صفحات الرأي

الانقلابية سمة الأنظمة الاستبدادية


أحمد جابر *

مقولة المؤامرة توائم العقل النقلي. الاستعداد والتصدي للاستعمار وخططه التوسعية يناسب المزاج الشعبوي. الاشتغال على البرامج «التحررية والتقدمية»، يشكل مهرباً للأحزاب التي فات أوان نظرياتها. الحصيلة التي تنشأ عن «الخطاب الثوري»، أعلاه، تتألف من شقين: كذب سياسي، لأن المعلِن يعلم يقيناً، أن ما يعلنه غير حقيقي وغير واقعي، وإنكار على جبهتي الداخل والخارج. في الداخل تنكر الأزمة فيلغى شعب الأزمة، وفي الخارج تنكر أواصر الصلة الوثيقة به، فيصير عدواً ثابتاً، بعد أن كان صديقاً لا يكلّ من فعل الصداقة!

يُغطى الكذب والإنكار بامتلاك الحقيقة، ويفرض كسياسة بأدوات القمع الشاملة، التي يتضافر فيها الإكراه المادي العاري، مع الإكراه الأيديولوجي المزور، الديني والدنيوي. النتيجة المتأتية من ذلك، صمت شامل عن السياسات، وسيادة المسكوت عنه، والانسحاب إلى عالم الهمهمات الخفرة. يخيل للنظام الاستبدادي، حينها، أن الرضوخ رضى، وأن الانقياد اقتراع «لصواب عمل» النظام، وأن التسليم بواقع الأمر، تماهٍ حتى الاندماج، بين «القائد وشعبه».

بعد ذلك، لا يبقى أمام «ولي الأمر»، إلا إعلان قيامة المجتمع – الأمة، المحصن بنقائه القومي، وبانصهاره المجتمعي. ضمن هذه البيئة، كل اعتراض خروج على الإجماع، وكل مطلب تعكير «لسلسبيل» مصالح المجموع.

ما تقدمه الأحداث العربية، في أكثر من بلد، يشكل شواهد حيّة، تعيد استحضار الحاكم، باسم الإنكار والانصهار، كما هو ومن دون خطب تجميلية، مثلما تعيد «اكتشاف» المحكومين، بالأبيض والأسود، ومن غير إضافات لونية. الطرفان، الحاكم والمحكوم، يمارسان السياسة التي تتناسب وتعريفهما لواقعهما. لا ينتقص من مضمون كل تعريف، الحضور الطاغي للحاكم، ولا الغياب، الذي صار حضوراً مدوّياً للمحكوم، لكن طريقة الحضور وأساليب التعبير عن تأكيد الوجود، ونفي الإلغاء، تختلف إلى حدّ التضاد، بين طرفي المعادلة.

يمارس الحاكم الاستبدادي حضوره حيال الشعب، الذي يسميه شعبه، بواسطة الأدوات التي استخدمها حيال الذين استبدوا بالشعب نفسه سابقاً، فأساؤوا إلى يومه وغده، وسمّموا حاضره ومستقبله، وسخروا من ماضيه. الأدوات التي حملت أبناء البشارة الثورية، كانت عنفية، واتخذت صيغة انقلابات حيكت في الأماكن النخبوية، وبالنيابة عن جموع القاطنين في العراء الاجتماعي. البيان الانقلابي الأول، صار في يد الاستبداد العربي بيان الإنقاذ الدائم، وباسمه يتوجه «الضابط» الذي صار ذا رتبة عالية، إلى إنقاذ المجتمع، هذه المرة، من شروره وآفاته. على نحو أكيد، يقوم الانقلابي الأول بانقلابه الثاني، لكن من دون الشرعية «الثورية»، التي كانت قد منحت له. السيرة القمعية هي مفردات تعريف الاستبداد لذاته، والإلغاء ممره إلى إعلان وحدانية صوابه، والإنكار صيغته في افتراض الوحدة، وعدم الحاجة إلى التعددية بكل مستوياتها. يتوج الكذب كل مفاصل السيرة، فحيث تُنفى الوقائع من واقعها، يحل الدجل الكلامي، الذي ينسب إلى «بلاغته» القدرة على تمويه الواقع وتحويره وتزويره. في الطرف المقابل، يباشر المحكومون تأكيد حضورهم من نقطة سحب «الهتاف الأول»، الذي منحوه لأصحاب البيان الأول، ومن ثم الانصراف إلى إعداد هتافاتهم الآتية. يتخذ الأمر شكل الانتقال من الإفاقة من الصدمة إلى معاينة نتائجها، ومن تلمس عملية الخداع السياسي إلى تحليل تجلياتها، ومن كشف عقم تدبير السلطة، إلى نقاش سياسة الخلاص من سياساتها. ما يملكه المحكومون قليل لجهة الإمكانات، لكنه متفوق، على السلطة الاستبدادية، لجهة المغزى والمكنونات. في ميدان المواجهة هذه، يختبئ الحاكم خلف مقتضيات بقائه، ويناضل كي يبقى كفرد، على قيد الحياة المادية أولاً، والسياسية السلطوية استطراداً، ويندفع المحكوم منطلقاً من قيد حياته ليكتب بموته الفردي، إن اقتضى الأمر، تفاصيل الحياة السياسية المأمولة، الأخرى. تنقلب الأوضاع، على طرفي الحياة – الموت، ففي كل إماتة يومية موت حتمي مؤجل للحاكم، ومخاض ولادة حتمية، لا تتأخر كثيراً، للمحكوم.

في الأيام العربية الدامية، الراهنة، تتدافع الأحداث التي تؤكد ارتخاء قبضة الاستبداد، على رغم تسلحها بالحديد الناري، الذي راكمته طيلة عقود، مثلما تؤكد ارتفاع قامة «الشعب»، الذي أسلم قياده سبقاً، من أجل أهداف لم يستطع الاستبداد تحقيقها، أو حتى وضع الأسس اللازمة للوصول إليها. المعركة مفتوحة، بين حاكمٍ ماضٍ لا يريد التسليم بلاقدريته، وبين شعب يقول إنه ذاهب إلى المستقبل.

وبعد، من ذا الذي يسلّم بعد الآن بمقولة الاستبداد التي تعلن «أن ما لديها من الله، وما تعطيه هبة منها؟»، ومن ذا الذي يستطيع إقفال سمعه على صرخة: الشعب يريد إسقاط الآلهة الأصنام؟

* كاتب لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى