب السوري” وأنّ المجتمعين في كلّ منها “يمثّلون أنفسهم فقط” إلا أنّها أنها “تدعم الانتفاضة” فهي تعتبر نفسها “جزءاً منها”.

ولعلّ من المفردات الجديدة البارزة التي أفرزتها معطيات الانتفاضة الشعبيّة في سوريا، والتي يجري تداولها في الإعلام وفي أحاديث النشطاء والمتابعين، التمييز بين معارضتين: “المعارضة التقليديّة” و “المعارضة الجديدة”.

في هذا التقسيم، يُقصد بالمعارضة التقليديّة القوى والتحالفات والأحزاب السيّاسيّة والشخصيّات المستقلّة من المعارضة السوريّة، بمختلف ألوانها الأيديولوجيّة، القومية والإسلاميّة والماركسيّة، كأحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي، وإعلان دمشق، والإخوان المسلمين، وبعض التيّارات والشخصيّات الإسلاميّة واليساريّة الأخرى، وشخصيّات أكاديميّة وفكريّة وغيرها، والتي يعود تاريخها ونشاطها السياسي إلى ما قبل الانتفاضة بعقود.

في حين تحيل تسمية “المعارضة الجديدة” إلى الشباب المنتفضين على الأرض والناشطين عبر مواقع الإنترنت. تعبّر عنهم بشكل أساسي “لجان التنسيق المحلّية” و “اتّحاد تنسيقيّات الثورة السوريّة” إضافة إلى عدد من المواقع الإلكترونيّة، وبالأخص صفحات الثورة على موقع الفيسبوك. البعض من هؤلاء ينحدرون من أوساط المعارضة التقليدية، إلا أنّهم ينتقدون أداءها ويعملون بالتنسيق مع شباب الانتفاضة على الأرض. وتتوزّع المعارضتان بين ما يسمّى “معارضة الداخل” و”المعارضة في الخارج”.

في الخط العام يتّفق الجميع ـ التقليديّون والجدد، في الداخل والخارج ـ بأنّهم يعارضون النظام القائم ويسعون للخلاص من الاستبداد، وبناء دولة مدنية ديمقراطية في سوريا، إلا أنّهم يختلفون في تفاصيل ذلك، وفي جزء غير قليل من مضمونه.

إذ أن خلافات واختلافات بين المعارضتين، وأخرى ضمن كلّ منهما، تتعلّق بمقاربة المرحلة الحاليّة كالموقف من الحوار أو التفاوض مع النظام، ومن الدور الذي قد يلعبه الخارج، مثلاً. وأخرى تخص المرحلة القادمة، حول مستقبل البلاد وشكل النظام السياسي الجديد لسوريا ما بعد الانتفاضة. الأمر الذي من المفترض أن يكون دليل حيويّة وعافية، خصوصاً إذا أردنا التأسيس لنظام ديمقراطي تعدّدي يُبنى على التنوّع، ويغتني بالاختلاف.

لكنّ الواقع لا يشير إلى ذلك، فقد زاد تباين وجهات النظر من الانقسامات في صفوف المعارضة ـ المنقسمة أصلا ـ ولا يبدو، مع الأسف، أنّها تتّجه في المدى المنظور نحو الارتقاء إلى مستوى اللحظة التاريخيّة الراهنة، كما إلى التاريخ النضالي والتضحيات المشرّفة التي قدّمتها المعارضة طيلة عقود.

ففي المعارضة التقليديّة تتراوح المواقف بين الداعين إلى إسقاط النظام في الشارع ورفض أي صيغة يكون النظام فيها جزءاً من المرحلة الانتقاليّة، إلى من يرى الاستفادة من ضغط الشارع للوصول إلى إمكانية الانتقال السلمي للسلطة، من خلال التفاوض مع النظام على مرحلة انتقالية تُجنّب البلاد مخاطر الفوضى التي قد تنجم عن إسقاط النظام في الشارع. رؤيتان لا يبدو أنّ حظوظ التقائهما كبيرة.

