صفحات الرأيياسين الحاج صالح

الباراديغم السلفي الجهادي وهيمنته/ ياسين الحاج صالح

 

 

عند محاولة فهم السر وراء انتشار السلفية الجهادية في سورية خلال وقتٍ قياسي، وصولاً إلى قيام دولة داعش، لا تكفي في تصوري الإحالة إلى شرطٍ استثنائيٍ مديد يتمثل في هول الحرب المفتوحة، وحال المجتمع المعنف. وليس أكثر كفايةً اعتماد التحليل الاجتماعي، مهما يكن مرهفاً وغنياً بالمعطيات والتفاصيل. ولا تكتمل الصورة بالإحالة إلى شبكات سلفيةٍ نشطة وحسنة التمويل في بلدان الخليج بخاصة، وتشكل ما يشبه بنية تمويلٍ تحتية جاهزة، على الأهمية الأكيدة لذلك. ولا أخيراً استحضار «الإسلام»، هكذا دون تخصيص، أو بتخصيص سنّي، فسلفي، فسلفي جهادي، مثلما يفعل كثيرون. الإسلام لا يشرح ظهور الحركات الجهادية، بالعكس الحركات الجهادية وغيرها لا تكف عن إنتاج «الإسلام» في كل وقت، وإن ظنَّت هي قبل الجميع أنها لا تفعل غير «تطبيقه».

ما يمكن أن يكون عنصراً مكمّلاً لهذه التحليلات «الموضوعية» هو وضوح الباراديغم الجهادي وتميزه، قياساً إلى نماذج الإسلاميين الآخرين، وإلى أية نماذج لا إسلامية في مجتمعاتنا المعاصرة. سأقول لاحقاً إن مرجع عزيمة الجهاديين واستعدادهم للتضيحة، وهما مما لا يُنكر، هو وضوح النموذج الموجِّه والمرشِد الذي يصدرون عنه، وما يبثه تطابق علمهم مع عالمهم من إنهم في مكانهم من العالم، يقومون بالشيء الصحيح خلافاً لجميع الآخرين. يتوافق كمال النموذج كما سيجري تناوله بعد قليل مع شعور النفوس باليقين والامتلاء به، بينما يثير أدنى ابتعاد عنه شعوراً بالنقص والإثم. التمسك به بحذافيره هو، بالمقابل، منبعُ الطهر.

مفهوم الباراديغم بلوَرَه مؤرخ العلوم الأميركي توماس كون في كتابٍ شهير، بنية الثورات العلمية (ترجم إلى العربية مرتين: عن سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية في ثمانينات القرن السابق، ثم في السنوات الأخيرة عن «المنظمة العربية للترجمة»). يرى كون أن علماً من العلوم لا يتطور على نحو خطّي تدرجي تراكمي بطيء، بل عبر قفزاتٍ يسميها تحولات باراديغمية، حيث يجري تفسير الظواهر الفيزيائية مثلاً عبر نموذج إرشادي (باراديغم) قائم (الميكانيك النيوتوني مثلاً)، ويحفِّز أبحاثاً علمية ناجحة، لكن تظهر شيئاً فشيئاً تجاربُ ومشاهدات لا يفسّرها هذا النموذج، وقد تعزى إلى أخطاء الباحثين. ومع تكاثر هذه المشاهدات يُحتمل أن يتكون نموذجٌ جديدٌ يستطيع شرحها، ويحفِّز من جديد قفزةً في الأبحاث في المجال العلمي المعني (فيزياء النسبية مثلاً). هذه القفزة هي الثورة العلمية، أو التحول الباراديغمي. والنماذج تهيمن لفترة، وتتيح لعدد كبير من العلماء الإبداع من داخلها، وتبقى صالحةً دوماً في نطاقات بعينها، قبل أن تحدث ثورة جديدة تضيء ظواهر مغايرة، فكأنها تخترع الواقع الذي تفسره.

وليس توسّل مفهوم الباراديغم في نطاقٍ خارجَ علوم الطبيعة أمراً إشكالياً جداً. تاريخ المفاهيم هو تاريخ ترحّلها من مجالها الأصلي إلى غيره، على ما يقول مؤرخ علوم آخر شهير، الفرنسي غاستون باشلار. الفارق الأساسي الذي سيلاحظه القارئ أننا هنا حيال نموذج عملي، موجه نحو العمل وتغيير الواقع، وليس نموذجاً نظرياً تفسيرياً، موجهاً نحو الشرح والتوضيح.

لكن النظري والعملي يتلاحمان على نحو لا فكاك فيه في الباراديغم الجهادي، فالعلم السلفي والعمل الجهادي هما ما يكونان الظاهرة، مثلما تكونت الشيوعية في القرن العشرين من «العلم الماركسي» ومن «الحزب اللينيني».

ما المقصود بالباراديغم الجهادي؟

خمسة أشياء أو ستة. 1) أولاً وقبل كل شيء، نظرةٌ إلى العالم، مقلصاً عموماً إلى الغرب، مركز العالمية الحديث. هذا العالم مكون من جماعات مُعرّفة أساساً وحصراً بعقائدها الدينية، وهو معادٍ للإسلام والمسلمين جوهرياً ودوماً، حاقدٌ ومتآمر، لا يكف عن الكيد للمسلمين، وفي أي صراع بينهم وبين غيرهم هو سلفاً منحازٌ إلى الغير. وتضرب أمثلة فلسطين والعراق وأفغانستان، وتجربة حماس في فلسطين، والإسلاموفوبيا والتشكك حيال المسلمين المتدينين في الغرب، ودعم نظم فاسدة وطغيانية في بلدان المسلمين. ولا ينقص الإسلاميين وأكثر المسلمين دلائل وجيهة على صحة ذلك، وإن كانوا يرفعون نظرية التآمر الغربي إلى مرتبة عقيدة قطعية ثابتة لا يتطرق إليها الشك، ويركزون لواءها في ما يفترض أنها ماهية الغرب العميقة: الصليبية اليهودية. 2) نظريةٌ سياسيةٌ جذرية تقوم على مبدأ الحاكمية الإلهية واختصاص الله وحده بالتشريع، وهي نظرية تنزع الشرعية عن النظم القائمة التي تتوفر لأكثر السكان في بلداننا أسباب وجيهة لإنكارها ونزع شرعيتها. ويجري توفير سندٍ ديني لنزع الشرعية عبر وصف الأحوال الراهنة بـ«الجاهلية»، وهي تتقابل مع الدولة الإسلامية عند منظري الحاكمية الإلهية، وخاصة سيد قطب (مفهوم الحاكمية ذاته اخترعه أبو الأعلى المودودي في أربعينات القرن العشرين). وعند داعش هناك بعد قيامي أو مَعادي (إسكاتولوجي) للحاكمية الإلهية، يتمثل في المعركة الأخيرة في دابق ضد جيوش الروم، وانتصار المسلمين. 3) أساس فكري تاريخي «علمي» لهذه النظرية، هو السلفية في صيغتها الوهابية بخاصة، واستناداً إلى ثلاثة أسلاف تاريخيين كبار: محمد بن عبد الوهاب، ابن تيمية، وابن حنبل، وبالطبع الزمن النبوي، لكن بخاصة في مرحلته المدنية. 4) منهج عملي هو «الجهاد في سبيل الله»، الحرب المُلهَمة دينياً بغرض تطبيق النظرية، استناداً إلى مثال السلف في فتح العالم بالسيف. 5) قوةٌ سياسة تجمع بين العلم السلفي والمنهج الجهادي، هي شبكة «القاعدة» الأممية التي لها مآثر معلومة في «النكاية» بالغرب و«عملائـ»ـه، والاقتداء بصورة السلف المفترضة في الزي والقيافة والتعامل مع النساء والأطفال، وفي العقيدة، وفي الاستشهاد. وأخيراً 6) هدفٌ هو الدولة الإسلامية أو الخلافة، حيث العزة للإسلام، تسود رسومه وترتفع رايته، والذلة لغيره.

وقد تتمثل ميزة داعش ضمن التشكيلات السلفية الجهادية، بما فيها القاعدة، بمشروع الدولة، أي السيطرة على أرضٍ وسكان، وإقامة ما يفترض أنه حكم الله فيها. الباراديغم السلفي الجهادي يبلغ أقصى وضوحه وتحققه في داعش.

ويجري تسييج النموذج بعقيدة الولاء والبراء، أي موالاة الجماعة وحصر الإحسان بها، والتبرؤ من غيرها وإيجاب كراهية الغير والإساءة لهم بقدر المستطاع، مرفوعاً إلى مرتبة عقيدة إيمانية جوهرية. والسور الأعلى هو التكفير، وهو فعل تطهّرٍ وإقصاءٍ كليٍ، ينبذ غير الكاملين من الجماعة. وأعتقد أن العمليات الاستشهادية هي الشكل الأقصى من مطابقة النموذج ومن فعل التطهّر. عندما يقتل نفسه بالأعداء، يكون السلفي الجهادي بلغ المرتبة العليا من مطابقة كمال النموذج، أي من النقاء والطهر.

وما يمنح النموذج والعقيدة الكلية للسلفية الجهاية صدقيةً واقعية، هو أن النظرة للعالم ليست ملفقةً، وأن في نظرة الطبقات الوسطى الغربية إلى العالم ما لا يقل عن نفورٍ من الإسلام، وارتفاع شديد في عتبة التعاطف مع قضايا مسلمين. والأوضاع التشريعية والقانونية في بلدان المسلمين بالغة السوء، ولم يتطور نظامُ عدالةٍ متسقٍ يمكن أن يحمي مصالح أكثرية السكان في أي منها، ما يبقى الباب مفتوحاً أمام طلب العدالة عبر «الشريعة». ويفتقر عموم العرب وعموم المسلمين، والسنيين منهم تحديداً، إلى القدرة الفعالة على خوض الحرب في مواجهة قوى حربية جداً، مثل أميركا والغرب الحديث عموماً، ومثل إسرائيل، ومثل دولنا ذاتها، لكن في مواجهة محكوميها حصراً. الجهاد هو حرب المسلمين. ولم تظهر في بلداننا منظمات سياسيةٌ شرعية، فعالةٌ وقادرةٌ على تحقيق التغيير أو الدفع نحوه. تنظيم «القاعدة» المتحرر من أية أوهام حول الشرعية هو قوة تمردٍ على أوضاع داخلية ودولية لا جدال في أنها غير عادلة. ثم إنه لا معنى لمقاومة الدول القائمة، غير العادلة فعلاً، دون بناء دولة إسلامية.

القصد أن النموذج ليس مُنبتَّ الصلة بالواقع، وإن كان يمكن المجادلة في نجاح هذه العقيدة في تحقيق العدالة والقوة وخير. بل إن النموذج فاشل حتماً، وملامحه الشمولية (التوتاليتارية) القوية تضعه في مصاف الستالينية والنازية والفاشية، وهو يعرض سمات لا إنسانية غير عارضة، ويسترخص دم الناس بقدرٍ يفوق ما تفعل حتى النظم التي يجري الاعتراض عليها. وهو في النهاية سينهار بسبب فشله، وإن ليس دون كوارث كبيرة.

لكن العلم الذي يقترحه النموذج يؤسس لعالمٍ منظم، مفرط التنظيم، يعيش في داخله الجهاديون ويجدون فيه إجاباتٍ كاملةً على أسئلتهم. فمثلما تُكوِّن باراديغمات كونْ عوالم متميزة عن بعضها، كذلك يشكل باراديغم الجهاديين عالمهم الخاص الضيق الذي يعيشون فيه مكتفين. من يعيشون خارج هذا العالم، وخصوصاً من يرفضونه هم أعداء، إن لم يكن قتلهم شيئاً طيباً، فهو ليس بالأمر السيء على كل حال. الدواعش يقتلون ببهجة لأن مقتوليهم من عالمٍ آخر، معادٍ وفاسد.

والطلب على العالم المنظم، الذي يوفر دولةً وعدالةً وحرباً، علماً وعالماً، يزداد في مجتمعاتنا التي تعيش منذ عقود على الأقل حالة من اللاعدالة واللادولة واللا سياسة واللاحرب واللاعلم، واللامعنى. هناك تصورٌ لعالمٍ مشترك، نعيش فيه مع غيرنا، لكنه ليس تصوراً قوياً، ويفتقر إلى نظرة إلى العالم لها أسانيدها الواقعية القوية وتماسكها الذاتي.

فراغ النماذج

يُذَكرُ ما في هذا النموذج من نظرة عالمية ونظرية علمية وحركة سياسية ومنهج عملي ومثال أعلى بالباراديغم اللينيني في شيوعية القرن العشرين. في الأخير نظرة إلى العالم تقوم على تصور تقدمي للتاريخ وتصور طبقي وصراعي للاجتماع ودور خلاصي للطبقة العاملة، وهناك نظرية علمية هي الماركسية، وأداة عمل هي الحزب الشيوعي، ومنهج هو الثورة والاستيلاء على السلطة بالقوة، وهدف هو الاشتراكية العلمية، ومن وراءها المجتع الشيوعي العالمي. الماركسية اللينينية هي العقيدة السلفية التي يرتكز عليها كل تنظيم شيوعي كي يطابق النموذج.

وفي مواجهة النموذج السلفي الجهادي الذي يجمع بين الوضوح والبساطة والتجسد العملي، لا يعرض أي إسلاميين آخرين نموذجاً منافساً. لدى السلفيين الدعويين أو «العلميين» يغيب المنهج الجهادي. إنهم أشبه بماركسيين مستقلين. ولدى الإخوان كلام متناقضٌ يحاول الجمعَ بين الإسلام ومستحدثات الأزمنة الراهنة من دولةٍ وطنية وصناديق اقتراع ودستورٍ وإشراكٍ لـ«العباد» بالتشريع. هؤلاء اشتراكيون ديمقراطيون. أما الصوفية فتنسحب من العالم وأمام العالم غير العطوف على الإسلام والمسلمين. وحدهم السلفيون الجهاديون ماركسيون لينينيون.

وبعد النموذج المتجسد في التنظيمات الشيوعية، وقد تداعت وانهارت قبل جيلٍ أو انكفأت على نفسها وتحجرت، لا يبدو أن هناك نموذجاً علمانياً يمكن أن ينافس نموذج السلفية الجهادية من قريبٍ أو بعيد. فيما عدا التباس قضية العلمانيين بقضية الأنظمة التي تفجرت ضدها الثورات، وهو التباس لم يخترعه الإسلاميون، ما دمنا نجد مفكرين علمانيين مكرسين يقفون إلى جانب هذه الأنظمة، ليس ضد الإسلاميين وحدهم بل ضد أي معارضين يسارييين وديمقراطيين أيضاً (من السوريين، أدونيس وعزيز العظمة وجورج طرابيشي)؛ فيما عدا ذلك تلتبس قضية العلمانيين بقضية الغرب أيضاً. والغرب العاقل والعادل في دياره، قلما كان في بلداننا قوةَ عقلٍ أو عدل، وتمازجت قضيته هنا على الدوام بالسيطرة والدعم الأعمى لإسرائيل والوقوف إلى جانب نظم الطغيان، والتحكم المباشر بمنابع النفط، فضلاً عن الإسلاموفوبيا. وعلى كل حال يمكن أن نتكلم بخصوص العلمانيين عموماً على دعوة وعلى أفكار، أي على علمانيين «دعويين» أو «علميين»، وليس على نموذجٍ متماسك، يجمع بين نظرة إلى العالم ونظرية تشرح الواقع وتنظيم لتغييره ومنهج للتغير وهدف متميز، أي «علمانيين جهاديين». الواقع أن هناك علمانيون جهاديون بالفعل بين السوريين، لكن نظرتهم إلى العالم هنتنغتونية ومعادية للإسلام، وكتائبهم المقاتلة ليست إلا أجهزة القتل الخاص بالدولة الأسدية، أو «الجيش العربي السوري» في أقل الأحوال سوءاً.

ليسوا قليلين هم اليساريون والديمقراطيون والعلمانيون المخلصون، المناهضون للنظم الامتيازية الحاكمة وللسيطرة الغربية، والمتفانون في كفاحهم، لكنهم يفتقرون إلى باراديغم واضح. نظرتنا إلى العالم اليوم ملتبسة، إنها «حداثية» و«علمانية»، تفترض عالماً تقوم علاقاته على حسن الجوار أو ما يقاربه، ويخلو أو يكاد من الحرب، وتُحل مشكلاته سلمياً، وحسن ظن هذه النظرة بالقوى الدولية المسيطرة ينم عن سذاجة كبيرة تسوِّغ سوء الظن بها، أو على الأقل ضعف الثقة بجديتها؛ تشخصينا لواقع الحال التمييزي الاستبدادي غير كافٍ على الأقل، وغير مميزٍ غالباً؛ ونظريتنا الديمقراطية في المجتمع إما غير موجودة أو هي غير واضحة لنا قبل غيرنا؛ أدواتنا السياسية مترهلة وركيكة؛ هدفنا الديمقراطي معرضٌ لتلاعب الغرب (حين يفوز إسلاميون في الانتخابات تُرفض نتائجها: الجزائر 1991، وحماس 2007)، أو ليس له معنى محدد، إلى درجة أن الأنظمة القائمة، والإخوان المسلمين، وأشخاصاً بلا قضية، ينتحلونه لأنفسهم دونما صعوبة.

في فراع النماذج الإرشادية يحوز نموذج الجهاديين مكانةً مهيمنةً لا منافسَ لها، تدفع غيرهم من الإسلاميين إلى التمسح به. يكتشف الإخوان حين يريدون الكلام في الشؤون العامة أنهم واقعون في فلك نظرة النموذج الجهادي. الجماعة في الأصل توفيقيون، نظرتهم إلى العالم تتراوح في كل وقت بين عدائية التصور الإسلامي المهيمن (وهو اليوم السلفية الجهادية) وبين تقبل العالم المعاصر كمصلحة عامة (يبرزون هذا الوجه أو ذاك حسب مخاطَبيهم)، تشخيصهم لواقع الحال يتراوح بين الجاهلية والاستبداد، منهجهم العملي بين السياسة والجهاد، هدفهم إن لم يكن الدولة الإسلامية فهو دولة بمرجعية إسلامية، وهذا كلام غير واضح من الوجهة العملية (ومن الوجهة النظرية). وأدواتهم السياسية لم تنل الشرعية في الدول القائمة رغم تمسحها بها، ولم تضطلع في الوقت نفسه مثلما فعلت «القاعدة» بعواقب اللاشرعية والتصرف كمنظمةٍ ثائرة تريد قلب الواقع الحالي بـ«العنف الثوري»، أي بالجهاد.

ويكتشف الديمقراطيون من أمثالنا إنهم أشتات من مجموعاتٍ وأفراد، فاقدون للتماسك وغير آمنين على أنفسهم، لا من جهة نظم الطغيان التي كانو أول من شارك في الثورة عليها، ولا من جهة الإسلاميين الواقعين في فلك النموذج السلفي الجهادي. ويجد شبانٌ معارضون كثيرون، ممن لا يريدون أن يكونوا سلفيين جهاديين، يجدون أنفسهم بلا فكرة مركزية أو نموذجٍ جاذب، واقعين في فلك منظمات «غير حكومية» غربية، أو متابعين سيرهم الفردية في إطارٍ من اللامعنى العام، الأمر الذي يعود بمزيد من الوجاهة على النموذج الجهادي.

هيمنة الباراديغم السلفي الجهادي

وبفعل هيمنة هذا النموذج نرى اليوم أكثر التكوينات العسكرية المقاتلة في سورية تعرض وجهاً سلفياً جهادياً: تشارك في النظرة المرتابة إلى العالم، في العلم السلفي، في المنهج الجهادي، في الهدف الإسلامي، في إعلاء «الشريعة» على حساب أية قوانين بشرية، ويبدو اعتراضها على «القاعدة» تحفزه اعتباراتٌ سياسية وعملية، وليس اعتباراتٍ مبدئيةً وفكرية. المتكلم باسم جيش زهران علوش، إسلام علوش، يتكلم في نيسان 2015 لصحيفة أميركية على خطاب لـ«الاستهلاك الداخلي» (هذا تعبيره هو!)، موجه إلى مجاهدي تشكيله، لتحصينهم من الوقوع في فلك داعش وجبهة النصرة، بينما يتوجه هو إلى الغرب بخطاب سياسي «معتدل». المضمر في كلامه هو أن الخطاب المتشدد، السلفي الجهادي، هو المؤثر والمقنع، وأن مجاهدي تشكيله ينفّضون عنه إن عرض عليهم غير خطاب «الاستهلاك الداخلي» هذا. وأبو محمد الحولاني، أمير جبهة النصرة، لا ينفصل عن «القاعدة»، حسب ما قيل إنه كان مقدراً إثر ظهوره بلا وجهٍ على قناة «الجزيرة» في أيار 2015، لأنه إن فعل ينضم أكثر مجاهديه إلى داعش، حسب تحليلات متواترة. وبين وقتٍ وآخر نسمع عن انضمام أو «مبايعة» مجاهدين من تشكيلاتٍ أخرى، من «أحرار الشام» في مخيم اليرموك في تموز 2015 مثلاً، حسب بعض الأخبار، إلى داعش دون أن تكون الحركة في الاتجاه المعاكس ممكنة (الداعشي الذي «ينشق»، يعود إلى حياة عادية، «كافرة»، أي يخرج من العلم/ العالم الجهادي الذي تتماهى داعش بصورته الأكمل، وليس إلى حركات «تحريفية» أو «انتهازية»، مثل «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» و«جيش الإسلام»، إن استعدنا تعبيرات لينينية؛ الشيوعي الذي كان «ينشق» كان يوالي «البرجوازية» فكراً ونمط حياة، ولا يصير اشتراكياً ديمقراطياً مثلاً).

هذه كلها مؤشرات على قوة الباراديغمات وهيمنتها، وعلى أنها صلبة، لا يمكن تغيير عناصر منها دون المجازفة بالخروج من النموذج كله وخسران فاعليته الاستقطابية والتعبوية. مجسداً بداعش، يوفر الباراديغم الجهادي شعوراً بالتميز عن الغير والتفوق عليهم، والرسوخ في العالم، وأساساً صلباً لليقين والتوجه في الواقع، وجسارةً واستعداداً للتضيحة ونكراناً للذات. أما الابتعاد عنه فيولد في النفس شعوراً بالتخلخل والقلق، وبتدني مستوى «الطُهر». وهذه الميول الأخيرة وحدها تقوى حين يُستدرَك على الباراديغم، أو تُداخِله النسبية والشك، مثلما تفعل الحركات الأخرى، «التحريفية».

وإنما لذلك، لا تستطيع الحركات «التحريفية» القيام بعمليات استشهادية، فهي لا تخلق مقادير «الطهر» التي يولدها فعل النموذج في النفس حين يكون في أقصى كماله، أي بالتحديد تطابق العلم والعالم. أعني بالطهر حس التمام الذي تملأ به العقيدة النفس، فلا يبقى من النفس شيءٌ غير العقيدة أو النموذج. هذا فعل تعبئةٍ بمعنى الكلمة الحرفي (مَلْء) والاصطلاحي (تجنُّد)، امتلاءٌ للنفس بالعقيدة واستنفارٌ لتلبية ندائها. داعش تنتح كثيراً من هذه التعبئة، ولديها صناعة استشهاديين مُعبّئين واسعة النطاق. والقاعدة، «جبهة النصرة»، وهي معتنقة للباراديغم، لكن يبدو أنها تعطي في ممارستها مساحة أكبر من داعش لاعتبارات السياسة والاجتماع المحلي، تنتج مقادير وافية أيضاً، ولا يبدو أنها مرَّت بأزمة نقص استشهاديين وقت الحاجة. بالمقابل، لا يبدو أن لدى زهران علوش قدرة على إنتاج استشهاديين، وتبدو إنتاجية «أحرار الشام» متراجعة في هذا الشأن، على نحو غير منقطع الصلة بمساعيها للتزحزح نحو مواقع أبعد عن داعش والقاعدة. صحيح أنهما واقعان في فلك الباراديغم السلفي الجهادي، إلا أنهما ينفلتان منه لأسباب سياسية، بما يحدُّ من قدرتهما على محاكاة الطاحونة السلفية الجهادية في أتم تجلياتها. يمكن اعتبار الباراديغم تكنولوجية تصنيع بشرٍ متأهبين في كل وقت للموت. غير الموت أو الاستعداد المستمر له، لا يبدو أن السلفية الجهادية تنتج أي شيءٍ آخر.

تناقض الهيمنة

كانت قوة الباراديغم اللينيني، معززاً بالنجاح الظاهر للمثال السوفييتي، قد نشرت هيمنته في حركات تحررٍ وطنيٍ في العالم الثالث، في حزب البعث نفسه، وفي العديد من المنظمات الاشتراكية والشيوعية في سورية والعالم العربي. على مستوى نظرة العالم والنظرية واللغة والتنظيم والمنهج العملي (الثورة والحزب الثوري) والهدف، كانت هناك منظماتٌ كثيرةٌ واقعة في فلك الباراديغم اللينيني، ليس دون أن تكون شيوعية فحسب، بل ومع عدائها للشيوعية وقمعها للشيوعيين غالباً.

وبالمثل لا تسجل حركة «أحرار الشام» أو «جيش الإسلام» فارقاً ذا بال عن النموذج السلفي الجهادي من حيث الباراديغم، وإن ابتعدا عن داعش والقاعدة من حيث السياسة. جاذبية النموذج الواضح والمتماسك، والعالم المنظم كلياً بـ«العلم» فلا تبقى فيه فضاءات مجهولة، في ظل ما تسببه الحرب من ارتفاع الطلب على الوضوح واليقين والهوية المميزة، يقربهما منها كثيراً. الأمر لا يتعلق بمجرد فاعلية إقناعية تتراجع إذا ابتعدت عن النموذج ولغته وإحالاته ومخيلته وذاكرته، بل بالإقامة في العالم، بسُكناه والرسوخ فيه.

