صفحات الرأي

البحث عن الخبر بعد نهايات الروايات/ سامر فرنجيّة

 

 

قد لا يحتاج الخبر إلى أكثر من كلمات معدودة لتلخيص مغزاه والموقف المطلوب من متلقّيه، وهذا بصرف النظر عن أفكار المثقف الأعزل أو سياق الجريمة أو حتى هوية المثقف والجهادي والدولة العربية. إنّه آخر فصل في رواية بات عمرها قروناً، يتصارع فيها «التنوير» و «الظلامية»، الأول متسلّحاً بالكلمة والثانية بالعنف. ومهما كانت الخلافات مع المثقف والمسافات التي تفصل بين المواقف السياسية، فهي تفصيل صغير أمام الهوة التي تفصل بين التنوير والظلامية، بين مَنْ يكتب ومَنْ يقتل، بين البشرية والبربرية. فالمثقف- الشهيد وريث لسلالة من المثقفين الذين سقطوا أو كادوا أن يسقطوا في ميدان المعركة ذاتها. قد نتخاصم حول كل شيء، لكن ليس حول حرية التعبير وهي الشرط الأساسي لوجود الكتابة. بيد أنّ هذه الرواية لم تعد تقنع، وهذا بعدما مرّ عليها قرن من جرائم «التنوير» على يد الأنظمة «التقدّمية» أو «العلمانية»، التي أسقطت عدداً من الشهداء يفوق ما أوقعته جدلية التنوير والظلامية. وهذه الجرائم مستمرة في سورية حيث «سورية المفيدة والتنويرية» تبيد «سورية الظلامية»، بعدما أطاحت «مصر الحداثة» آلافاً من «الظلاميين» باسم التنوير. والمثقف- الشهيد الأخير لم يكن بعيداً من تنظير هذه الأفعال، وقد يكون أحد مَنْ قدّموا لها هندستها الفكرية.

نستدرك بأن ربطاً كهذا قد يكون نوعاً من التبرير للقتل، فنعود إلى صياغة الخبر. جهادي يقتل مثقفاً أعزل أمام قصر العدل في دولة عربية.

ننسى بعض الشيء هوية الضحية كمثقف لنركز غضبنا على القاتل، وهو امتداد لخطر يدهم المنطقة ككل، إن لم يكن العالم بأكمله. نضع جانباً الضحية وننكبّ على هذه البنية القامعة والقاتلة، التي تمهّد وتحضّر وتبرّر هذا القتل المجنون. في وجه هذا الخطر، لا مكان للسياسة والاختلاف والتخاصم. إنّها المعركة التي لا يعلو فوقها أي صوت. هوية الضحية تفصيل يعكّر وضوح القضية، ومكان الجريمة غير مهم. إنّه «الخطر الإسلامي» الذي لا مفر من مواجهته، بمساعدة أي حليف. نستنكر ثم نستدرك بأن هذا العدو ليس وحيداً في الساحة، وفي وجهه أنظمة تقتل وتبيد، يراد منا أن ندعمها في هذه المعركة.

نعود إلى الخبر لإعادة صياغته علّ الصياغة الجديدة تلتقط جوانب الحدث كافة.

أمام قصر عدل، قتل جهادي مثقفاً أعزل.

القمع والاستبداد يولدان التطرُّف، والتطرف يؤدي إلى عنف والعنف يعيد إنتاج القمع والاستبداد. والمثقفون أول من يسقط ضحية هذه الدوامة العبثية. فالعدو ليس واحداً، لكنّه يُوحِّد ضحاياه في معركة ضد هذا الواقع الدموي المولِّد حروباً أهلية بلا نهاية. هوية الضحية ليست مهمة، الفاعل هو الأساس، هذا الثنائي الذي حكم المنطقة منذ أكثر من نصف قرن. نحضّر تاريخاً جديداً للخبر، ومن ثم نتذكّر أن الضحية لم يكن خارج هذه الدوامة، بل كان أساسياً في الترويج لطرف من هذا الثنائي، وقد يكون أبشع ممثل لهذا الطرف.

نحاول وضع هذه الكتابات جانباً، ونفشل، فنعود إلى الخبر لتجريده من أي مؤشر عيني، باحثين في التجريد عن كثافة الحدث.

مثقف أعزل قُتِل نتيجة أفكاره.

القاتل ليس كافياً، نعود إلى الضحية، والى أفكاره، أو بكلام أدق، إلى كونه يتعاطى الأفكار وليس العنف، وهذا بصرف النظر عن مضمون هذه الأفكار. فالعنف مهما كان مصدره قاتل للأفكار، بالتالي لأي مفهوم للسياسة خارج الحرب. للأفكار حصانة، قد لا تتوافر لأي ممارسة أخرى، وهذا لكونها شرطاً لإمكان الحياة في مجتمع تنظّم فيه الخلافات بطريقة سلمية. الاستنكار بهذا المعنى نوع من التضامن مع النفس أو دفاع عن إمكان الوجود. فبصرف النظر عن القاتل والمقتول، الضحية الفعلية هي الفكرة.

بيد أنّ المثقف لم يعد الوكيل الحصري للفكــرة. آلاف العرب الذين تظاهروا من أجل حياة كريمـــة وقتلوا من أجلها، هم شهداء أفكارهم وإن لم يكتبوها. من رفض ترك مدينته ومات تحت القصف، أو مـــن رفض الخضوع للأنظمة وتـــوفي تحــــت التعذيب، هو أيضاً شهيد أفكاره. يمكن إذاً اعتــــبار الجميـــع مثقفين، وشهداء للفكرة وإن لم يصيغوا مقالاً واحداً في حياتهم.

رجل أعزل قُتِل.

نضع جدلية التنوير والظلامية جانباً ونتناسى هوية القاتل والمقتول، لنركز على الفعل ذاته، باحثين في أعماق الإنسانية عن مشترك يمكن أن يتخطى الخلافات السياسية والروايات القديمة، وأن يؤسس لقاعدة متينة للتضامن. نجده في العنف، أو في رفض العنف كحد أدنى للتشارك في إنسانية ما، رفض للعنف كمقدمة لعقد إنساني ما قبل سياسي. فمهما كانت الاختلافات والانقسامات والخصومة، تبقى الحقيقة المرّة أن هناك إنساناً لم يعد، إنساناً بكامل تعقيداته وعلاقاته، إنساناً سيفقده آخرون قد لا يكترثون لوجهه السياسي المحض. هذا العنف مرفوض، أو يجب أن يرفضه الطامحون إلى إنسانية الحد- الأدنى، حتى، أو بخاصة عندما يطاول هذا العنف الخصم، وإن كانوا من الطغاة الذين يبيدون شعبهم. لم يكن مثقفاً الذي سقط شهيداً، بل إنسان، وهذا تلخيص أدقّ للقصة، لا يحتاج إلى أي رواية إضافية لتفسيره أو تبريره.

بيد أنّ طاقتنا على التضامن والإنسانية استنفدت نتيجة استعمالها المفرط في السنوات الأخيرة. ففي البحث عن المستوى الصفر من التشابه، بات الشهيد واحداً من بين مئات آلاف سقطوا في السنوات الأخيرة، ومنهم من لا يزال يسقط. مَنْ «تضامن» مع هذا العدد من القتلى لم تعد لديه طاقة للاستمرار. قُتِل رجل أعزل، وقبلها بدقائق قُتِل تسعون ضحية ومن بعدها على الأرجح سيسقط مئات آخرون.

قُتِل.

قد لا يبقى إلا الفعل بصيغة المجهول، وتعايشنا معه. الحرب قضت على الروايات التي توحدنا وتقسمنا، فنتعايش مع هذا الفعل بلا تبرير أو تضامن، كفعل لا مهرب منه سيطاول البعيدين ومن ثم القريبين. فنبتعد من الجميع لنحمي أنفسنا من عملية الرثاء المقبلة. كان من السذاجة اعتبار أن الحرب لن تطاولنا إن بقي القتال بعيداً. نبتعد وننتظر أن يعود مَنْ يعتقد أنه قادر على تطويع هذا الفعل لمشاريعه وأفكاره، متمنين أن يعود إلى صوابه قبل أن يطاوله الفعل.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى