الانتقام من حلب
عمر قدور
إثر انقلابه في عام 1970، قام حافظ الأسد بزيارته الوحيدة إلى مدينة حلب. هناك، في فندق “لو بارون” وسط المدينة، التقى بفعاليات المدينة طامحاً بنيل رضاها؛ مستمعاً أكثر مما تكلم محاولاً تقديم نفسه بمظهر المعتدل مقارنة برفاقه البعثيين الذين انقلب عليهم. هناك أيضاً التقط المصور الحلبي الأرمني أول صورة له ستُعتمد وتُروّج على نطاق واسع وهو بالزي المدني، ومع أن حافظ الأسد حظي بشهرة كبيرة لاحقاً إلا أن ذلك المصور لم يفرد لصورته مكاناً ضمن الصور التي يعرضها في واجهة مشغله، وأيضاً قلّما يشير أحد الى الأسد عند الحديث عن لائحة الشرف لفندق لو بارون العريق، تلك اللائحة التي بقيت صدارتها لأسماء مثل شارل ديغول وأغاثا كريستي.
لقد قامت براغماتية حافظ الأسد حينها على مغازلة البرجوازية المدينية التي كانت تبدي التململ من راديكالية صلاح جديد وأنصاره، وبالطبع لم يغب العامل المذهبي عن حسبانه، لكن بالتأكيد لم يكن ذاك الجنرال الطامح بالسلطة ليفهم هذه الطبقة التي خرج منها سياسيون ليبراليون، ومنهم نائب عُرف بزهده بالرئاسة هو الرئيس الأسبق ناظم القدسي. الجدير بالذكر أن ناظم القدسي، الذي عُرف طوال حياته النيابية بالتصدي لتدخل العسكر في السياسة، توفي في المنفى عام 1998 في الوقت الذي كان فيه مشروع توريث السلطة في سوريا يمضي على نحو حثيث، ولم يورد إعلام النظام أي خبر عن وفاته، لأن فكرة وجود رئيس سابق منتخب ديمقراطياً تتعارض جذرياً مع النظام، بخاصة عندما يكون المعنيّ حقوقياً بارزاً اكتسب تحصيله العالي من جامعات دمشق وبيروت وجنيف.
من المرجح أن الأسد الأب أخطأ الظن حين فهم صمت المدينة واستكانتها على أنهما تسليم ورضا بحكمه؛ الواقع أن تصدي الأخوان المسلمين للسلطة في نهاية السبعينات لقي شعبية لا بأس بها، وإن كانت ذات دلالة على نقمة الأهالي أكثر من كونها دلالة على تغلغل الفكر الأخواني. فالمدينة، التي ستُعرف بدءاً من الآن بميلها إلى المحافظة، كانت قبل حكم البعث معقلاً لحزب الشعب ذي التطلعات الليبرالية والوحدوية معاً، أما التدين الشائع فيها فهو التدين الشعبي البسيط أو التدين المقترن بالزهد وبالطرق الصوفية وحلقاتها. في حلب ثمة هارموني يصعب على هكذا نظام استيعابُه؛ التدين بمعناه الروحي واحد من ركائزه، إنما ليس الإسلام السياسي الذي حاربه النظام بعد أن أوجد له كل مسببات الانتشار.
لقد أثبتت مواجهة الثمانينات فشل الأسد في استيعاب الطبقة المدينية، وبدلاً من مراجعة الدرس لجأ النظام إلى الأسلوب الوحيد الذي يعرفه وهو الانتقام. أولاً تم قمع التحركات الشعبية بكافة الوسائل الأمنية، بما فيها الإعدامات العشوائية العلنية، ومن ثم تم إرهاب المدينة بمحاصرتها تماماً وتفتيش بيوتها بيتاً بيتاً بغية التنكيل بالأهالي وتأديبهم. أما الجزء التالي فكان الأكثر تأثيراً وديمومة، فإثر القضاء على الإخوان أحكم النظام قبضته بقسوة على المدينة مستهلاً عقداً ونصف من التهميش الاقتصادي والإذلال الإداري، وأيضاً من إباحة المدينة لرؤساء الأجهزة الأمنية الذين صاروا المرجع الأوحد لكل ما يتعلق بتفاصيل العيش. لقد بطش الأسد الأب بحلب مستهدفاً بالدرجة الأولى إفراغها من أهميتها الاقتصادية، ومن ثم محاربة سكانها عموماً بالمستوى المتدني للخدمات العامة، وفي المحصلة تمكن بجدارة من تخريب نسيجها الاجتماعي والاقتصادي، وإن لم يصل به الأمر إلى تدمير عمارتها على نحو ما يحدث اليوم.
يمكن القول إن الجسور باتت مقطوعة بين حلب ورأس النظام حتى أصبح مشروع التوريث واقعاً، حينها عاد الأسد إلى مدّ الجسور عبر أبنائه، وبداية عبر ابنه البكر باسل، وكأنه كما توسل رضا المدينة عام 1970 من أجل رئاسته شعر بالحاجة إليها من أجل استقرار الحكم لوريثه. هذه المرة لم يغازل النظام برجوازية المدينة المعروفة تقليدياً، بل راح يقيم صداقات وتحالفات مع شريحة الأثرياء التي نشأت في أثناء حكمه، ومن المؤكد أنه لا يحتاج كثير عناء لرشوة هذه الشريحة. من خلال زيارات أبنائه المتكررة إلى حلب، راح الأهالي يسمعون بأسماء جديدة لعائلات مقربة للحكم، عائلات لم تكن معروفة من قبل لكنها اكتسبت شهرة بسبب ثرائها المفاجئ واقترانها بأضواء السلطة. مع ذلك لقيت زيارات الأبناء ارتياحاً في بعض الأوساط الشعبية، إذ توسمت فيها تغيراً في نهج النظام الانتقامي حيال المدينة، بخاصة عندما تقدّم الرئيس الحالي مشروع التوريث إثر وفاة شقيقه الأكبر، فكثف من زياراته وظهوره العلني في المدينة وأسواقها في الوقت الذي أقعد فيه المرض الأسد الأب وبات هو الرئيس الفعلي. حينها، ووسط السوق الأثري القديم، هتف له التجار: “يا أبا حافظ.. غيّر لنا المحافظ”. وكان المحافظ قد أزعجهم بفساده، وبالأتاوات التي يفرضها عليهم. وبالفعل استجاب الوريث لمطلبهم، فأعفى المحافظ من منصبه ليُعيّنه رئيساً للحكومة مع التنويه بنظافة يده!
لم تنقطع زيارات الوريث إلى حلب بعد أن نُصّب رئيساً، ورغم أن المدينة لم تشهد اهتماماً حكومياً يعوّض سنوات التهميش والإقصاء إلا أن شعوراً بالارتياح ساد في البداية، مصدره التخلص أخيراً من العقاب الذي فرضه الأب. ويبدو أن الرئيس الابن من ناحيته قد شعر بأنه تمكن من رشوة المدينة عبر تلك المظاهر الشعبوية كالحضور المفاجئ لبعض فعاليات المدينة، أو التواجد المفاجئ في بعض إداراتها؛ ربما كان حرياً القول إنه اعتقد بقدرته على شراء ولاء المدينة بأرخص الأثمان.
على هذه الشاكلة سارت الأمور، وقبل أشهر قليلة لم يكن بوسع أحد توقع ما وصلت إليه المواجهة في حلب، بل على العكس مما يحدث الآن دأب النظام على ترويج فكرة موالاة حلب له، وظلت المدينة لنحو السنة محط استياء وسخرية الناشطين بسبب لامبالاتها الظاهرة تجاه المجازر التي تُرتكب في مدن أخرى. في الواقع كانت الأنظار تتجه إلى حلب منذ بداية الثورة بسبب مواجهتها القديمة مع النظام في ثمانينات القرن الماضي، وكان النظام أكثر إدراكاً لانقضاء المفاعيل المباشرة لتلك المواجهة، لكنه كان مخدوعاً للمرة الثانية إذ اعتقد أن بوسعه رشوة المدينة بالفتات وعزلها عمّا يحدث حولها في البلد ككل. نعم، من المؤكد أن الإبن حظي بمحبة نسبة لا بأس بها من الأهالي، بالقياس إلى شخصية الأب الذي عوّل فقط على كونه مرهوب الجانب، وفي هذا دلالة على تخطيهم لما يروّجه النظام عن طائفيتهم، إلا أن هذه المحبة لم تكن صكاً دائماً كما يظن.
بالإضافة إلى كل العوامل التي تجعل من خسارةِ حلب خسارةً فادحة للنظام، هناك شيء شخصي لا يمكن تحييده، وعلى أساسه قد نفهم ما روجته صحيفة موالية عن ذهاب رأس النظام لقيادة معركة حلب بنفسه؛ إنه الانتقام. قد يبدو هذه التوصيف خارجاً عن السياسة، وهو كذلك حقاً، لكن شتى أنواع الدمار، بل لنقل ذلك البطر في إيقاع الدمار، لا يصدر إلا عن إرادة قوية في الثأر. في حلب يتم تدمير كل مقومات الحياة الراهنة والمستقبلية؛ ثمة أحياء صارت أنقاضاً تماماً، المرافق العامة على سيئاتها تم استهدافها وتدميرها. المدينة الأثرية، التي تعد من أكبر المساحات المحتفظة بنسيجها العمراني القديم، يتم تقويضها بشكل متواصل. القلعة الأثرية، التي تحوي معبد الإله حُدد، حُوّلت إلى ثكنة عسكرية، والأسواق الأثرية المحيطة بها اختبرت المعنى الحرفي لـ”الأسد أو نحرق البلد”.
للإنصاف، ليست المرة الأولى التي تعرف فيها حلب مثل هذا الدمار، لقد حصل ذلك سابقاً عندما رفضت فتح أبوابها أمام تيمورلنك فانتقم منها بإباحتها بعد تمكنه من هزيمتها. يومها دمّر التتار نصف المدينة؛ نصفها فقط، لا كلها كما يفعل الانتقام البغيض لتتار اليوم.
المستقبل