وعلى مستوى المعارضة الجديدة، هناك من يصرّ على احتكار تمثيل الشارع واستبعاد أي حلّ سياسي بوجود النظام، وبالتالي لا يعوّل على ما تقوم به المعارضة التقليديّة من نشاط سياسيّ بغضّ النظر عن مواقفها، وصولاً إلى تخوينها أحياناً. وفي المقابل يوجد من يقولون أنّهم ثوّار وميدانيّون وليسوا سياسيين، ولا يجدون ضيراً من التنسيق مع الحراك السياسي بالتوازي مع خط الشارع لتحقيق أهداف الانتفاضة. ولا شكّ أنّ للحضور الأمني المكثّف دور في الحدّ من قدرة التنسيقيّات في المدن المختلفة على التواصل المباشر على الأرض للخروج برؤية سياسيّة مشتركة، وموقف موحّد من المعارضة التقليديّة وجهودها السياسيّة، كما أنّ لاختلاف البيئة الاجتماعيّة وتفاوت المستوى الثقافي والوعي السيّاسيّ وتأثير الأيديولوجية بين النشطاء الميدانيين على الأرض أساسيّ في تباين المواقف فيما يخصّ الجانب السياسيّ من عمل المعارضة.

اللافت أنّ عشرات الألوف التي تنزل إلى الشوارع والساحات السوريّة، تهتف للحرّية وإسقاط النظام وتقدّم الضحايا يوميّاً، باتت بحسّها العفوي وإصرارها على الاستمرار في التظاهرات، لا تبرمج تحرّكاتها لا على إيقاع الحراك السيّاسي، ولا على دعوات الفيسبوك أو النشاط الإعلامي للتنسيقيّات ـ على أهمّية كليهما ـ ذلك أنّ أحداً لا يستطيع أن يوقف هذا المدّ الشعبيّ المتنامي أو أن يحدّ من انتشاره.

إلاّ أنّه بالإمكان، بل ومن الضرورة بمكان العمل على تركيز زخم الشارع ومحاولة توجيه حركته في الاتجاه الذي يخدم قضيّة التغير الوطني الديمقراطي في سوريا، القضية التي تحظى أو تكاد بإجماع أطياف المعارضة السوريّة كافّة. الأمر الذي لا بدّ منه لقطع الطريق على أصوات تنعق من وراء الحدود بخطابٍ ظلاميّ طائفي مدفوع بأموال نفطيّة، وأخرى تسعى جاهدةً لتكرار السيناريو العراقي أو الليبي، فقط للوصول إلى السلطة، ولو على ظهور الدبّابات الأمريكيّة.

من زاوية نظر سياسيّة، نجد أنّ محصلة ما تقدّم، تعطي نتيجةً لا تصبّ في مصلحة الانتفاضة الشعبيّة، ولا إنجاز المهام الإنقاذية التي تتنطح لها قوى المعارضة الوطنيّة، بل ربّما يزيد من ابتعاد الأخيرة عن دائرة الفاعليّة السياسيّة في الشّارع، والتي من المفترض أن تسهم في توجيه مسارات الحركة المتسارعة باتجاه تشكيل ملامح سوريا الجديدة.

إنّه الوقت الذي يُحتّم على الفرقاء جميعاً الوفاء لدماء الضحايا وآلام المعتقلين وأحبّائهم، والتعالي على الخلافات الأيديولوجيّة والشخصيّة والمصالح الحزبيّة الضيّقة، والخروج بصيغة توافقٍ سياسيّ ينسجم مع حركة الشارع، ويلبّي المتطلّبات السيّاسيّة التي تفرضها المرحلة المقبلة، كما الحاليّة التي قطعت فيها حركة الشعب السوريّ أشواطاً هامّة على طريق استعادة حرّيته وكرامته.

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى