راتب شعبوصفحات سورية

الانغلاق السياسي


    راتب شعبو

تظهر انتخابات مجلس الشعب الأخيرة في سوريا حقيقتين، الأولى أن النظام يدير ظهره للمجتمع السوري ويجري الانتخابات “بمن حضر”، من دون الاكتراث للمقاطعة السياسية والشعبية الواسعة، بما يشبه التحدي الصريح للمجتمع ولا سيما القسم الثائر والمقاطع منه وهو القسم الأوسع. الثانية أن النظام لا يستطيع أن يتحمل الابتعاد عن طبيعته القسرية والتمييزية حتى ضمن دائرة مؤيديه. فبالرغم من كون المرشحين هم من المؤيدين حصراً، مع تفاوت الدرجات والتلاوين، لم يتجرأ النظام على قبول نتائج انتخابات حرة بين مؤيديه. ليس هذا فقط بل رشح النظام ودعم وأنجح – بكل الوسائل التي أتقنها نظام ديكتاتوري ذو ديكور تمثيلي على مدى عقود طويلة – من بين أتباعه ومستفيديه، العناصر الأبعد عن معايير النزاهة والمسؤولية وترجيح الصالح العام.

المفارقة هي ازدياد التقوقع والانغلاق السياسي أمام ازدياد شدة الضغط والرفض الشعبي لنمط من الحكم أثبت مراراً، ويؤكد يومياً، أنه ثابت على نهجه الاحتكاري للشأن العام واستخفافه بحقوق الناس وكرامتهم وأرواحهم، بما يتماشى مع تشبيه طريف يقول إن النظام الديكتاتوري حين تستقر له الحال على شعب، يصبح كالرجل الذي داس على لغم، فهو يعرف أنه سوف ينفجر به حين يرفع رجله عنه.

غير أن هذه المفارقة تبدو، زائفة، ليس فقط لأن الانحطاط السياسي والأخلاقي جزء من الطبيعة الجوهرية لكل نظام ديكتاتوري، بل أيضاً لأن عجز النظام عن المرونة يدفعه إلى أن يلجأ، حين يشعر بالتهديد، إلى البضاعة الفائضة لديه، وهي القوة الأمنية والعسكرية، ويقتصر الدور السياسي له على تسويغ اللجوء إلى العنف. النظام الديكتاتوري هو نظام هجومي واستباقي من الناحية الأمنية، ودفاعي دائماً من الناحية السياسية. ما تبديه لنا الأيام أن شدة انغلاق النظام الديكتاتوري تتناسب طرداً مع شدة التهديد الشعبي الذي يتعرض له.

مع بدايات تصدع المنظومة الاشتراكية وعقب سقوط نظام تشاوشيسكو في رومانيا وما تسبب به ذلك من رجفة خوف في أوصال الديكتاتورية السورية، ليس فقط بسبب الصلات القوية والقديمة بين البلدين وإنما أيضاً للتشابه بين شكل الحكم هنا وهناك، شهدت سوريا انتخابات مجلس الشعب الخامسة (أيار 1990) في ظل حكم الأسد الأب. حينذاك، وتحت ضغط التغيرات العالمية ذات الطابع الديموقراطي، أجرى النظام تعديلات ملموسة للإيحاء بجدية النظام في التغيير وتليين احتكار السلطة. فزاد عدد أعضاء مجلس الشعب إلى 250 بعدما كان 195، وزاد من نصيب المستقلين، وتساهل مع أنشطة سياسية معارضة كان لا يتهاون حيالها من قبل، حيث كان في مقدور عناصر من الأحزاب المعارضة التي كان يشن النظام عليها حرب إبادة (حزب العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي، حزب البعث الديموقراطي وغيرها) أن يقفوا في خيم المرشحين ويطالبوا بالإفراج عن رفاقهم فضلاً عن مطالبهم السياسية من دون أن يتعرضوا للاعتقال. كان ذلك في محاولة من النظام لامتصاص المد الديموقراطي الذي اجتاح المنظومة الاشتراكية التي كان النظام يستند إليها مادياً وعسكرياً ويستجر من ثقلها العالمي مشروعية تاريخية له.

اليوم يؤكد النظام الديكتاتوري السوري انسحابه من المواجهة السياسية مبدياً بوضوح ما يمثل صفة جوهرية فيه، أي عجزه عن استيعاب التغييرات السياسية المطلوبة. ولا يجد أمام عجزه هذا سوى اللجوء إلى الإصلاحات اللفظية والورقية، التي لا يشتريها منه سوى واهم أو ذي غرض، مشفوعة بممارسة أمنية وعسكرية فاحشة في عدوانيتها ولا أخلاقيتها.

ولا يكمن سر تقوقع النظام السوري في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة مقابل مرونته النسبية في انتخابات مجلس الشعب 1990 في توافر “الحكمة القيادية” آنئذ وندرتها اليوم، بل في مستوى خطورة التهديد الذي يواجهه النظام. فهو يواجه اليوم تحدياً فعلياً يمتلك عناصر الديمومة، مقابل التحدي الافتراضي الذي شكلته الموجة الديموقراطية التي اجتاحات المعسكر الاشتراكي في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، وانحصرت مفاعيلها في حدود ذلك المعسكر من دون أن تتخطاه إلا كجزء من تهيئة عامة للموجة الديموقراطية التي تجتاح المحيط العربي منذ ما يقارب سنة ونصف سنة.

إن قدرة الثورة السورية على احتواء الفعل الأمني والعسكري للنظام، سوف تكشف أكثر فأكثر فقره وانكفاءه السياسي وجفاف تركيبته وآلياته الداخلية وتهافته الأخلاقي، مما يمهد لزواله. يبقى السؤال: هل يختار النظام أن يخسر عبر مواجهة سياسية أم يصر على الخسارة العسكرية، بما يحمله هذا الخيار من ويلات على الجميع بمن فيهم طاقم النظام وأدواته؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى