البارحة كانت رحلتنا سماوية/ خليل النعيمي
قضينا النصف الأول من الليل البهيم برفقة عالم الفلك والخبير بالنجوم ومسالكها، السيد آلان موري، الذي كان باحثاً في مركز الأبحاث الفرنسي، واستقال من منصبه ليؤسس هذا المُحْتَرَف (الاوبزيرفاتوار) لمراقبة السماء ونجومها، في جبال الآنديز التشيلية بالقرب من المركز العالمي لمراقبة الكواكب والأجواء، الذي تَشارَكَت في إنشائه وإدارته كل من أوروبا، واليابان، وأمريكا، لأن النوء في هذه النقطة من التشيلي لا مثيل له من حيث الصفاء لمراقبة الكواكب والنجوم، على سطح الكرة الأرضية، كما قال.
بين سلسلة الجبال والصحراء، صحراء «آتاكاما»، في أقصى الشمال الأرجنتيني، بالقرب من مدينة « سانْ بيدْرو دي آتاكاما»، وليس بعيداً عن حدود « البيرو»، أقام هذا العالِم مُحْتَرَفه الفَلَكيّ الذي جَهَّزه بسبعة مَجاهِـر عملاقة لمراقبة الفضاء (تليسكوب).
استقبلنا في أول الليل بشكل مظلم، تماماً. ففي المحترف، وفي الفضاء القريب المحيط به، لا توجد أي إضاءة اصطناعية، حتى لا تتشوّش رؤية السماء وما فيها، كما شرح لنا. داخل المحترف، قَعَدْنا كالطلاب الصغار في دائرة ضيقة، وجلس هو في الوسط، وعلى ضوء شمعة خافِت، بدأ يشرح لنا ما يساعدنا على فهم ما سيقول عندما نكون أمام التيلسكوبات. يبرر هذا الفَلَكيّ المرموق وجوده هنا لأن الجو في أعالي التشيلي أصفى ما يمكن أن يكون فوق سطح الكرة الأرضية. ولأن السماء التشيلية لا مثيل لها من حيث الرؤية الليلية، إذْ أنها تظل مكشوفة، ولأطْوَل مدة ممكنة بالنسبة لغيرها، ولأن النجوم، وهو يسميها «الكواكب»، تبدو في أكثر حالاتها إشعاعاً، وتسهل رؤيتها كثيراً. وبالطبع، لسلسلة جبال الآنديز، كما يقول، تأثير إيجابي في كل ذلك. الآن، بعد تمهيدات علمية ضرورية، كل واحد منا يقف أمام مجهره المجهَّز لرؤية ما في السماء، ونستمع إليه يشرح. يشرح لنا بشكل علمي ودقيق، مستعيناً بجهاز الليْزَرْ الضوئي الشديد القوة. منه يرسل الضوء نحو النجوم، فنرى الضوء يلتصق بالنجم المراد تعيينه، أو يحيط بمجموعة من الكواكب، والتكتلات النجمية. يشرح لنا الأصول، والحركات، والتبدلات، والاختلاطات. ونكتشف أن «المعرفة الشعرية» البائسة، التي هي معرفتنا، بأحوال الكون، ليست إلاّ جهلاً مفعماً بالتبجح والابتذال. هذه المعرفة المزعومة التي تدور حول الصِيَغ البلاغية والكلمات الخالية من كل جوهر، لا تعني، في الحقيقة، سوى إسقاط مفهوماتنا نحن على الكواكب والمجرات، وتَـلْبيسها عواطفنا وإخفاقاتنا، وكأنها «شيء مبتذل» نريد أن ندجِّنه بألْفاظنا. والحقيقة أننا نسبح في بحر هائل من الجهل بأحوالنا، أولاً، وبأحوال الكون الذي يحيط بنا، ثانياً، وأننا نحتاج إلى سنوات من الاهتمام والتتبع لندرك بعض خصائصها ومكوناتها.
