صفحات العالم

الانقلاب في الثورة وعليها


سليمان تقي الدين

واكب المجلس العسكري المحطات الأساسية لمسيرة الثورة المصرية لكي يحتفظ لنفسه بالمرجعية الأقوى. ساهم في تنحية الرئيس المخلوع وأقام نفسه سلطة وصاية على الدستور والهيئة التأسيسية والحكومة وقانون الانتخاب، وصولاً إلى قطف ثمار التغيير بعد أن تراخى زخم الثورة وتوزعت قواها في التنافس على السلطة. استثمر على خطاب الإسلاميين وممارستهم فأظهروا نزوعهم إلى التعدي على الحريات العامة والاستئثار بالسلطة. تجاوزوا الضوابط القانونية في الانتخابات التشريعية ليحصدوا معظم المقاعد، وحاولوا السيطرة على الهيئة التأسيسية الدستورية، وتقدموا لأخذ السلطة التنفيذية في الرئاسة والحكومة. خلال عام من مخاض التغيير لم يقدم الإسلاميون النموذج الديموقراطي، بل هم ساوموا وناوروا في سبيل وضع اليد على السلطة، من غير أن تكون لديهم أفضليات في البرامج أو مبادرات لتقوية المشاركة السياسية واستقطاب مكوّنات وتيارات المجتمع المختلفة. لم يعارضوا القرارات والقوانين التي تدرّجت بالمشهد إلى توطيد سلطة المجلس العسكري واستعادته زمام المبادرة السياسية بتقديم ودعم مرشحه للرئاسة. هم شركاء في ما آلت إليه الأوضاع من هجوم يقوده المجلس العسكري، بشخص مرشحه الرئاسي، على ما يصفه بالفوضى والظلامية والعبث بالاستقرار والتضييق على الحريات وعلى الاقتصاد المصري. شكّل الإسلاميون هدفاً سهلاً لرغبة المؤسسة العسكرية الجامحة في الاحتفاظ بالعصب الأساسي للنظام وفي حمايته من أي تغيير جذري يطال البنية السياسية والاقتصادية.

يصعب اتهام المؤسسة القضائية، بفروعها الجزائية والإدارية والدستورية، بالخضوع لرغبات المجلس العسكري ولتوجيهاته. لكنها من دون شك أقدمت على مسايرة المجلس وتوقيع خطواتها على ما يفيده من حيث التوقيت، وربما من حيث التعليل. لم يكن أمام المؤسسة القضائية أي أفق مفتوح على المستوى السياسي لكي تخرج عن قواعد النظام.

لم تحصل على أية مساعدة من الذراع الأمني لكي تجعل محاكمة العهد البائد محاكمة سياسية شاملة. ولم تحصل على دعم قوى الثورة لكي تتصدى للقوانين التي أقرها المجلس العسكري. هكذا وقعت الثورة ضحية الاحتواء المنظّم من المؤسسة العسكرية والمؤسسة المدنية، وأصبحت أسيرة تقدّم أحد رموز النظام إلى واجهة المعركة الرئاسية وهو يحمل خطاباً تهديدياً يقوم على استدرار عطف الجمهور للأمن والاستقرار ومواجهة التطرف الديني والنزعة الاستئثارية لدى الإسلاميين. لكن إذا صحّت هذه الصورة، التي يقدّمها النظام بواسطة الهدير الإعلامي الذي يواكب هذه المواجهة، فإن القوى المدنية لم تعد بعد الجولة الانتخابية الرئاسية الأولى طرفاً يمكن التغطية عليه وتهميشه إزاء حجم الكتلة الناخبة التي فازت بها.

يحاول الإسلاميون الآن استيعاب صدمة المجلس العسكري في رسم الحدود لدورهم، فلن يكونوا الجهة التي تسعى إلى مواجهة تؤدي إلى تفكيك النظام وفرض سلطة مدنية تأسيسية جديدة. هم الجهة التي تستقوي بالأكثرية البرلمانية التي حظيت بها لجعلها المصدر الأساسي للشرعية. غير أن الأمور تجاوزت هذه الواقعة بتوزيع القوى في الانتخابات الرئاسية وبوضوح السعي الغربي والخليجي العربي للتركيز على مرجعية المجلس العسكري والرئيس المقبل بما له من سلطات رئاسية فعلية لم تعدّل بعد. لن تكون الانتخابات الرئاسية بالتالي نهاية المطاف ولن تنجح في إيجاد التناغم الذي راهن عليه الغرب أصلاً بتكوين السلطة على ثنائية العسكر والإسلاميين.

فلا العسكر هو الطرف الموثوق بعد أن انكشف دوره وطموحه وسعيه للمحافظة على امتيازاته السياسية والاقتصادية، ولا الإسلاميون على نفس الصورة السابقة من الزخم والرعاية الشعبية والمصداقية. أما المواجهة فقد صارت حتمية على ثلاث محطات: الرئاسة، الهيئة الدستورية، والمجلس التشريعي. لا أحد يستطيع أن يجزم بمدى قدرة الإسلاميين على احتمال استبعاد دورهم الأول في هذه المحطات. أغلب التقدير أن القواعد الشعبية للإسلاميين ستدفع باتجاه رفض هيمنة المؤسسة العسكرية وسعيها إلى وضع اليد على المجتمع وعلى النشاط السياسي الذي اندلع في مصر. بدأ المجلس العسكري خطوات تمهيدية للتضييق على الحريات السياسية وإطلاق يد الأجهزة الأمنية في ممارسة دور الضابطة العدلية. بل إن خطاب مرشح المجلس العسكري يحمل الكثير من الدلالات الانقلابية على المسار الديموقراطي. ومن الواضح أن هذا الخطاب يضرب ذات اليمين وذات الشمال باسم أولية الأمن والاستقرار وحماية المصالح الاقتصادية المصرية. هذه الثنائية السلطوية العسكرية الإسلاموية، التي تحكم المرحلة الانتقالية، لم تستطع أن تلغي شرعية الشارع المصري الذي خاض مواجهات ضد «الفلول» وضد «حكم العسكر» وعرف كيف يختار في انتخابات الرئاسة رموزاً لا شبهة على خياراتها وسلوكياتها. فلن تكون الملايين العشرة، التي اقترعت لصالح مرشحين من صلب الثورة، قاصرة عن تجميع صفوفها أمام الخطر الداهم من تجديد قوة النظام على نزعة فاشية من هنا أو هناك بدلاً من فتح الحوار السياسي لحل المشكلات الاجتماعية المتفاقمة.

ربما يصعب الحديث عن تعطيل الانتخابات الرئاسية وإعادة الأمور إلى البدايات التي انطلقت منها الثورة. لكن أرجحية مرشح النظام بالفوز بواسطة آلة النظام نفسه وتسخير إمكاناته له يكشف عن هجوم الثورة المضادة التي تستخدم الصعوبات والتحديات أداة لكبح التحوّل الديموقراطي ومحاصرة الحراك السياسي والاجتماعي الذي يبحث عن مؤسسات سياسية جديدة وعن مقاربات مختلفة في معالجة الأزمة الوطنية، التي انفجرت ضد الاستبداد، من دون أن تأخذ مداها الكامل في ضرب جذوره داخل تقاليد الدولة وأجهزتها وتراثها القانوني والدستوري.

في مواجهة الانقلاب في الثورة وعليها مصر على موعد مع انتفاضة ثانية أكثر جذرية وأكثر عنفاً يصعب تقدير مداها ونتائجها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى