الانتلجينسيا ترسم والناس يلوّنون: ماذا بعد الهدم؟
منذر بدر حلوم
كثيرا ما تشتغل النخب الثقافية على هدم بنى الاستبداد بتناولها النقدي المركّز والمتتالي والمديد للبناتها لبنةً لبنة. لكنها في سياق التناول وإنشاء الكلام تغفل عامل التلقي المتباين تباين البشر ومداركهم وأفهامهم وثقافاتهم وتجربة حياتهم وأوجاعهم ونقاط ضعفهم ورغباتهم وأهدافهم. وما يحصل بالنتيجة، يبعد، أحياناً، عن الهدف الذي يشتغل عليه المثقفون، بل يناقضه ولا يكون ثمة مجال لإصلاح الخطأ الحاصل. فالأخطاء بحق الشعوب لا تصحح على الورق. ولا صور الأوطان قابلة للتجميل بالألوان.
وهكذا، وما لم تتم عناية فائقة بالقول وتحديد مراميه، تتم عند المتلقين أثناء استنهاضهم ضد الظلم والقهر والفساد والإذلال مطابقة هذه القيم السلبية ليس مع النظام الذي تستهدف الكتابة ويستهدف القول هدمه أو تغييره، إنما مع البلد أو (الوطن). هذا الأمر كان بالغ الوضوح في الأداء الثقافي أثناء التحضير للبيريسترويكا وأثناء تحضين الرفض والإنكار والخروج والأشياء الضامنة لاكتمال حلقتها النهائية. تمت المطابقة هنا كلّياً بين البلد ونظام الحكم. صار كل شيء شمولياًُ في أعين متلقي الإنتاج الثقافي البيريسترويكي، بما في ذلك الخبز واللحم ووسائل النقل والمنتجعات والمصحات ودور العجزة وساحات لعب الأطفال وأماكن لهوهم الصيفية على شواطئ الأنهار والبحيرات والبحار، ومثلها صار المسرح والسينما والشعر ومركبات الفضاء… صارت أفضل المنجزات، التي تعترف بها حتى ثقافة الاستنهاض الانقلابي أو البيريسترويكي وتعلي من شأنها بين السطور صارت سلبية ودافعة إلى النفور والهجرة.
ليست العلة هنا في أن يتمنى المرء لأعدائه العيش في حقبة التغيير. تلك الحالة التي يرى فيها البعض لعنة، فيما يرى فيها بعض آخر، وأنا منهم، هبة من التاريخ أو من الطبيعة أو الله. ألم نكن قد يأسنا من إمكانية المشاركة في صناعة التاريخ. كنت، في تلك السنوات، أقتل العناكب بأفضل الطرائق الممكنة في مختبري على خط حصار لينينغراد، خط انكسار النازيين، أقتلها غير آبه لقدسيتها وكان المذياع يقتل آخر حب للاتحاد السوفياتي في عقول مستمعيه وأرواحهم. وكان نجوم الثقافة يتحدثون عن فظاعة العيش هنا، مضمرين، حتى لو لم يعلنوا ذلك، روعته هناك.
هذه الـ(هناك) اشتغل عليها مثقفون كبار من أبناء عمومتنا المعششين في أرضنا إلى أن يعدهم يهوه بغير أرض، ويحوّل غرب لا أخلاقي ذلك الوعد الأسطوري إلى واقع. لم يسلم حتى المناخ هنا من أداء الثقافة.. حتى الثلج الذي يعشق بياضه الروس ويعشق صوت تحطم بلوراته تحت المزالج الرياضيون وحتى الغابات.. صارت الرمال البعيدة أفضل منها بكثير. أتذكر هنا صديقي الكاتب سيرغي دانيلوف صاحب قصة (عودة إلى حيفا) المتشابهة العنوان مع رواية غسان كنفاني (عائد إلى حيفا) وليس فقط العنوان، مع فارق جوهري في أن الروسي يخرج إلى فلسطين وما أكثر السخرية من رواية الخروج والتيه في قصة دانيلوف القصيرة – يخرج إليها بعد بحث طويل وجاد تقوم به القصة عن سبب وجيه يعلل الخروج فلا تجد غير المناخ لقضاء فترة العجز هناك. ومن أجل أن يسترخي عجزتهم هناك على شبابنا أن يموتوا عاجزين هنا. يجب أن يكون كل شيء بشعا هنا وجميلا هناك حتى لا يتردد الواحد بحزم أمتعته. ألم تفعل لودميلا أوليتسكايا حائزة البوكر الروسي ذلك في روايتها (المخلص لكم شوريك) الصادرة بعد انقضاء البيريسترويكا، ولكن ليس بعد انقضاء الحاجة إلى هجرة اليهود الروس نحو فلسطين، حيث تحتشد الكراهية المزدوجة للبلدان التي تمت هجرتها ولشعوبها من جهة وللشعوب العربية من جهة أخرى.
ومن أجل أن يتحقق الانقلاب الأكبر في التاريخ نحو الأسطورة كان لا بد من جعلنا قبيحين إلى أبعد الحدود. ألم يشتغل على ذلك مثقفون غربيون كبار في الأدب والمسرح والسينما، فإذا بصورتنا لا تثير إلا القرف والنفور، وإذا بصورة قضيتنا لا تنفصم عن صورتنا. هنا، قامت النخبة الثقافية الغربية بخيانة مبادئ الثقافة وقيمها خيانة مبدئية وموعاة جيداً. وفي التحضير لهدم الاتحاد السوفياتي، لعبت النخبة الثقافية الروسية دوراً أدى إلى نتائج كارثية ليس أقلها هجرة ملايين الأدمغة من الـ(هنا) القبيحة المسدودة الأفق إلى الـ(هناك) الجميلة الواعدة.
واليوم، يقوم بعض من النخبة الثقافية – السياسية، وغالباً في غفلة من خدع الضوء والصوت، بإنتاج صورة جمعية عن سورية وعن الشعب السوري لا تخدم بالمحصلة النهائية مكانة سوريا الغد في العالم، ولا تلقى القبول الذي يؤسس لعلاقات صداقة واحترام متبادل وندية مع الشعوب الأخرى. فكل يُجّمل صورة بطله بالتضاد مع صورة خصمه. الخصم، مجرم متوحش قاتل أطفال ونساء وشيوخ، مغتصب، حاقد، أعمى القلب، معدوم الضمير، بيده بلطة تقطع الأجساد.. قذر.. عديم الرحمة والرأفة.. وهكذا، فإذا بصورة السوري، كل سوري، التي يكوّنها الإعلام وينشرها ويعممها بعيدة عن أن تثير التعاطف والإعجاب. نصف الشعب، والأصح القول نصف النخبة الثقافية السياسية يصنع صورة بطله على نيغاتيف خصمه، أي على نيغاتيف النصف الآخر. فإذا بالسوري كله نيغاتيف. وإذا بصورة سورية لا تشجع ملايين السوريين المشتتين في جهات الأرض الأربع على العودة. وإذا بنخبنا تؤدي فعلاً، ليس فقط لا يخدم أهداف الثورة في الإعلاء من شأن السوري وتعزيز كرامته وتحرير عقله وإطلاق قدراته، بل في تشويهه بما يخدم كل عدو محتمل، تشويهاً سيكون من الصعب إزالة قبحه بالكلمات والألوان وبحيل الضوء. أتلك خيانة تقوم بها النخب لقيم الثقافة أم غفلة؟ لن تكون الإجابة مطمئنة إذا جاء من يقول إن الثقافة غائبة عن الفعل هنا ولا معنى للحديث عن دور لنخب ثقافية في حالتنا!
لا مكان للحديث عن الغريزة في هذا المقال. أم إنّ الإعلام يشتغل على الغرائز موهماً مئات الملايين بعلاقته بقيم الثقافة؟ السؤال برسم النخب صانعة الصور أو الغافلة عنها أو الساكتة لعللٍ ليس بينها مصلحة المشرعين صدورهم، المطلقين قلوبهم، الناشرين أرواحهم نحو أكسجين الحرية.
(كاتب سوري)
السفير