يُرينا، بدقة ووضوح: مجموعة من الكواكب التي نعرفها من قبل (نعرف لفظ اسمها بالأحرى)، مثل الزهرة وعطارد والدب الأكبر والدب الأصغر، ودرب التبانة وكواكب أخرى نسمع بها ونراها لأول مرة. ونكتشف عبر المجهر العملاق الذي نسترق النظر منه إلى «السماء»، أن «الكون» أعقد مما نتصوّر بملايين المرات (وليس بكثير فقط. لأن الكلمات الأرضية لا علاقة لها بالفضاء الخارجي الذي يجهله البشر من أمثالنا).
يشرح الباحث في علم الفلك: «الكرة الأرضية، وهي تسمية دينية خالصة، والأفضل علمياً أن تدعى «الكوكب الأرضي» وحتى « الأرضي» هذه تثير الكثير من الاستفهام والشكوك. ولكننا لا نعرف، على الأرض حالياً، أفضل من هذه الصفة لتمييزها عن الكواكب الأخرى. المهم، يضيف، أن هذه التَسْمِيَة من تسميات القرون الوسطى، لأن الاعتقاد الذي كان سائداً، آنذاك، هو أن «الأرض مركز الكون»، وأن الرب خلق كل هذا الكوزموس من أجل الإنسان. ولهذا السبب لم تُدْرَس الأرض مثل غيرها من الكواكب».
أما اليوم، يتابع بعد أن يرد على بعض تساؤلاتنا، فقد تغيّرت هذه «الاعتبارات الدينية»، وحلّت محلها اعتبارات أكثر قرباً من الواقع، حتى لا نقول الحقيقة. ففي الكوزموس لا معنى لهذه الكلمة: الحقيقة. اليوم، تعتبر الأرض كوكباً غاية في الصِغَـر، بل هي أصغر كواكب المجموعة الشمسية، التي هي أصغر مجموعة كوكبية في الكوزموس. ويمكن أن نقارن المجموعة الشمسية، كلها، بحبة رمل في فضاء الكوزموس اللامتناهي». في هذه الأثناء يمر أمام أعيننا نجم مُذَنَّب، يهوي بسرعة في ما يمكن أن نسميه شعرياً: العدم. وعندما نسأله يجيب : «الضوء الذي تَرَوْنه، الآن، ليس نجماً، ولا هو يدل على نجم في الوقت الذي نراه فيه. إنه من مخلفات كوكب اندَثَر، أو «مات»، منذ عشرات الملايين من السنين، لكن الضوء وصل إلينا الآن. أي صرنا نبصره، للتَـو. هذا الضوء الساقط، كما تقولون، وهو لا يفعل، في الحقيقة، غير أن يدور في فضاء الكوزموس اللامتناهي، قد يكون مضى على انبثاقه، أكثر من 60 مليون سنة ضوئية، إذا اعتبرنا أن ذاك النجم الذي تَفَجَّر وتلاشى يقع على مستوى «عطارد» بالنسبة للأرض، مثلاً. وهذه المدة هي الزمن الذي استغرقه الضوء المنبثق لحظة موت النجم ليصل إلينا. أي أننا نرى، الآن، أثَرَ النجم بعد أن اختفى منذ أكثر من ستين مليون سنة ضوئية «مفهوم»؟ وأتذكّر أننا في «بادية الشام»، عندما كنا نرى النجم يهوى نصير نَتَرَحَّم على « أحدهم»، لأنه مات في هذه اللحظة، كما كنا نعتقد. وكثيراً ما يقولون عن فُلان: «سقَطَ نجمه» عندما يموت. ولأنه لا يستطيع أن يرى الدهشة التي تملأ عقولنا في الظلمة التي نحن فيها، يكمل حديثه ببساطة، وكأنه أمام طلبة في الصف الأول الابتدائي، مع أن الحضور أساتذة عالميون في الطب، ومن كبار الجراحين: «نحن لا نرى الأشياء، يقول، وإنما نرى الهالة الضوئية التي تحيط بها. لولا الضوء لما أحسسنا بوجود الأشياء، أصلاً. وهذه الهالة الضوئية، يتابع، تستغرق زمناً لتصل إلينا ولنحسها وسرعتها، طبعاً، هي سرعة الضوء. مثلاً إذا نظرنا إلى أحد قريب، أو بعيد عنا، فنحن لن نراه في الحال، وإنما بعد «زمن» قد يكون ثوانيَ، أو ملايين السنين الضوئية، بحسب بعده، أو قربه منا. أي أننا لا نرى إلا الماضي: ماضي الأشياء، وليس حاضرها. «الكواكب» التي نراها، أو نرى ضوءها اليوم، مثلاً، تكون أحياناً قد ماتت منذ ملايين، السنين «مفهوم».
بعد أن نعود إلى صفحة السماء التشيلية المتلألئة بنجومنا و كواكبنا التي ألفناها، وأقمنا معها علاقات عاطفية ساحرة، تبدأ أسئلة جديدة تتوارد. وتَـَتعَقَّد الشروح، أكثر فأكثر. وأسمعه يجيب: «ليس الكون، أو بلغته هو، الكوزموس، إلاّ مسافة وزمناً. والحَجْمُ، حجمُ الأشياء، هو الآخر، مسافة وزمن، لكنهما تجَسّدا في كتلة، هي كتلة الكوزموس. وهو ما سيجُرُّنا، إذا ما تبَنَّيْنا هذا المنظور، إلى القبول بلانهائية اللانهاية، أي لانهائية الكوزموس التي هي بالضبط نهايته اللاممكنة «مفهوم»؟
أكتشفُ جهلي وأخاف، أُدرك إلى أي حدّ ملأت الأكاذيب والأساطير «عقلي». وعلى الفور أضع الكلمة بين قوسين، لأن كل ما حُشِي فيه، في هذا العقل المسكين، قابل للنقض والرَدّ والتفنيد. لا شيء يصمد أمام الاكتشافات الحديثة، لا العلم القديم، ولا الأخلاق، ولا الاعتقادات. الآن، صرتُ أخشى أن ما اعتقدتُ به دوماً، لم يكن ما كنتُ أعتقد أنه هو، وأنني وأنا أكتب هذه الجملة يكون موضوعها قد مات. ولا بد أن هذا الرُعْبَ البشري العميق من اللاثبات هو الذي جعل التَمَسُّـكَ بشيء يُوهمنا بأنه ثابت (أو نوهم أنفسنا بأنه كذلك)، لا مفرَّ منه عند الكائنات البسيطة التي هي نحن، حتى ولو كنا فلاسفة،
ما هي الأفكار في هذه الحال؟ ما هي الميتافيزيقا؟ ما هي الفيزيقا، أصلاً؟ لَكَم أشعر، الآن بأن «راوياً» مثل هوميروس، مثلاً، هو وحده الذي كان على حق في «تَكَذُّبه» على التاريخ.
التاريخ ليس حقيقة، ولا هو واقعة، ولا حتى أسطورة، إنما هو اختلاق محض. اختلاق لواقع أو واقعة أو أسطورة لم يكن أيّ منها، أبداً، كما رُوِيَ، أو رُوِيَ عنه، ولا كما سيُرْوى، من بعد. ومع ذلك يستحق «كل ذلك» أن يُرْوى بهذا الشكل، أو بشكل آخر، وأن تعاد روايته بأشكال أخرى لامتناهية، على مثال الكوزموس. فكلما تعددت الروايات والاختلاقات، نقترب أكثر من حقيقة التاريخ، أو الوضْع الذي نريد أن نَلُمَّ به.
اكذُبوا، إذن، تقولوا الحقيقة.
٭ روائي سوري
القدس العربي