بيد أن للهيمنة ذاتها مفعولاً متناقضاً. فبما أن كثيرين، مختلفين عن بعضهم وفيما بينهم، هم جهاديون اليوم، يتماهون بالنموذج الناجح، فإن الهوية الجهادية تتغيم وتضيع تقاطيعها المميزة، ويفقد النموذج بالتدريج وضوحه وفرادته. شيءٌ كهذا سبقت ملاحظته بخصوص هيمنة الباراديغم اللينيني في الوسط الشيوعي وخارجه. كثيرون مختلفون يحاكون النموذج الواحد، وهو ما يُدخِل التعدد إلى هذا الواحد، فيتشوش، ويفقد جلاءه شيئاً فشيئاً، وتتدنى طاقته التعبوية وإنتاجيته من «الطهر»، وبعد حين سوف يبدو اعتباطياً، حالة تاريخية خاصة جداً وليس مالك قوانين التاريخ ومفاتيحه. هذا مؤشر على انقشاع الهيمنة أو «زوال السحر عن وجه العالم». الباراديغمات وسائط هيمنة تسحر، تضفي السحر على العالم.

بعد حين سيبدو وضوح النموذج الجهادي اعتباطياً كذلك، وليد أزمةٍ فادحة ودعايةٍ ماهرة وسياساتٍ محليةٍ ودوليةٍ خاطئة.

وهذه نقطة مهمةٌ عملياً. فاعتبار جميع الحركات المشار إليها فوق سلفية جهادية اليوم، على نحو ما اعتبر الغرب كل خصومه شيوعيين ماركسيين لينينيين في زمن الحرب الباردة، هو خطأٌ سياسي، يغذي التطرف ويناسب حصراً المتطرفين والجهاديين. الباراديغم لا يكفي لتعريف المجموعات المختلفة، وكثير منها تتمسح به لأنه ناجح، ليس من أجل أن تشابه الأصل القاعدي، بل بالضبط كي تختلف عنه. لا يريد «أحرار الشام» (وهم اليوم يحاولون إقناع الغرب باختلافهم) أن يشابهوا «القاعدة»، يريدون العكس، لكن هذا لا يعني التخلي عن الباراديغم الناجح. هذا ما لا يطيقونه في إطار الديناميكيات السياسية والنفسية والاجتماعية التي ترفع على طلب اليقين والوضوح والتفاصل والراديكالية.

غير أن الوجه الآخر لهذه الديناميكية هو بقاؤهم عملياً ضمن إطار سلفيٍ جهادي، حتى إذا صفا لهم الحكم مثلاً لم يكن في حوزتهم من «برنامج» غير ما انكتب في داخل نفوسهم، وما جرت تعبئة أعضائهم عليه. ببنيته الموضوعية، الباراديغم هو «نية» حركتهم كمنظمة أو قوة جمعية، وهذه النية أهم من أقوال القيادات والناطقين الرسميين، وأهم من مقالات تُكتب في الصحف الأميركية والبريطانية بغرض «الاستهلاك الخارجي». ما يمكن أن يقوي نازع التمايز السياسي، فيضعف أثر الباراديغم الجامع، هو تغير الديناميكات النفسية والاجتماعية والسياسية الجارية على نحو يدفع نحو تغير النظرة إلى العالم المشتركة اليوم بين عموم الإسلاميين. الأساسُ هنا، في النظرة إلى العالم، والتغيرُ الدال هنا.

اليوم يستفيد النموذج الجهادي كثيراً من فراغ النماذج، مثلما يستفيد من وضوحه الخاص. ولا ينبغي بحال الاستهانة بقوة الفراغ. أعتقد مثلاً أن التشابه بين الباراديغم اللينيني والباراديغم الجهادي يغذي بصورة راجعةٍ بعض اللينيين المحليين والإقليميين (هناك عرض إيديولوجي معلوم، يلبي الطلب على الوضوح بخصوص الصديق والعدو والوسيلة والهدف)، فيبقيهم على قيد الحياة، ويلقي ضوءاً على عدائهم العنيف للثورة السورية، الثورة التي تكرس فيها وعلى أشلائها ظهور الباراديغم الجهادي، والتي تميزت غير ذلك باختلاط فكري وقيمي وسياسي كبير. والاختلاط يثير، عند الغرباء بخاصة، اللامبالاة وعدم التعاطف على الأقل، لأنه يولد في النفس شعوراً بعدم الفهم.

وليس الشبه بين الباراديغمين الجهادي واللينيني خارجياً على كل حال. فالجهادية كلينينية إسلامية لها البنية نفسها تقريباً، وتصدر عن نظرة صراعيةٍ جداً إلى العالم، وتعادي تقريباً العدو نفسه، الغرب معرفاً كامبريالية مرة، وكصليبية يهودية مرة، وتطرح نفسها بديلاً ثورياً كلياً، وتنحاز إلى العنف انحيازاً مبدئياً، وتتصف بالأممية في الحالين، وبالتفاصل عن الأوضاع الراهنة والتطهّر منها والتمايز القطعي عن الغير، وبالتطلع إلى حلٍ نهائيٍ لآلام التاريخ.

كان ما يجتذب فتىً مثلي قبل ما يقرب من 40 عاماً، وكثيرين من جيلي، إلى تنظيمٍ شيوعي هو «الطهر» أيضاً، طهر العقيدة المتمركزة حول العدالة والشراكة، والعالم المنظم كلياً بعلم لا يصعب على أمثالي الإحاطة به. بعد قليلٍ أو في الوقت نفسه تقريباً كان يتطور في التنظيم الذي انتميت إليه، ولدَيّ أنا أيضاً، ميلٌ «اختلاطيٌ» مضادٌ لطهر العقيدة، يطور معايير مغايرةً للقيمة تتصل بـ«الواقع»، فيقترن ذلك بتراجع ملحوظ في الطاقة التعبوية.

أريد القول إن مطالب الفتى الداعشي النفسية اليوم لا تنتمي إلى عالم مختلف عن عالم الفتى الشيوعي قبل عقود. وأن تطوير نزعة «اختلاطية»، حيث لا تَطابُقَ بين العلم والعالم (هل يبقى اسمها باراديغم؟)، أمرٌ ممكن، ولها معايير جاذبيتها الخاصة: «الانفتاح»، «الهرطقة»، «القلق»، «السؤال»، الخروج من الدوغما، التحرر الفكري… لا يلمح المرء شيئاً من ذلك اليوم. لكن «المهرطقين» الإسلاميين الذي قد يمزجون كثيراً من الإسلام بكثيرٍ من العالم الفعلي، ويقرّون بأن العالم لا يذوب في العلم الإسلامي، قد يكونون اليوم في سبيلهم إلى الظهور.

صناعة الإسلام

وخلافاً لانطباع الوهلة الأولى، وخلافاً لما يقرر النموذج ذاته من أنه هو الإسلام، فإن الإسلام ذاته نتاجٌ للنموذج، لا يعود «مقروءاً» إلا عبره. فمثلما كانت الماركسية نتاج الباراديغم اللينيني على المستوى العملي، ولم يكد يعرفها أحد من الشيوعيين إلا عبر الشيوعية التي يقوم وعيها الذاتي على أنها هي الماركسية في فهمها الأكثر علميةً وثوريةً في آن، فكذلك لا يبدو أن الإسلام يُعرَفُ اليوم إلا من خلال الحركة السلفية الجهادية التي تقوم عقيدتها على تماهيها التام به. لكن هذا لا يعني نفي الصفة الإسلامية عن داعش والمجموعات الجهادية، على ما يقال كثيراً. فمثلما أنه ليس صحيحاً أن الشيوعية مجرد خيانة للماركسية، والصحيح أن فيها كثيرٌ من الماركسية، لكن في الماركسية ما ليس في الشيوعية وما يبقى حياً بعد موت الشيوعية، يبدو لي أن في السلفية الجهادية كثيراً من الإسلام، وفي الوقت نفسه كثيرٌ من الإسلام يبقى خارجها ويستأنف حياته بعدها. وحين نُجيل النظر في البنود الستة أعلاه، نرى أنه ليس بينها ما هو لا إسلامي أو مدسوس على الإسلام، لكن التركيبة تاريخيةٌ بالكامل. النموذج الجهادي في رأيي نتاج تركيبٍ وجهودٍ فكرية، ذكرت فوق أسماء ترتبط بسلسلة أنسابه (جينيالوجياه)، أسماء مهمة في التاريخ الإسلامي، لكنه كان مُجادلاً فيهم في كل وقت. يجب إضافة أسماء معاصرة: أبو الأعلى المودودي وسيد قطب كمبلورين لنظرية الحاكمية الإلهية، والأخير كمشخص لوضع الجاهلية، يجب ذكر محمد عبد السلام فرج صاحب الفريضة الغائبة، وأسامة بن لادن، وشكري مصطفى وحركة التكفير والهجرة المصرية، ومروان حديد والطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين السورية، كلهم منظرون وحركيون في آن.

ملحوظات أخيرة

1- لا تُغني هذه المقاربة المعرفية عن التحليلات «الموضوعية»، الاجتماعية وغيرها. ولا عن ضرورة الانكباب على شرط الحرب وأهوالها كمبحثٍ مميزٍ فريدٍ من نوعه، لم نشتغل عليه في ثقافتنا المعاصرة ولا نحيط بشيء من خصوصيته.

أشرتُ فوق إلى قوة الفراغ. الفراغ يصنع بالسياسة والقوة، وليس مسألةً معرفية. أعتقد أن الطلب على التفاصل عن العالم الفاسد واليقين بعلمنا/ عالمنا النقي ينتعش في شروط الاضطراب الاجتماعي والسياسي والنفسي العام، مما لا جدال في كونها شروطَ حياة أكثرية العرب والمسلمين المعاصرين. ويحيل التشكك بالغرب والعداء له إلى أوضاع سيطرةٍ واقعيةٍ غير عادلة، لا إلى ماهيات وعقائد أبدية، ولا إلى مجرد سوءٍ فهم للغرب من قبل كثيرين منا. مفهوم الباراديغم لا يغني عن تحليل الأوضاع العيانية، لكنه يمكن أن يكون أداةً مناسبةً لشرح موضوعية «العامل الذاتي»، ودوره الكبير ضمن هذه الأوضاع المضطربة.

2- إن كانت التحليلات السابقة قريبةً من الصواب، فإن الأزمة المحتمة للنموذج السلفي الجهادي، سوف تطوي صفحة الطموحات السيادية للإسلام السياسي ككل، هذه الطموحات التي أبقت «الجهاد» (العنف الديني الإخضاعي) ممكناً قوياً من ممكناته. هذا لا يحكم بالضرورة بالزوال على الإسلام السياسي من النموذج الإخواني وما قد يقترب منه، لكنه يخفض مرتبته، ويطوي صفحة الدولة الإسلامية ومشتقاتها، بما فيها الشريعة بوصفها المصدر الأساسي للتشريع (التشريع خاصية سيادية أساسية). فإما أن تُفهم الشريعة فهماً إيمانياً أخلاقياً، مثلما يراها وائل حلاق في كتابه الدولة المستحيلة، وإلا فإن فهمها الحسي الأصولي لا يقود إلا إلى داعش، أو إلى السعودية، وداعش من ممكناتها الدائمة. وبقدر ما إن السلفية الجهادية، وفي صيغة داعش بخاصة، هي الشكل العملي الأعلى للإسلامية، فإن ما يمكن أن يقابل الباراديغم الجهادي ليس النهج الإخواني، بل باراديغم لاإسلامي منفصلٌ كلياً، يبدو أنه يشهد على اتجاهه ما سبق تقديره من أن من ينشق من داعش لا ينضم إلى التشكيلات الجهادية وشبه الجهادية الأخرى، بل يتحول إلى «كافرٍ» سياسياً (وهو ما لا يمس إيمانه الإسلامي بالضرورة، لكن يُخرجه من السيادة الإسلامية).

ويبدو لي أن ما سيفرض نفسه بعد حين في عالم المسلمين والعرب هو التحول من العيش في الدين، في علمه/ عالمه الضيق، إلى العيش في العالم وعيش الدين في دواخل مؤمنين يعيشون في العالم. وبدلاً من فتح العالم الخارجي، تنطرح عليهم قضية فتح العالم الداخلي وتحويله. وهو ما يقتضي في تصوري طي صفحة «الشريعة» بوصفها تشكلاً تاريخياً ليس قادراً على توفير العدالة والترقي الأخلاقي لأيٍ كانَ في عالم اليوم.

3- هل التحول الباراديغمي هو الشكل الوحيد للتطور؟ هذا ما يشجع على تصوره مفهوم الباراديغم ذاته كنسقٍ مهيمنٍ من القواعد، يقع في فلك جاذبيته حتى من لا يوالون قضيته كلها، ثم يزول كلياً ليحل محله نموذجٌ جديد، دون إمكانيةٍ للتفاعل بين النماذج حسب توماس كون، ودون أن تقبل التقايس. يبدو الأمر كأننا حيال عوالم مختلفة، مغلقةٍ دون بعضها، لا يمكن التفاهم بين سكان كل منها. وهذا ما لا أجده مقنعاً في مفهوم الباراديغم، وبخاصة حين تستخلص منه نتائج عملية تقرر استحالة التفاعل بين سكان العوالم المختلفة، وتزكي هذه الاستحالة. يمكن لذلك أن يترجم سياسياً إلى سياسة طوائف منفصلةٍ عن بعضها، لكل منها «حضارتـ»ها وعالمها، فلا تتفاعل ولا تتزاوج ولا يمكن النقاش بينها. ولا يجب.

وهذا قضاءٌ مبرم على النزعة العالمية، وعلى تصورٍ محتملٍ للعقلانية كتعارف وتعاقل بين مجتمعات الإنسان وتجاربه وثقافاته، وليس بالضرورة كتعميمٍ لتصورٍ مركزي بعينه للعقل.

من شأن نقل مفهومي الباراديغم والتحول الباراديغمي من نطاق التفسير إلى نطاق العمل أن يحصر تصور الثورة الاجتماعية والسياسية في ظهور تشكيلات علم/عالم من صنف السلفية الجهادية والماركسية اللينينية. ظهور داعش تحول باراديغمي فعلاً، وتشكلُ عالمٍ مغلق، مفرط التنظيم، لا يكف عن مطابقة علمه الثابت.

هذا للقول إن مفهوم الباراديغم الذي يسلط ضوءاً مفيداً على ظاهرة السلفية الجهادية اليوم، أقل فائدةً بكثيرٍ في تصور الثورة. لا نتطلع إلى كلٍّ جديد (هناك قرابة بنيوية في تصوري بين مذهب الكليات الهيغلي وباراديغمات كون وأبستيمات فوكو) أو عالمٍ جديد، بل إلى عالمٍ مفتوح متجدد، متغيرِ النظام، تتقاطع دائرتا العلم والعالم فيها، لكن لا تتطابقان بحال. تشكيلات العلم/ العالم تلغي الحرية جذرياً، وتوجب على المجتمعات المحكومة بها أن تتكرس كعمال يستفرغون جهدهم على مطابقة العلم والعالم، مع ملاحقة كل ما ينتأ و«ينحرف» و«ينشق» بالنفي والقتل والسجن.

ما قد يكون عملاً تحررياً اليوم هو إظهار اختلالات وتهافت الباراديغم السلفي الجهادي، وجنون الظاهرات الاجتماعية السياسية التي تبنى عليه. الأولوية اليوم للتقويض وكسر الهيمنة ونزع السحر. عالم الجهاديين لا إنساني، توسعيٌ وامبريالي، وما كان لنموذجهم الضيق أن يهيمن لولا جنون مجتمعاتنا المعاصرة وفقدانها سبل العدل والعقل معاً. الاشتغال على ذلك، والدخول في اشتباك تاريخي كبير مع العالم الديني الضيق، جهد جيل أو جيلين مقبلين. لكن لعلنا نعرف الاتجاه اليوم: من العلم/ العالم المغلق إلى العالم المختلط المفتوح، المكون من أناسٍ كثيرين وأفكارٍ كثيرة وأفعالٍ كثيرة.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى